سالم الكبتي
بدأت الانتخابات في برقة كما جرت تماما في الولايتين طرابلس وفزان في اليوم التاسع عشر من فبراير 1952. وجرت في المناطق الانتخابية الحضرية والريفية. وكان السيد عبدالله أحمد بالعون مدير عام الداخلية في برقة مراقبا عاما للانتخابات وقام بمتابعة مايتصل بها في تلك المناطق عن طريق مساعديه وقد أعد في اليوم الثالث والعشرين من فبراير تقريرا مفصلا وأرسله إلى ناظر الداخلية في الولاية السيد حسين مازق. وفي أول التقرير أشار السيد بالعون بأن الانتخابات النيابية انتهت بصورة تدعو إلى البهجة والسرور من حيث النظام والسكينة والهدوء وعدم وقوع مشاغبات أو قلاقل خلالها وطلب دراستها وإحالتها إلى الجهات المختصة في الدولة (الديوان الملكي. الولاية. الحكومة) لتنال العناية التي تستحقها عندما يشرع في وضع قوانين انتخابية في المستقبل لفائدتها في سير الانتخابات على الوجه المطلوب.
وكان هناك ضيق في الوقت المحدد للتسجيل من قبل الناخبين فقد حصل بعض الارتباك في ذلك لأن إعلان وزير العدل في الحكومة الاتحادية الخاص بالشروع في عملية التسجيل صدر قبل الإعلان المتعلق بالكيفية التي يتم بها توزيع الدوائر الأنتخابية. وفي الواقع لم يكن ذلك إرباكا كبيرا فقد زار بنغازي في تلك الفترة رئيس الحكومة الاتحادية وعند علمه بالأمر أبرق إلى طرابلس بمد فترة التسجيل أسبوعا آخر وقد تم ذلك فعلا واستعملت هنا بطاقات تعرف ببطاقة التسجيل وفضلا عن اعتبارها إيصالا عن الطلب للناخب فإنها سهلت في الوقت نفسه إيجاد اسم الناخب في السجل يوم التصويت ودلت التجارب على أن مثل هذه البطاقة ضرورية ومفيدة للغاية واقترح التقرير أن ينص عليها في القوانين الانتخابية التي توضع في المستقبل. ولاحظ المراقب أنه أثناء جولته في مختلف المناطق الانتخابية لاحظ أن أسماء كثير من الناخبين كانت مكررة في أكثر من مركز اقتراع داخل نطاق الدائرة الانتخابية وعند التحريات من جانبه للوقوف على حقيقة الأمر اتضح له أن ماحدث كان بحسن نية واكتفى بشطب الأسماء المكررة فقط وأكد في تقريره على أن مثل هذا العمل تترتب عليه نتائج وخيمة قد تؤثر على نتيجة الانتخابات. فقد تقرر استعمال تركيب كيماوي يوضع على أصابع الناخبين بعد إعطاء أصواتهم مباشرة للحيلولة دون تصويتهم مرة أخرى ولوضع حد لأي تلاعب. وفي الواقع فإن هذا الإجراء الجديد قوبل بارتياح من مشائخ القبائل ورؤسائها. كما نبه إلى أن الموطن الأصلي في هذه الإجراءات للناخب هو المحل الذي ولد فيه وليس والديه أو أجداده.
وفي مرحلة الطعن ضد الناخبين التي تمت بعرض سجلاتهم على الجمهور للاطلاع والتوكيد لمدة إسبوعين اعتبارا من 31 ديسمبر 1951 إلى 13 يناير 1952 أشير في التقرير إلى أن جميع الاعتراضات التي قدمت فصلت فيها اللجان المعينة لهذا الغرض بصورة مرضية وكانت قراراتها نهائية وغير قابلة للاستئناف.
وأعقبت هذه المرحلة مرحلة أخرى هي مرحلة الترشيح التي ابتدأت يوم 15 يناير 1952 وانتهت ظهر يوم 29 منه وقد انسحب من هذه المرحلة ثلاثة من المتقدمين وهم :1. أحمد رفيق المهدوي. 2. سعيد جربوع. 3.ونيس البرغثي.
أحمد رفيق شاعر الوطن (الذي سبق له الترشيح في مجلس نواب برقة في يونيو 1950 ولم يفز.. لم توفق القبيلة في ذلك أمام منافسه فخسر الجولة) والذي هتف بالقول:
حكم ضميرك أنت حر وانتخب … خير الرجال لمجلس النواب
لايمنعنك من أداء شهادة … حب القبيلة أو هوى الأحزاب
انسحب من هذه الانتخابات بعد فوات المدة القانونية مع فقده للتأمين الذي دفعه وقد وقع تعهدا بذلك. واحتراما لتاريخه الوطني عينه الملك في أول مجلس للشيوخ في مطلع مارس 1952. فيما تنازل الثاني لمنافسه عن دائرة المرج بمحض إرادته واختياره. وقد وقع هو الآخر تعهدا وفقا للإجراءات المتبعة. أما الثالث فكان قد طُعن في ترشحه واعتبر باطلا وسيرد ذلك بالتفصيل في مرحلة الطعن ضد المترشحين. وفي الواقع فإن قانون الانتخابات الذي تم العمل به نص على أنه يجوز للمترشح في المناطق الحضرية أن ينسحب قبل الساعة الواحدة ظهر يوم الترشيح لا بعدها كما يجوز للمترشح في المناطق الريفية أن يسحب ترشيحه داخل خمسة أيام من ظهر يوم الترشيح على الرغم من صراحة القانون في هذا السياق بأنه لا يفرض على المترشح أن يستمر في ترشيحه رغم رغبته.
وحلا لهذه الإشكالية والالتباس اقترح السيد بالعون أن يكون للمترشح على حد سواء في المناطق الحضرية أو الريفية حق الانسحاب داخل ثمانية وأربعين ساعة من ظهر يوم الترشيح ويسترد تأمينه ويجوز له أيضا أن ينسحب بعد مضي هذه المدة وقبل يوم التصويت، على أنه في هذه الحالة يفقد التأمين الذي دفعه.
توالت المراحل بدقة ومتابعة ووصلت إلى مرحلة الطعن ضد المترشحين وقد حدث أن تقدم المترشح صالح مسعود بويصير ضد منافسه الحاج ونيس البرغثي بدائرة توكرة الانتخابية التي استلمت لجنتها هذا الاعتراض أو الطعن واتخذت قرارا وقعه أعضاؤها وهم السادة: عبد المجيد إدريس وإبراهيم الغماري وحسين الوسيع. وذكرت اللجنة أنها اطلعت على نصوص قانون الانتخاب التي تفيد (أن المترشح الذي يتقاضى راتبا شهريا من الحكومة يبطل ترشيحه إن لم يستقل فورا) ورأت أن المترشح المطعون فيه السيد البرغثي تقدم يوم 20 يناير 1952 للترشيح لعضوية مجلس النواب ثم استقال في اليوم التاسع والعشرين من الشهر وفقا لخطاب متصرفية بنغازي. ولهذه الأسباب ثبت للجنة بطلان ترشيح السيد البرغثي وأن المترشح الوحيد قانونيا بالدائرة هو السيد بويصير المسجل بدريانة. كما أشار المراقب العام على السيد البرغثي أثناء مقابلته له بأنه إذا كانت لديه أية شكاية أو اعتراض على قرار اللجنة عليه أن يقدمه إلى مجلس النواب مباشرة خلال العشرة أيام التالية لانعقاد المجلس طبقا لأحكام المادة 63 من القانون. وهو ما حدث لاحقا كذلك لمترشحين آخرين من بينهم السيدان أحمد عقيلة الكزة وعلي نورالدين العنيزي في دائرة سلوق.
ففي مرحلة إحصاء الأصوات في الدائرة المشار إليها اتضح أن السيد العنيزي نال 1612 صوتا بينما نال السيد الكزة 1610 صوتا وبناء على ذلك تقدم وكيله باعتراض مفاده أن هناك ثلاثة أشخاص كانوا قد صوتوا للسيد علي العنيزي بمركز اقتراع جردينة غير أنه بعد أن سجلوا أصواتهم وغادروا المركز المذكور اشتبه فيهم أحد وكلاء السيد الكزة وقدمهم للبوليس وعند التحقيق الذي جرى حول الواقعة اتضح أنهم قد صوتوا بأسماء أشخاص آخرين ودونت لجنة الطعن محضرا بذلك وأحالته إلى البوليس الذي قبض على المتهمين في الحين ولم يمض طويل وقت حتى اعترف هؤلاء الأشخاص بجريمتهم، كما يقول التقرير الذي أشار أيضا إلى أنه على الرغم من أن لجنة الطعن ثبت لها أنهم كانوا قد صوتوا بأسماء وهمية لم تعمل على شطب أسمائهم من السجل ولم يطلب وكيل المترشح شطبهم في الحين ولذلك ظلت الأسماء موجودة في السجل كأصوات أعطيت للسيد علي العنيزي. ولهذه الأسباب طلب وكيل السيد الكزة حذف ثلاثة أشخاص من مجموع الأصوات التي نالها السيد العنيزي كي يفوز موكله بعضوية مجلس النواب. وعلى أثر ذلك طلب من ضابط مركز بوليس القرى إبراز ملفات القضايا وقد اتضح منها أن هذا الاعتراض يبدو أنه على جانب من الصحة ومن ثم أجل إعلان النتيجة لليوم التالي. وانتهى الأمر إلى أن اعتراض وكيل السيد الكزة. تم بعد فرز الأصوات وكان من المفترض قانونا أن يتم قبل البت في صحة عملية الانتخاب على ضوء ماورد في التقرير وعلى ذلك تقرر إعلان النتيجة على علاتها بفوز السيد العنيزي. وقد تم ذلك فعلا. هذه الإشكالية مرت دون أن تحصل في دوائر أخرى في ذلك الموسم من الانتخابات. انتهت الانتخابات وأعلن عن أسماء الفائزين بعضوية أول برلمان ليبي بعد الاستقلال الذي تم افتتاحه في بنغازي في اليوم الخامس والعشرين من مارس 1952 والذي مهد لاحقا لإجراء انتخابات على المستوى الولايات الثلاث في عامي 1952و1953 لاختيار المجالس التشريعية والبلدية وتم صدور القوانين الأساسية لكل ولاية (بمثابة دستور خاص بها لا يخالف دستور الدولة ويخضع له).
.. فمن فاز في الانتخابات النيابية ومن عين في أول مجلس للشيوخ.
انتهت الانتخابات الأولى لأول برلمان بعد الاستقلال في التاسع عشر من فبراير 1952. لكن ثمة اقتراعات جديدة جرت في دوائر معينة حدثت فيها بعض التجاوزات أو المشاكل والصدام مع رجال البوليس بين مرشحي وأنصار حزب المؤتمر ومرشحي الحكومة.. جرت يوم 5 مارس 1952 وفقا للأمر الصادر من مراقب عام الانتخابات في ليبيا الشيخ محمود المسلاتي وطبقا للمادة (62) من قانون الانتخاب الصادر عن الجمعية الوطنية التأسيسية في السادس من نوفمبر 1951 والتي تحمل عنوان (الأخطاء في الانتخاب) ونصت على الأتي: (إذا وقع اختلاف أو إخلال أثناء عملية الانتخاب وقبل الفرز مما يؤثر على نتيجة الانتخاب بحسب رأي مأمور الانتخاب ولجنته وجب عليهم أن يحققوا في الأمر وبعد البت في ذلك يرفع المأمور تقريرا إلى المراقب العام الذي عليه أن يبت في صحة عملية الانتخاب أو بطلانها وفي حالة البطلان يأمر بإجراء انتخاب جديد ويكون قراره في ذلك نهائيا).
في اليوم السادس من مارس أعلنت النتائج الأخيرة بفوز المرشحين في كافة المدن والمناطق الحضرية والريفية لعضوية مجلس النواب وبانتخابهم انتخابا قانونيا وهم:
- نواب ولاية طرابلس (35 عضوا) .. عبدالعزيز الزقلعي – عبدالرحمن القلهود – مصطفى ميزران – مصطفى السراج – محمد الزقعار- محمد الشعاب – سعيد العربي – محمد سيف النصر – صالح بن رابحة – باكير طريش – إبراهيم بن شعبان – كمال فرحات – المنير العروسي – أنور بن غرسه – السني اللالي – مفتاح عريقيب – حسين الفقي – مصطفى المنتصر – مصطفى عزيز – محمود البحباح – علي بن سليم – المهدي بريش- أبوبكر نعامة – عبدالله بن عبدالصمد -علي بن أبوبكر النعاس – علي تامر -عبدالقادر المنتصر – نورالدين الورفلي -عبدالمجيد كعبار – عبدالله السحيري – علي بن سالم – سليمان بن سعيد – يحي بن مسعود – إسماعيل بن الأمين
- نواب ولاية برقة (15عضوا).. عبدالسلام بسيكري- رمضان الكيخيا – خليل القلال – عبدالرازق شقلوف – ميلود عبدالله بوالخنه – مراجع الرخ – خليفة عبدالقادر – محمد بريدان – القذافي سعد – علي نورالدين العنيز- صالح بويصي- عبدالقادر البدري – محمود بوشريد- الكيلاني الضريريط – سعد جارالله (لم يستمر منذ البداية في العضوية لإصابته بعارض صحي طاريء)
- نواب ولاية فزان (5أعضاء)..منصور بن محمد- الطاهر العالم – سالم بن حسن – محمد علي شلقم- السنوسي حمادي.
نص الدستور الليبي في مادته (94) على أن مجلس الشيوخ يؤلف من أربعة وعشرين عضوا ويكون لكل من ولايات المملكة الليبية الثلاث ثمانية أعضاء. وفي مادته (95) نص على أن الملك يعين نصف أعضائه وتقوم مجالس الولايات التشريعية بانتخاب الباقيين. وفي المادة (97) أشار إلى أن الملك يعين رئيس مجلس الشيوخ وفي المادة (105) قضى بأن ينتخب مجلس النواب رئيسا له.
وبالنظر إلى أن المجالس التشريعية لم تنتخب في الولايات ولم تصدر القوانين الأساسية لها فقد عين أعضاء مجلس الشيوخ من قبل الملك مباشرة وبالتشاور مع الولاة الذين رشحوا مجموعة من الأسماء للعضوية وأسفر التعيين عن عضوية السادة.. عبدالحميد العبار- ياسين المبري – أحمد رفيق المهدو- عوض خليفة لنقي – عبدالجواد الفريطي- السنوسي الأطيوش – خليل العريضة – محمد المنصوري – علي القره مانلل- حسين عبدالملك – راسم كعبار – طاهر الأزهري – صالح خربيش – خليل ناصوف – محمد شليد – المبروك عريبي- أبوبكر أحمد – محمد بن عمر – الشريف علي بن محمد – أبوالقاسم بادي – سالم سيف النصر – علي عبدالله القطرون – سالم المنتصر – وعين السيد عمر منصور الكيخيا رئيسا للمجلس.
افتتح الملك أول جلسة للبرلمان الذي كون مجلس الأمة (الشيوخ والنواب) يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من مارس 1954. وقد أدى الملك القسم الدستوري أمام البرلمان الوليد وفقا للمادة (47) من الدستور الذي نصه.. (أقسم بالله العظيم أن أحترم دستور البلاد وقوانينها وأن أبذل كل مالدي من قوة للمحافظة على استقلال ليبيا والدفاع عن سلامة أراضيها). واستمع مع المجلس الجديد وهو جالس على كرسي العرش الذي صنع خصيصا في فرنسا على الطراز النابليوني إلى رئيس حكومته الأولى السيد محمود المنتصر وهو يلقي أمامه أول خطاب للعرش بحضور رجال الدولة والسفراء والضيوف الأجانب. وقد عرض فيه إلى طموحات الدولة ومساعي الحكومة في عزمها على تحقيق الأنظمة الإدارية والقانونية والنهوض بالتعليم والصحة وإزالة مخلفات الحرب وتوالي الجهود للحصول على المساعدات من الأمم المتحدة والدول الواعدة بتلك المساعدة وبناء الجيش الوطني….. وغير ذلك من مشاريع. فيما أدى أعضاء البرلمان نوابا وشيوخا بعد انتهاء الافتتاح القسم الدستوري وهو.. (أقسم بالله العظيم أن أكون مخلصا للوطن والملك ومحترما للدستور ولقوانين البلاد وأن أؤدي أعمالي بالأمانة والصدق). وانتخب مجلس النواب السيد عبدالمجيد كعبار أول رئيس له.
والثابت أن البرلمان عمل منذ بداية افتتاحه على تنظيم أموره وتكوين إداراته وشعبه ولجانه المختلفة المختلفة واستفاد فائدة كبيرة من أنظمة ولوائح بعض البرلمانات العربية وفي مقدمتها مصر التي أبرق رئيس مجلس شيوخها علي زكي العرابي مهنئا الليبيين بافتتاح برلمانهم الأول متمنيا أن يكون فاتحة عهدا جديد حافل بأسباب الخير والتقدم لشعب ليبيا الشقيق. ولم يحدث ذلك من مجلس النواب في القاهرة لأنه كان منحلا في تلك الأيام.
الولايات المتحدة أرسل كل من رئيسي مجلسي الشيوخ والنواب (الكونغرس) مطارق لتنظيم الجلسات وضبطها لنظيريهما الليبيين.
السيد هنري سيرانو فيلار الذي كان أول سفير أمريكي في ليبيا بعد الاستقلال قام شخصيا بتقديم تلك المطارق إلى السيدين الكيخيا وكعبار. وقد قال في مذكراته التي أصدرها لاحقا عن البرلمان الجديد.. (على خلفية خط أفق مدينة بنغازي المتشظي وفي فصل الربيع المشرق من 1952 كانت ترفرف راية غير معتادة في سماء الرايات الوطنية. نجمة وهلال على خلفية من الخطوط الحمراء والسوداء والخضراء. لقد أعلنت راية ليبيا عن ميلاد هيئة ديمقراطية جديدة. إن هذا البرلمان حقق تقدما مذهلا حالما ترك وحده في تعلم قوانين اللعبة وتمكن نواب الشعب المنتخبين في حينه من تحصيل المهارة بالممارسة ومن خلال مايتمتعون به من حس بالقيادة السياسية سرعان ما سيطر هؤلاء النواب على المناقشات في مجلس النواب لأن موهبة الخطابة لدى بعض المتحدثين العرب شئ جميل وسرعان ما وجد أعضاء مجلس الوزراء أنهم كانوا مسؤولين أمام الشعب وعليهم أن يتحملوا مسؤولية أعمالهم. لقد استخدمت النقاط التنظيمية وجدولة المداخلات وأعمال اللجان بشكل مقبول على حين أفسحت الخطوات المترنحة خطوات أكثر رشاقة وتقنيات أفضل وزيادة تدريجية في درجة الإنجاز) مذكرات السفير. المملكة العربية الجديدة في شمال أفريقيا. ترجمة عثمان المثلوتي. دار المدى للخدمات الإعلامية طرابلس 2013
دامت الدورة الأولى للبرلمان خمسة أشهر حتى أغسطس 1952 بذل فيها أعضاؤه جهودا في منتهى الوطنية والإخلاص كما بدت للمراقبين. فقد أصدر خلالها قانون الميزانية العامة للدولة التي كانت تعيش على المساعدات عن العام 1952 – 1953 بمبلغ قدره مليونان وتسعمائة وخمسة وثمانون ألف ومائة وثلاثة عشر جنيها، وعلى ضوئها أقر في جلسته المنعقدة بطرابلس يوم 19مايو 1952 قانونا بشأن مرتبات الوزراء ومكافآت أعضاء مجلس الأمة وكانت كالآتي:
رئيس الوزراء مرتبه السنوي 2000 جنيه وكل وزير يكون مرتبه السنوي 1600 جنيه بينما حددت مكافآت رئيسي مجلسي الشيوخ والنواب سنويا بمبلغ قدره 1600 جنيه تضاف إليها علاوة السكن قدرها 160 جنيها إلى أن تهيأ لهم محلات للسكن من الدولة ويتقاضى كل عضو بالمجلسين شيخا أو نائبا مكافأة سنوية قدرها 720 جنيها من غير أولئك الأعضاء الذين يتقاضون مرتبات أو مكافآت. وأصدر خلال هذه الدورة قانون شعار المملكة الليبية المتحدة وقانون اللغة العربية وفقا للمادة 186 من الدستور وقد تقدم باقتراح إصداره الوزير في الحكومة الأولى وعضو المجلس السيد إبراهيم بن شعبان من أمازيغ زوارة وقانون المحاماة وقانون استثمار الثروات المائية وقانون حيازة الأجانب للأملاك غير المنقولة في ليبيا وقانون توفير التعليم في ليبيا وقانون تحديد السنة المالية للدولة. تمت هذه القوانين بالمناقشة والمداولة وقام الملك بعدها بالمصادقة على مجملها وكانت بداية المشوار لبناء الدولة على أسس صائبة في ليبيا.. ثم صدرت القوانين الأساسية للولايات وصار لها مجالس تنفيذية (مجلس وزراء محلي) ومجالس تشريعية (برلمان محلي).. فماذا حدث بشأنها استكمالا لخطوات التجربة والحياة البرلمانية في ليبيا.
كان الدستور الليبي الصادر في السابع من إكتوبر 1951 قد نص في فصله العاشر الخاص بالولايات وفي المادة (177) على أن تضع كل ولاية قانونها الأساسي شرط أن لا تتعارض أحكامه وأحكام الدستور ويتم وضع القانون وإصداره في مدة لا تتجاوز سنة من تاريخ إصدار الدستور. ونص أيضا على أن يكون لكل ولاية حاكم يلقب بالوالي يعينه الملك ويعفيه من منصبه وهو يمثل الملك في الولاية ويشرف على تنفيذ الدستور والقوانين الاتحادية فيها.
كما نص الدستور في هذا الفصل على أن يكون في كل ولاية مجلس تنفيذي ومجلس تشريعي ينتخب ثلاثة أرباع أعضائه على الأقل ويحدد القانون الأساسي في كل ولاية اختصاصات المجلس التنفيذي والمجلس التشريعي.
وعشية إعلان الاستقلال منذ سبعين سنة في يوم الاثنين الرابع والعشرين من ديسمبر 1951 أصدر الملك إدريس أوامر ملكية بتعيين السادة: محمد الساقزلي واليا لبرقة و فاضل بن زكري واليا لطرابلس وأحمد سيف النصر واليا لفزان، وبهذا تكامل رسميا شكل الدولة بصيرورة الولايات حقيقة واقعة على الأرض وتكون في مجموعها (المملكة الليبية المتحدة).
ثم صدرت في الأشهر الأولى من عام 1952 مراسيم ملكية بالقوانين الأساسية لكل ولاية من الولايات الثلاث واعتبرت هذه القوانين (دساتير محلية تنظم الشؤون المتعلقة بالولاية على أن يكون دستور المملكة وما يوضع بموجبه من القوانين والمعاهدات هو القانون الأعلى لكل ولاية.
وقد اشتملت مواد هذه القوانين كل مايتصل بسلطات الوالي والمجلس التنفيذي والمصروفات والسلطة القضائية والمالية والعلاقة مع الحكومة الاتحادية. ومع مرور الأعوام حتى إلغاء النظام الفيدرالي عام 1963 طورت هذه القوانين وعدلت مرارا نتيجة للظروف التي سادت الدولة وما شاب الاختصاصات التي وصلت أحيانا إلى حد التنازع ما بين الولايات والحكومات الاتحادية وعولجت بالكثير من الآراء والاستشارات القانونية على الدوام.
هذه القوانين الخاصة بالولايات أفردت في نصوصها العديد من التفاصيل المنظمة بالذات لأوضاع المجالس التشريعية وانتخاباتها وسلطاتها ومدتها وغيرها. وبالنظر إلى نسبة عدد السكان في كل ولاية فإن أعضاء المجلس التشريعي في برقة يتألف من عشرين عضوا ينتخب خمسة عشر منهم طبقا لأحكام قانون الانتخاب في الولاية الذي يسن لذلك الغرض ويعين خمسة من قبل الملك، أما في ولاية طرابلس فيتألف من أربعين عضوا ينتخب ثلاثون منهم بموجب القانون ويعين الملك بقية الأعضاء، وفي فزان يتألف من عشرين عضوا ينتخب خمسة عشر منهم ويعين الملك الباقي. وهذا التعيين من قبل الملك للأعضاء في المجالس التشريعية الثلاثة يتم بالتشاور مع كل وال في ولايته.
أجريت الانتخابات التشريعية لأول مرة في 1952 1953 بعد انتخابات أول مجلس للنواب فيما أجريت انتخابات أخرى لاختيار المجالس البلدية في كل ولاية ونظمت هذه الانتخابات بلوائح وشروط وأدارتها لجان ومراقبات عملت لهذا الغرض. وخلال الانتخابات تقدم الكثيرون من المواطنين في مناطقهم بالمدن والأرياف (المراكز القبلية) للترشح وفاز الكثير منهم بالتزكية أو بانسحاب بعض المنافسين.
وبناء على هذه التجربة لانتخابات المجالس التشريعية فقد أشارت على سبيل المثال مذكرة إيضاحية أرفقت بالتعديل الذي جرى على القانون الأساسي لولاية فزان في العاشر من مارس 1958 بأن: (القانون الأساسي لولاية فزان أخذ ببعض النظم المتبعة في تكوين الهيئات التشريعية ببعض البلاد العريقة في النظم البرلمانية ولكن دلت الظروف والتجارب على صدق الرأي القائل بأن الانتخاب وحده لا يعطي صورة حقيقية للرأي العام ولايكفل للمجالس التشريعية تمثيل مختلف الطوائف والهيئات وتوفير عناصر لابد منها للإفادة من خبرتها وتجاربها.
ذلك أن بعض ذوي المراكز الخاصة.. دينية كانت أم سياسية أم اجتماعية أم أدبية أم علمية كثيرا مايحجمون عن اقتحام المعارك الانتخابية لما يكتنفها من تبادل النقد والتجريح. هذا فضلا عن أن الدعايات الانتخابية المغرضة كثيرا ما تنحرف بالرأي العام عن جادة الصواب سيما في البلاد الناشئة التي لم يسم فيها الوعي القومي إلى الدرجة التي يفطن معها الجمهور لما تنطوي عليه تلك الدعايات من خداع وتغرير وتكون نتيجة ذلك في الغالب رسوب من هو أهل لتمثيل بلاده ونجاح من هو غير أهل لذلك لهذا بات من الضروري معالجة الأمر حتى يغدو المجلس التشريعي للولاية ممثلا الرأي العام وجامعا في ذات الوقت العناصر الطيبة التي لابد من الإفادة من آرائها ولا يتسنى ذلك إلا بجعل تكوين المجلس من أعضاء ينتخب بعضهم ويعين البعض الآخر بمرسوم ملكي مع الوالي إذ بتعيين هذا البعض يمكن تدارك ماعسى أن يكتنف الانتخابات من عيوب نتيجتها في الغالب حرمان الهيئة التشريعية من أشخاص تكون البلاد في مسيس الحاجة لخدماتهم والاستعانة بخبرتهم وتجاربهم..).
كانت مدة المجلس التشريعي في كل ولاية أربع سنوات ما لم يحل المجلس قبلها ويعقد المجلس خلال هذه المدة أربع دورات في كل سنة دورة ويجب أن لا تقل مدة كل دورة عن خمسة أشهر ولاتزيد على تسعة أشهر. واشترط في العضو وفقا لبعض القوانين الأساسية أن يكون ليبيا ذكرا وأن يبلغ عمره ثلاثين سنة ميلادية على الأقل وأن لا يكون من أعضاء الأسرة المالكة وأن يكون قادرا على الكتابة والقراءة باللغة العربية بطلاقة وأن تتوفر فيه أية شروط أخرى يتطلبها قانون الانتخابات أوغيره من قوانين البلاد وأن يكون نائبا لجميع الشعب في الولاية التي يقطنها ولا تخضع نيابته لأية قيود أو شروط.
وقد ظل الولاة يفتتحون كل دورة تشريعية ممثلين للملك ويستمعون إلى خطاب حكومة الولاية من قبل رئيس المجلس التنفيذي الذي يضمنه خطط ومشاريع حكومته الفرعية حاضرا ومستقبلا ويعرض إلى ماتم إنجازه سابقا.
كان المجلس التشريعي هو برلمان الولاية فيما ظل المجلس التنفيذي بنظاره هو مجلس الوزراء أو الحكومة الخاصة بالولاية. ومع تواصل التجربة البرلمانية التشريعية في الولايات ظلت الإذاعة المحلية في كل ولاية تنقل بعض الجلسات مسجلة للمستمعين ونشرت الصحف في أعدادها المتتابعة وقائع تلك الجلسات ومناقشاتها حول كل الأمور الخاصة بالولاية وسبل علاج المشاكل والشكاوى التي ينقلها الناس إلى تلك المجالس.
وخلال هذه الفترة من عمر المجالس التشريعية في الولايات التي امتدت من العام 1952إلى 1963 شهدت تواجد العديد من الأعضاء المنتخبين أو المعينين من قبل الملك. وعلى سبيل المثال لا الحصر الدقيق يمكن ذكر بعضهم مع ملاحظة أن هناك من تولى الرئاسة إلى جانب العضوية عدة مرات:
أولا ولاية فزان: محمد بن حامد. أحمد العربي عبدالقادر. محمد المهدي بن صالح. عبدالكبير بن أبوبكر. خليل الشاعر. أبوغرارة برناوي. أبوالقاسم محمد أرحومة. علي خير الدين. مختار مازن الهوني. محمد هاشم الشريف. الهادي بشير شلايق. عبدالسلام مصباح الزائدي. نصر بن سالم المقرحي. الطاهر بريدح. محمد البدري. مولاي بن كوري. عبدالمطلب المهدي. عبدالله البوصيري، وغيرهم (شملت الترشيحات والتعيينات ممثلين عن غدامس وهون بالجفرة قبل تعديل الحدود بين ولايتي طرابلس وفزان).
ثانيا ولاية برقة: محمود بوهدمة. محمد عيسى الكاديكي. لامين سلامة المنفي. أحمد عقيلة الكزة. خليفة بوشناف. سعيد جربوع العبيدي. عوض عبيدة. فرج الوحيشي. عبدالله السنكي.عبدالله سميو. إبراهيم الفرجاني. مصباح رقرق. منفور علي لامين. أبوالقاسم عمر حفتر. مفتاح مبارك الشريف. محمد بن عمران. سالم المختار. أحمد بوهدمة. عبدالله عبد الصمد. ميلود بوالخنه. محمد طاهر الخفيفي. نصر الصريمي. محمد عثمان سويل. عبدالنبي باوي. بوسيف البشاري. محجوب مطرود اللواطي. عبدالقادر آدم الرقعي. أحفيظة المبروك أحفيظة. يونس الشرداخ. محمد سالم الجطلاوي. عبدربه العبار. هارون إبراهيم المنفي. عبدالرحيم بوقرين. عوض أقدورة….. وغيرهم
ثالثا ولاية طرابلس: علي محمد الديب. الطاهر العقبي. أبوالقاسم العيساوي. الطيب عمر عبدالملك. محمود علي فتح الله. سالم لطفي القاضي. الأمين الزقلعي. محمد مصطفى عراب. عبدالله شرف الدين. عجاج تامر. عبدالله الإدريسي. برشان عصيم. أحمد الزائدي. الهاشمي بوخلال…. وغيرهم.
وفي مراحل أخرى صار هؤلاء الأعضاء نوابا في مجلس النواب أو شيوخا في مجلس الشيوخ. ولعل تجربة عضويتهم في المجلس التشريعي أكسبتهم خبرة ودراية برلمانية في ذينك المجلسين.
وبرصد ومتابعة ودراسة ومقارنة هذه القوانين أو الدساتير المحلية في الولايات الثلاث يلاحظ وجود اختلافات في موادها ونصوصها ولكنها على وجه العموم اتفقت في كل التفاصيل المتعلقة بالشؤون والاختصاصات في نطاق كل ولاية (برقة – طرابلس – فزان).
جانب آخر يتوجب ذكره في هذه الوقفة التاريخية مع المجالس التشريعية وهو أن هذه القوانين الأساسية ربما كانت سببا في حدوث أزمات دستورية وقانونية نشبت أولا في نوفمبر 1953 في ولاية فزان سببها اتفاق بعض أعضاء المجلس التشريعي هناك عن منطقة الشاطيء على تعديل بعض مواد القانون الأساسي للولاية وكان غرضهم الحد من سلطات الوالي التي يخولها له ذلك القانون. ثم ثانيا في يناير 1954، الأزمة الكبرى بحل المجلس التشريعي في طرابلس بأمر من الملك وصدور حكم المحكمة العليا الاتحادية ببطلان الأمر.
فكيف حدث ما حدث تلك الأعوام في طريق التجربة البرلمانية الليبية؟.
يتبع في الجزء التالي
___________________
بوابة الوسط