سالم الكبتي
.. خلال تلك الأيام من عام 1951 التي شهدت إعداد الدستور وصياغته قانونيا في صورته النهائية ظل يعرض أيضا على الملك إدريس. كان بعض أعضاء لجنة الدستور يأتون إلى بنغازي لمقابلته والحوار معه في الكثير من نصوصه ومواده. وبالطبع لم تكن للملك الدراية القانونية فهو ليس متخصصا في القانون ولكنه ضليع بخبرته السياسية وحنكته المعروفة في متابعة العديد من أمور السياسة والحكم في المنطقة العربية على وجه التحديد فقد عاش مهاجرا لفترة من الزمن في مصر ووقف على أجواء البرلمانات والانتخابات والدساتير وله معارف كثيرون فيها وفي غيرها من الدول وكذا من خلال علاقاته القديمة والمعاصرة في أوروبا ونظمها ولهذا كانت نقاشاته وحواراته على الدوام مع مندوب الأمم المتحدة المستر إدريان بلت والمجلس الاستشاري وأعضاء الجمعية الوطنية ولجنة الدستور تلقي بأضوائها على الكثير من جوانبها وتفيدها بكل دراية ودبلوماسية. لقد كان يعرف الواقع المحلي والعربي والدولي ولهذا فإنه كثيرا على سبيل المثال ما وقع تحت تأثير الحروب الإعلامية الهوجاء التي نسيت بأنه بشر له وعليه ولعل أخف هذه الاتهامات التي طالته أنه حسب لديها (عميلا إنجليزيا)!وهو لم يكن كذلك لهم ولا لغيرهم وذلك من سوء الفهم والالتباس الذي قاد الكثيرين للوقوع في فخاخ التسرع والحكم الطائش.
أنا هنا لست بصدد تقييمه أو الدفاع عنه بأي شكل من الأشكال ولكنني أرى أن الرجل وغيره من جيله الذين قادوا المرحلة في المنطقة رأوا أن بريطانيا (دولة عظمى) ومن المفيد سياسيا التحالف معها والتعاون بما يفيد الدولة لغير. فلم تستعمل هذه العلاقة ضد أي فرد من الشعب أو ضد دولة من الدول مجاورة أو بعيدة.
كان (الأمر الواقع) و (السياسة المتوازنة) التي رآها الآخرون عمالة وخيانة هي السائدة لمداولة الشؤون والأمور. وللمتابع أن يتقصى الكثير من التفاصيل المتعلقة بالمفاوضات السلمية التي قادها الأمير ثم الملك ليعرف دهاءه وتصرفه السياسي بعيدا عن الحكم المسبق ووضعه في إطاره الزمني والتاريخي ومراعاة أسباب الثغرات والأخطاء.
كان السيد إدريس السنوسي ومجايلوه في ليبيا أو خارجها يدركون العالم الذي يعيشونه ويعرفون التعامل معه وفقا لما أتيح له ولهم من دراية وتجربة ومعرفة بالأمور فوق الأرض. لم يكن مفهوم العمالة أو الخيانة في أذهانهم على الإطلاق فيما أتصور وفيما سيحكم به التاريخ.
وعلى أية حال كان الملك يتابع أعمال لجنة الدستور وقد أشار الكثيرون ممن كانوا يلازمونه العمل والقرب بأنه كان زاهدا ومترددا في قبول الحكم واعتلاء العرش إذا كان وجوده يسبب صراعا أو انقساما في ليبيا. وأذكر أن السيد فتحي العابدية الذي كان سكرتيرا خاصا للملك في تلك الأيام وحضر جانبا من لقاءاته مع لجنة الدستور في قصر الغدير قرب بنغازي (بوعطني) الذي منحه للجيش لاحقا ليكون مقرا لأول كلية عسكرية ليبية عام 1957.
أذكر أن السيد العابدية روى لي الكثير من هذه التفاصيل بكل صدق وحياد فقد أشار غير مرة إلى أن الملك أكد في كثير من الأحيان على أن يكون نظام الحكم في ليبيا جمهوريا وقد حدث أن قدم له السادة: الشيخ أبو الأسعاد العالم وعمر شنيب وخليل القلال وسليمان الجربي المسودة النهائية للدستور بعد الفراغ من صياغتها للاطلاع عليها وتقديم أية اقتراحات بشأنها أو تعديلات تيضيف المزيد مما لم يصل إليه أعضاء لجنة الدستور.. فماذا حدث بالضبط؟ كان السيد العابدية شاهدا وصادقا في روايته فقد قام الملك شخصيا بشطب نصوص المواد الأولى التي تتصدر الدستور بالقلم الأحمر لأنها قضت بأن يكون نظام الدولة ملكيا وراثيا واقترح أن يتولى شؤون البلاد وإدارتها فترة من الزمن شخص محايد من خارجها نتيجة للكثير من التصورات والآراء المتعلقة بشخص الملك إدريس في الداخل وهذا الشخص هو الأمير محمد علي من الأسرة المالكة المصرية وكان من أفرادها المشهود لهم بالاستقامة والخلق الحسن والورع وكان أيامها وليا للعهد في مصر قبل حركة الجيش عام 1952 ولكن الأمر تغير بعد أن رزق الملك فاروق بولي للعهد وهو ابنه أحمد فؤاد في يناير من ذلك العام الذي وقع فيه حريق القاهرة المشهود.
كما أشار السيد العابدية، في أحاديثه عن هذه الفترة مباشرة معي في بيته في بنغازي خلال سنوات 1986و1987 و1988، إضافة إلى أحاديث أخرى عن الدولة الليبية وسياستها في فترة الاستقلال، إلى أن الملك نفسه أكد في مرات لاحقة سعيا للتغيير الهاديء والسلس على أن يكون نظام الحكم (جمهوريا) في لقاءات مع رئيس الحكومة السيد مصطفى بن حليم والمستر إدريان بلت واقترح بنفسه أيضا أنه في حالة وفاته وشغور المكان بتلك الوفاة يتم اختيار مجلس للسيادة يدير البلاد لمدة سنتين وهذا المجلس يضم من ثلاثة أشخاص إلى خمسة فقط تحفظ أسماؤهم بطريقة سرية في مظروف مختوم بالشمع الأحمر يوضع في خزانة الديوان الملكي وتودع نسخ منه في خزانة الديوان الملكي وخزانة البرلمان وخزانة الحكومة وعندما توفي أخوه الأمير محمد الرضا عام 1955 وكان وليا للعهد لم يعين من يخلفه مباشرة إلا بعد عام من الوفاة في 1965 حيث استدعى ابنه الحسن الرضا وصدر أمر ملكي بتعيينه وليا للعهد وكان قد قدم استقالته أيضا تلك الأيام. أشار إلى أن التغيير قادم مع التطور والسنوات وهو يود أن يرعى التغيير بنفسه دون اللجوء إلى محاولات أو إجراءات يخشى وقوعها وتأثيرها على ليبيا إجمالا.
وفي إحدى جلسات الجمعية الوطنية في بنغازي اعترض الملك أمام أعضائها على كثير من السلطات التي منحت له وفقا للدستور فقد أصر على أن تضاف عبارة البرلمان في المادة التي أعطت له الحق في إعلان الحرب وأشار إلى أنها لاتتم من قبله فقط بل بمشاركة البرلمان وكذا الشيء نفسه في إعلان حالة الطوارئ في البلاد والكثير من الأمور. كما يذكر الكثيرون أن الملك عقب إعلان الاستقلال بأيام جمع أفراد أسرته كبارا وصغارا وأشار لهم بأن هذه البلاد ينبغي أن يتولاها أهلها ونحن نبعد إلى حيث المجالات التي تسمح بمواصلة نشاط الدعوة السنوسية فقط وشدد عليهم بالابتعاد عن الأمور السياسية ومغادرة البلاد أيضا إذا لزم الأمر قائلا لهم (بوحافر يحفر وبوجناح يطير).
أعلن الملك الاستقلال صباح يوم الاثنين الرابع والعشرين من ديسمبر 1951 من قصر المنار وسط جموع الشعب وخرائب البنايات المتهدمة من الحرب وعبر الحالة الاقتصادية البائسة وحضور أعضاء الجمعية الوطنية ومندوب الأمم المتحدة والمجلس الاستشاري والحكومة الوطنية وظل الماضي البعيد والقريب مجرد حكايات طويت ولم يعد بالإمكان إعادتها فقد مضى ذلك الماضي وبدأت مرحلة الاستقلال بالتوافق والنظرة البعيدة نحو البناء والتشييد واستخدام العقل والحكمة والصبر.
ووفقا لقانون الانتخابات الذي أصدرته الجمعية الوطنية تم إجراء أول انتخابات بعد الاستقلال. جرت في التاسع عشر من فبراير 1952 وأعلنت النتائج في العشرين منه بحضور مراقبين من الأمم المتحدة إضافة إلى العديد من المراقبيين المحليين في مختلف المناطق. واقتضى التوافق بأن يتم ترشيح خمسة وثلاثين نائبا عن طرابلس وخمسة عشرة عن برقة وخمسة عن فزان بحكم التركيب السكاني لكل إقليم من أقاليم ليبيا الثلاثة.
..
فكيف تمت هذه الانتخابات الأولى التي أفلحت في إنجاز الطريق لأول برلمان ليبي بعد الاستقلال؟
وماذا حدث بالتفصيل وكيف كان نظامها و نتائجها؟ وماذا ترتب عنها؟.
. خلال تلك الأيام من عام 1951 التي شهدت إعداد الدستور وصياغته قانونيا في صورته النهائية ظل يعرض أيضا على الملك إدريس. كان بعض أعضاء لجنة الدستور يأتون إلى بنغازي لمقابلته والحوار معه في الكثير من نصوصه ومواده. وبالطبع لم تكن للملك الدراية القانونية فهو ليس متخصصا في القانون ولكنه ضليع بخبرته السياسية وحنكته المعروفة في متابعة العديد من أمور السياسة والحكم في المنطقة العربية على وجه التحديد فقد عاش مهاجرا لفترة من الزمن في مصر ووقف على أجواء البرلمانات والانتخابات والدساتير وله معارف كثيرون فيها وفي غيرها من الدول وكذا من خلال علاقاته القديمة والمعاصرة في أوروبا ونظمها ولهذا كانت نقاشاته وحواراته على الدوام مع مندوب الأمم المتحدة المستر إدريان بلت والمجلس الاستشاري وأعضاء الجمعية الوطنية ولجنة الدستور تلقي بأضوائها على الكثير من جوانبها وتفيدها بكل دراية ودبلوماسية. لقد كان يعرف الواقع المحلي والعربي والدولي ولهذا فإنه كثيرا على سبيل المثال ما وقع تحت تأثير الحروب الإعلامية الهوجاء التي نسيت بأنه بشر له وعليه ولعل أخف هذه الاتهامات التي طالته أنه حسب لديها (عميلا إنجليزيا)!وهو لم يكن كذلك لهم ولا لغيرهم وذلك من سوء الفهم والالتباس الذي قاد الكثيرين للوقوع في فخاخ التسرع والحكم الطائش.
أنا هنا لست بصدد تقييمه أو الدفاع عنه بأي شكل من الأشكال ولكنني أرى أن الرجل وغيره من جيله الذين قادوا المرحلة في المنطقة رأوا أن بريطانيا (دولة عظمى) ومن المفيد سياسيا التحالف معها والتعاون بما يفيد الدولة لغير. فلم تستعمل هذه العلاقة ضد أي فرد من الشعب أو ضد دولة من الدول مجاورة أو بعيدة.
كان (الأمر الواقع) و (السياسة المتوازنة) التي رآها الآخرون عمالة وخيانة هي السائدة لمداولة الشؤون والأمور. وللمتابع أن يتقصى الكثير من التفاصيل المتعلقة بالمفاوضات السلمية التي قادها الأمير ثم الملك ليعرف دهاءه وتصرفه السياسي بعيدا عن الحكم المسبق ووضعه في إطاره الزمني والتاريخي ومراعاة أسباب الثغرات والأخطاء.
كان السيد إدريس السنوسي ومجايلوه في ليبيا أو خارجها يدركون العالم الذي يعيشونه ويعرفون التعامل معه وفقا لما أتيح له ولهم من دراية وتجربة ومعرفة بالأمور فوق الأرض. لم يكن مفهوم العمالة أو الخيانة في أذهانهم على الإطلاق فيما أتصور وفيما سيحكم به التاريخ.
وعلى أية حال كان الملك يتابع أعمال لجنة الدستور وقد أشار الكثيرون ممن كانوا يلازمونه العمل والقرب بأنه كان زاهدا ومترددا في قبول الحكم واعتلاء العرش إذا كان وجوده يسبب صراعا أو انقساما في ليبيا. وأذكر أن السيد فتحي العابدية الذي كان سكرتيرا خاصا للملك في تلك الأيام وحضر جانبا من لقاءاته مع لجنة الدستور في قصر الغدير قرب بنغازي (بوعطني) الذي منحه للجيش لاحقا ليكون مقرا لأول كلية عسكرية ليبية عام 1957.
أذكر أن السيد العابدية روى لي الكثير من هذه التفاصيل بكل صدق وحياد فقد أشار غير مرة إلى أن الملك أكد في كثير من الأحيان على أن يكون نظام الحكم في ليبيا جمهوريا وقد حدث أن قدم له السادة: الشيخ أبو الأسعاد العالم وعمر شنيب وخليل القلال وسليمان الجربي المسودة النهائية للدستور بعد الفراغ من صياغتها للاطلاع عليها وتقديم أية اقتراحات بشأنها أو تعديلات تيضيف المزيد مما لم يصل إليه أعضاء لجنة الدستور.. فماذا حدث بالضبط؟ كان السيد العابدية شاهدا وصادقا في روايته فقد قام الملك شخصيا بشطب نصوص المواد الأولى التي تتصدر الدستور بالقلم الأحمر لأنها قضت بأن يكون نظام الدولة ملكيا وراثيا واقترح أن يتولى شؤون البلاد وإدارتها فترة من الزمن شخص محايد من خارجها نتيجة للكثير من التصورات والآراء المتعلقة بشخص الملك إدريس في الداخل وهذا الشخص هو الأمير محمد علي من الأسرة المالكة المصرية وكان من أفرادها المشهود لهم بالاستقامة والخلق الحسن والورع وكان أيامها وليا للعهد في مصر قبل حركة الجيش عام 1952 ولكن الأمر تغير بعد أن رزق الملك فاروق بولي للعهد وهو ابنه أحمد فؤاد في يناير من ذلك العام الذي وقع فيه حريق القاهرة المشهود.
كما أشار السيد العابدية، في أحاديثه عن هذه الفترة مباشرة معي في بيته في بنغازي خلال سنوات 1986و1987 و1988، إضافة إلى أحاديث أخرى عن الدولة الليبية وسياستها في فترة الاستقلال، إلى أن الملك نفسه أكد في مرات لاحقة سعيا للتغيير الهاديء والسلس على أن يكون نظام الحكم (جمهوريا) في لقاءات مع رئيس الحكومة السيد مصطفى بن حليم والمستر إدريان بلت واقترح بنفسه أيضا أنه في حالة وفاته وشغور المكان بتلك الوفاة يتم اختيار مجلس للسيادة يدير البلاد لمدة سنتين وهذا المجلس يضم من ثلاثة أشخاص إلى خمسة فقط تحفظ أسماؤهم بطريقة سرية في مظروف مختوم بالشمع الأحمر يوضع في خزانة الديوان الملكي وتودع نسخ منه في خزانة الديوان الملكي وخزانة البرلمان وخزانة الحكومة وعندما توفي أخوه الأمير محمد الرضا عام 1955 وكان وليا للعهد لم يعين من يخلفه مباشرة إلا بعد عام من الوفاة في 1965 حيث استدعى ابنه الحسن الرضا وصدر أمر ملكي بتعيينه وليا للعهد وكان قد قدم استقالته أيضا تلك الأيام. أشار إلى أن التغيير قادم مع التطور والسنوات وهو يود أن يرعى التغيير بنفسه دون اللجوء إلى محاولات أو إجراءات يخشى وقوعها وتأثيرها على ليبيا إجمالا.
وفي إحدى جلسات الجمعية الوطنية في بنغازي اعترض الملك أمام أعضائها على كثير من السلطات التي منحت له وفقا للدستور فقد أصر على أن تضاف عبارة البرلمان في المادة التي أعطت له الحق في إعلان الحرب وأشار إلى أنها لاتتم من قبله فقط بل بمشاركة البرلمان وكذا الشيء نفسه في إعلان حالة الطوارئ في البلاد والكثير من الأمور. كما يذكر الكثيرون أن الملك عقب إعلان الاستقلال بأيام جمع أفراد أسرته كبارا وصغارا وأشار لهم بأن هذه البلاد ينبغي أن يتولاها أهلها ونحن نبعد إلى حيث المجالات التي تسمح بمواصلة نشاط الدعوة السنوسية فقط وشدد عليهم بالابتعاد عن الأمور السياسية ومغادرة البلاد أيضا إذا لزم الأمر قائلا لهم (بوحافر يحفر وبوجناح يطير).
أعلن الملك الاستقلال صباح يوم الاثنين الرابع والعشرين من ديسمبر 1951 من قصر المنار وسط جموع الشعب وخرائب البنايات المتهدمة من الحرب وعبر الحالة الاقتصادية البائسة وحضور أعضاء الجمعية الوطنية ومندوب الأمم المتحدة والمجلس الاستشاري والحكومة الوطنية وظل الماضي البعيد والقريب مجرد حكايات طويت ولم يعد بالإمكان إعادتها فقد مضى ذلك الماضي وبدأت مرحلة الاستقلال بالتوافق والنظرة البعيدة نحو البناء والتشييد واستخدام العقل والحكمة والصبر.
ووفقا لقانون الانتخابات الذي أصدرته الجمعية الوطنية تم إجراء أول انتخابات بعد الاستقلال. جرت في التاسع عشر من فبراير 1952 وأعلنت النتائج في العشرين منه بحضور مراقبين من الأمم المتحدة إضافة إلى العديد من المراقبيين المحليين في مختلف المناطق. واقتضى التوافق بأن يتم ترشيح خمسة وثلاثين نائبا عن طرابلس وخمسة عشرة عن برقة وخمسة عن فزان بحكم التركيب السكاني لكل إقليم من أقاليم ليبيا الثلاثة.
فكيف تمت هذه الانتخابات الأولى التي أفلحت في إنجاز الطريق لأول برلمان ليبي بعد الاستقلال؟
وماذا حدث بالتفصيل وكيف كان نظامها و نتائجها؟ وماذا ترتب عنها؟.
وفي الأساس ظل الدستور الذي أصدرته الجمعية الوطنية مرجعية مهمة يستند إليها وعنوانا لوحدة ليبيا والليبيين وظل أيضا قاعدة نهض عليها ووقف قانون الانتخابات الذي تقدمت به الحكومة الأولى وأجازته الجمعية بعد صياغة الدستور. فلا انتخابات ولاحياة برلمانية صحيحة وسليمة بدون دستور.
وتلك الأيام قبيل الاستقلال ظل الملك أيضا يتلقى عن طريق ديوانه العديد من الطلبات والعرائض من كافة مناطق ليبيا من الأعيان والشيوخ ورجال القبائل والمدن ضمنوها رغبتهم في أن يعينهم أعضاء في مجلس الشيوخ المنتظر. ولم يستجب في الواقع كثيرا لهذه الطلبات. ربما اختار البعض وعينهم بالتشاور مع الولاة وبحكم معرفته الشخصية للكثير منهم وتم حفظ بقية الطلبات!!
.. فكيف أجريت الانتخابات ونظمت؟
البداية كانت بصدور أوامر انتخابية في اليوم الثاني والعشرين من شهر ديسمبر 1951 من وزير العدل وهو في الوقت نفسه السيد محمود المنتصر رئيس الحكومة التي لم تزل مؤقتة في ذلك. هذه الأوامر صدرت منه بمقتضى المادتين الحادية والعشرين والسادسة والخمسين من قانون الانتخابات.. صدرت إلى مأموري الانتخاب في دوائر الانتخابات في المدن وكذا إلى المراقب العام للانتخابات بالنسبة إلى دوائر الريف الانتخابية وعلى هذه الإجراءات تمت تسمية المرشحين في ليبيا طبقا للأوامر المذكورة وطبقا للقانون في ظهر التاسع والعشرين من يناير 1952.
كان المراقب العام للانتخابات في ليبيا هو الشيخ محمود المسلاتي. وبدأت الانتخابات الأولى بعد الاستقلال وفقا للنظام الانتخابي والإجراءات واستنادا إلى الدستور بخطوات شملت مرحلة التسجيل ثم مرحلة الطعن ضد الناخبين ثم مرحلة الترشيح ثم مرحلة الطعن ضد المرشحين ثم مرحلة الاقتراع السري ثم مرحلة إحصاء الأصوات وإعلان النتائج النهائية على ضوئها. جرت الانتخابات في اليوم التاسع من فبراير 1952 في جميع الدوائر الحضرية والقبلية وأعلنت النتائج في اليوم التالي الموافق للعشرين من فبراير. والواقع أن الانتخابات شهدت تنافسا مرضيا في الغالب في مناطق برقة وفاز البعض بالتزكية وقدمت بعض الطعون بين المتنافسين وثمة من انسحب من تلقائه أثناء العملية الانتخابية وفي فزان لم تحدث أية التباسات أو صراعات في الدوائر الخمس التي تم الفوز في بعضها بالتزكية. وفي طرابلس وقع الاصطدام بوضوح في طرابلس المدينة ومصراتة وترهونة والزاوية وصبراتة وحصلت مظاهرات صاخبة وفقا للمصادر التاريخية (ليبيا الحديثة.. مجيد خدوري) بناء على نتائجها. هذا الاصطدام الواضح حصل بطريقة مؤسفة ولم تكن متوقعة في الانتخابات بعد الاستقلال مع رجال البوليس وأنصار حزب المؤتمر الوطني الذين لم يرضوا بالنتائج المعلنة وقتل البعض وجرح العديد من المواطنين.
كان التنافس الانتخابي في ليبيا يشمل 113 مرشحا في 35 دائرة في طرابلس فاز منهم خمسة وثلاثون مرشحا وفي برقة ستة وثلاثون مرشحا في عشر دوائر فاز منهم خمسة عشر مرشحا وفي فزان في دوائرها الخمس فاز خمسة مرشحين.
ومن التداعيات المؤسفة وغير المتوقعة التي آلت إليها الانتخابات في طرابلس عقب الاصطدامات الدامية والمواجهة بالسلاح بين الأنصار والبوليس اعتقل الزعماء الرئيسيين لحزب المؤتمر الوطني في اليوم الحادي والعشرين من فبراير 1952 واتخذت الحكومة قرارها بإبعاد زعيمه السيد بشير السعداوي إلى خارج ليبيا يوم 22 من الشهر ليستقر أولا في القاهرة ثم في بيروت إلى عام 1957 حيث توفي هناك. وكانت الحجة وراء الإبعاد أنه كان سببا في حصول المشاكل في دوائر الانتخاب ولم يرض بالنتيجة وفوق ذلك أنه كان يحمل جنسية سعودية ولم يعتبر مواطنا ليبيا!! وفي الوقت نفسه أبعد أيضا السيد أحمد زارم رئيس تحرير صحيفة الشعلة الناطقة باسم حزب المؤتمر إلى تونس بحجة عدم ليبيته وأقام هناك إلى عام 1962 وحدثت مصالحة بينه وبين الدولة في فترة حكومة السيد محمد عثمان الصيد الذي عينه مراقبا عاما للأملاك الحكومية في غريان ونتيجة لما جرى وحدث أصدرت حكومة السيد محمود المنتصر في تلك الأيام قرارا إداريا يمنع النشاط الحزبي أو تشكيل الأحزاب السياسية في البلاد وكما يذكر د. خدوري الخبير في شؤوننا الداخلية عن جدية واهتمام واقترابه منها فإن الأحزاب التي منعت وأغلقت (المؤتمر في طرابلس وجمعية عمر المختار في بنغازي.. وغيرهما) أخفقت في تحقيق أهدافها وكانت تسعى لتحقيق الاستقلال حيث شكلت قبل إعلانه وبهذا يكون سبب وجودها قد اختفى وزال بتحقق الاستقلال في الرابع والعشرين من ديسمبر 1951.
والواقع أن السيد السعداوي كان يملك كاريزما وتقديرا في المناطق الغربية وكان لديه في السابق نشاط وطني وارتباط معروف في مرحلة المقاومة الوطنية في المنطقة الوسطى التي قادها السيد صفي الدين السنوسي وكان من الذين أسهموا في بيعة مؤتمر غريان للسيد إدريس السنوسي أميرا على ليبيا عام 1922 وكان أيضا من شهود مؤتمر سرت أواخر عام 1921 الذي عقد هناك سعيا للمصالحة والتوافق بين الأطراف الوطنية في الشرق والغرب وكلف من هيئة الإصلاح المركزية بأن يكون مندوبها لمتابعة خطوات وإنجازات المؤتمر فيما اختار الأمير إدريس أحد معاونيه في حكومة إجدابيا وهو السيد عبدالعزيز العيساوي ليكون مندوبا عنه وعن الحكومة المذكورة في تلك المساعي التي حققت نجاحا في واقع الأمر لوحظ وانعكس تلك الأيام على مسار الحركة الوطنية في البلاد الذي اعتمد بالدرجة الأولى التوافق وغلب مصلحة ليبيا فوق كل الاعتبارات الأخرى وكان خطوة تاريخية مهمة ينبغي أن يستفاد منها على الدوام. هذا إضافة إلى جهود السيد السعداوي مع زملائه المهاجرين في الشام في تكوين جمعية الدفاع الطرابلسي البرقاوي ثم انصرافه بالكامل عن متابعة الشؤون الليبية حين ظل مستشارا للملك عبدالعزيز آل سعود كما أشرنا. وفي كل الأحوال فإن شخصية السيد السعداوي بما لها وعليها تظل أيضا خاضعة لأحكام التاريخ بتجرد وعلمية.
وتقييما لبعض هذه الجوانب أخبرني السيد عمر إبراهيم الشلحي مستشار الملك إدريس في عدة لقاءات معه كان آخرها عام 2014: (بأن السيد بشير السعداوي رغم إبعاده عومل معاملة كريمة وقد احترم نفسه ومكانته وتاريخه وظل كذلك طوال إقامته في الخارج ولم تصدر عنه أية تصرفات معيبة أو أعمال مضادة باتجاه بلده تسيء إليه وإلى شخصه. كان رجلا بمعنى الكلمة وكان على علاقة طيبة بالملك إدريس فيما أذكر أثناء الفترة التس سبقت الاستقلال. لقد حضرت مأدبة غداء أقامها له الملك في بيته في البيضاء عام 1950 بوجود الإعلامي العراقي المعروف يونس بحري الذي كان على علاقة بالملك. وللتاريخ ومن الناحية الواقعية فإن السيد بشير وغيره من الزعماء الوطنيين الذين يستحقون كل تقدير واحترام كانوا على الدوام رجالا وفي مستوى المسؤولية وأسهموا في تحقيق التوافق الوطني وحين أحسوا بخسارتهم في المعركة التي تدور مع الملك بالمواجهة أو من وراء ستار وشعروا بأنه الرجل الذي أجمعت عليه الأمة.. احترموا مواقفهم واحترموا الملك وأذعنوا للأمر الواقع وسلموا به دون أية حساسيات أو مشاكل).
وفي جانب آخر يذكر تغطية لبعض هذه التفاصيل فقد أخبرني أيضا السيد فتحي العابدية سكرتير الملك إدريس تلك الأعوام والدبلوماسي والسفير لاحقا في لقاءات عديدة معه تواصلت إلى عام 1999.. أخبرني مؤكدا بكل تجرد: (أن العلاقة الطيبة بين السيدين إدريس والسعداوي تعود إلى أيام الهجرة وكان هناك ود وتقدير بينهما في كل الأحوال وأن الخلل الذي حدث لاحقا في هذه العلاقة التي كان الكثيرون من المخلصين يتمنون أن تسير سيرا حسنا لما فيه صالح البلاد.. هو أن مثل هذه الزعامات والقيادات الوطنية لم ينظر إليها بعد الاستقلال نظرة صائبة. كان من المفترض إشراكها في المناصب العامة والاستعانة بها في النهوض بالتأسيس بعد الاستقلال احتراما لتاريخها ولمواقفها المشرفة رغم بعض الأخطاء أو التصرفات التي يمكن معالجتها وتجاوزها وكذا الشئ نفسه وقع مع أعضاء جمعية عمر المختار في بنغازي. وأذكر أن الملك كان في بنغازي أيام إجراء الانتخابات التي جرت بنزاهة وفقا لتقارير المراقبين الأجانب وأن القرار في حق السيد السعداوي اتخذ من قبل السيد محمود المتتصر رئيس الحكومة وتم تنفيذه. ولم يتدخل الملك من بعيد أو قريب في هذا القرار. والذي حدث أن أنصار السيد السعداوي حققوا نتائج بالفوز في مدينة طرابلس لكنهم أخفقوا في تحقيق ذلك في مناطق الدواخل التي فاز بها مرشحوا الحكومة فاستعملوا السلاح وحاصروا مراكز الانتخابات هناك وقاموا بتكسير الصناديق وواجهوا البوليس وسقط للأسف قتلى وضحايا دون مبرر).
ومع هذا كله فاز مرشحو حزب المؤتمر في المدن في مناطق الغرب من البلاد وكان من المفترض أن يكتفوا بذلك ولا داعي للأصرار على الفوز بكل المقاعد في مجلس النواب كما تشير التقييمات والآراء حول نتائج الانتخابات الأولى بعد الاستقلال. وقد ظلت هذه التداعيات مثار ظنون وشكوك واختلافات وبقيت تنهض أمام الباحث والمتابع لتاريخ الانتخابات دون أن تحسم في الواقع بنظرة علمية فاحصة حتى الآن في تقديري.
فماذا حدث أيضا في الانتخابات في برقة وإلى أين اتجهت الطعون بشأنها وكيف عولجت وفقا للإجراءات والتنظيمات المتبعة.
يتبع في الجزء التالي
_________________