هناك جدل واسع النطاق بين الدارسين حول التحول الديموقراطي، فالبعض يقول أن الاتجاه نحو الديموقراطية يعتمد على وجود شروط اجتماعية واقتصادية وثقافية معينة داخل المجتمع، وإن كان هناك اختلاف معتبر حول ماهية هذه الشروط.

بينما يرى البعض الآخر أن التحول الديموقراطي هو بالأساس صنيع القيادة السياسية .ففى هذا السياق سيقوم الباحث بتناول العوامل التي تؤدى إلى التحول الديمقراطي، خاصة وانه عملية معقدة ومتشابكة الجوانب والابعاد، وعلى أية حالة، يمكن تقسيم التحول الديموقراطي إلى مجموعتين: عوامل داخلية، وأخرى خارجية.

يعد العامل الاقتصادي من العوامل ذات الأهمية في أي تحول سياسي، فالعلاقة بين الاقتصاد والسياسة هي علاقة ترابط وتداخل، وإن ظلت مثار جدل وخلاف. فبينما تتفق المدارس الفكر المادية على أن العوامل الاقتصادية تحدد شكل المؤسسات السياسية من حيث الهيكل والوظيفة وأن التغير في تلك العوامل من موارد أساسية، وأساليب إنتاج، وطرق توزيع للدخل يتبعه تغير في وظائف وسياسات المؤسسات السياسية.

وقد اثبت تطور المجتمعات والنظم الاقتصادية اهمية العامل الاقتصادي وأسبقيته على السياسة، بدليل أن تدخل الحكومات بما فيها حكومات النظم الليبرالية الغربية ازداد شيئاً فشيئاً في النشاط الاقتصادي بداية من الأزمة الاقتصادية 1930، وأيضاً في مواجهة ظاهرة التضخم الركودي في أوائل السبعينيات من القرن الماضي.

أما من حيث العلاقة بين التنمية الاقتصادية والتحول الديموقراطي، فقد أشار “هنتنجتون” إلى أسبقية التنمية الاقتصادية لإمكانية الوصول إلى الديموقراطية، واشترط “بارنجتون مور” وجود طبقة برجوازية لوجود الديموقراطية، في حين أن “فوكوياما” ينظر إلى الديموقراطية على أنها عملية سياسية غير مرتبطة بالاقتصاد، مستنداً في ذلك إلى تجربة النمور الآسيوية التي حققت معدلات تنمية اقتصادية عالية، في حين أنها لم تشهد إصلاحات سياسية ديموقراطية إلا في مرحلة لاحقة لعملية التنمية الاقتصادية .

لقد قدم “هنتجتون” تصوراً شاملاً عن كيف أن التنمية الاقتصادية تساعد الدولة على التحول الديموقراطي حيث يقول: ” إن عمليات التنمية الاقتصادية التي تشمل تحولاً صناعياً معتبراً تؤدي إلى اقتصاد جديد، وبنية أكثر تنوعاً وتعقداً وترابطاً، يصعب على النظم السلطوية أن تسيطر عليه. كما تخلق التنمية مصادر جديدة للثروة والقوة خارج بنية الدولة، وحاجة وظيفية إلى نقل صناعة القرار”.

يبدو أن التنمية الاقتصادية عززت التغيير في الهيكل الاجتماعي والقيم التي تشجع التحول الديموقراطي، وإذا كانت التنمية الاقتصادية تساعد على دفع التحول الديموقراطي من خلال تدعيم نمو الطبقة المتوسطة، فإن “سيمور ليبسيت” كان من الرواد الذين ربطوا الرأس مالية والتنمية الاقتصادية الناتجة عنها بالديموقراطية.

فحسب ما يرى “ليبست”، تمثل الرأسمالية قلب الديموقراطية لأنها أنتجت الثروة وأدت إلى وجود طبقة متوسطة متعلمة وأنتجت عدداً من التغيرات الثقافية المواتية للديموقراطية، مثل تحقيق المزيد من العلمانية، وحدوث تآكل في الهويات التحتية.

ويذكر ” ليبسيت ” أن الرأسمالية قللت من صراع الطبقات: فالتنمية الاقتصادية التي تعني دخلاً أكبر ومزيداً من الأمن الاقتصادي وتعليماً أعلى، تسمح لأبناء الشرائح الدنيا تطوير منظور أطول أمداً وأكثر تعقداً وآراء تدرجية عن السياسة.

كما أن زيادة الثروة والتعليم تخدم الديموقراطية من خلال زيادة مدى تعرضهم لضغوط فئات أخرى من شأنها أن تقلل التزامهم بأيديولوجيات جاهزة وتجعلهم أقل استعدادا لدعم تلك المتطرفة منها. إن زيادة الثروة لا ترتبط سببياً فقط بالديموقراطية من خلال تغيير الظروف الاجتماعية للعمال، بل تؤثر أيضاً على الدور السياسي للطبقة المتوسطة من خلال تغيير البناء الطبقي بحيث يتحول من هرم ذي قاعدة عريضة من الطبقة الدنيا، إلى طبقة متوسطة عريضة.

لقد انتقد البعض نظريات “ليبسيت” على أساس أنها تفترض أن الرأسمالية سوف تحد أو تقلل من الصراع بين الطبقات. واستفاد النقد من أطروحات “كارل ماركس” وأنصاره من الاشتراكيين من المنطق القائل بأن الرأسمالية تزيد من تهميش بعض الطبقات التي تزداد فقراً.

وبالتالي تتحول، متى توافرت لها الظروف المناسبة، إلى الثورة على أصحاب الثروة في المجتمع لتبدأ مرحلة جديدة من مراحل التطور التاريخي. لا أن وجود الطبقة المتوسطة العريضة سواء كان نتاجاً للرأسمالية في حد ذاتها أو كان نتاجاً للتنمية الاقتصادية بمعنى عدالة التوزيع وإرتفاع متوسط دخل الفرد وإنخفاض معدلات التضخم والبطالة بعيداً عن تبني النموذج الرأسمالي، يعد أحد الشروط التي ارتبطت فعلاً باستقرار الممارسة الديموقراطية في الكثير من البلاد.

وفي المقابل، هناك اتجاه يرى أن العلاقة بين التنمية الاقتصادية والديموقراطية هي علاقة سلبية. ففي عرف البعض، ثمة ما يدعو للإعتقاد بأن التنمية هي عدو الديموقراطية، لأنها تجذب الاهتمام بعيداً عن الأهداف السياسية، بما في ذلك حقوق الإنسان من أجل التركيز على الأهداف الاقتصادية .

وفى هذا السياق، فان انشغال النخبة السياسية بعملية التنمية الاقتصادية يكون على حساب حقوق الإنسان. غير أن عملية التنمية الاقتصادية، في هذه الحالة، تكون معيبة. بل، إنها لا تعتبر تنمية من الأساس. إذ أن التنمية الاقتصادية لا تنحصر في ارتفاع معدلات الناتج القومي المحلي، بل تتعداه إلى كفاءة أكبر في توزيع الدخل، انخفاض في معدلات التضخم والبطالة، الأمر الذي من شأنه أن يحسن احترام حقوق الإنسان. كما أن انتشار التعليم ونمو الطبقة المتوسطة يوفران القاعدة الضرورية من أجل استمرار الممارسة الديموقراطية.

خلاصة القول، ثمة إختلاف يعتد به بين الدارسين للعلاقة بين التنمية الاقتصادية والتحول الديموقراطي. فبينما رأى البعض أن التنمية الاقتصادية تدفع إلى التحول الديموقراطي، رأى فريق آخر عدم وجود علاقة بينهما، وذهب فريق ثالث إلى أن العلاقة سلبية، أي أن الدول التي تشهد تنمية اقتصادية تضحي بالديموقراطية.

ويرى الباحث أن الحالة الوحيدة التي تؤثر فيها التنمية الاقتصادية سلباً على التحول الديموقراطي هي تلك التي تكون فيها التنمية شديدة المركزية. حيث تضع الدولة ضوابط ومعايير من خلال التشريع لمنع القوى الاقتصادية الجديدة من تحدي سلطتها أو مشاركتها في عمليات صنع القرار.

وفي هذه الحالة، تحقق الدولة نمو دون تنمية. بمعنى أن الدولة قد تحقق معدلات أعلى من الناتج القومي المحلي، خفضاً في نسبة الديون الخارجية، وربما أيضاً في معدل التضخم والبطالة، إلا أنها تفشل في تحقيق مستويات عالية من كفاءة توزيع الدخل أو رفع متوسط نصيب الفرد من الناتج القومي المحلي أو غيره.

وفي حالة حدوث التنمية الاقتصادية في ظل هذا الإطار السلطوي، فإن الدولة لا تستطيع الاستمرار في السيطرة على مجريات الأمور، إذ بعد مرحلة معينة من بداية التنمية الاقتصادية، يتعقد الاقتصاد وتتعدد القوى الاقتصادية ويدخل أصحاب رأس المال بصورة أو بأخرى إلى مؤسسات صنع القرار في الدولة، سواء كان البرلمان أو الحكومة.

أبو زيد عادل القاضي

_______________

المصدر: التعددية الحزبية وأنماط التحول الديمقراطي

مقالات مشابهة