سالم الكبتي
تمت اختيارات الجمعية الوطنية التأسيسية بالتوافق بين الأقاليم الثلاثة وطبقا للخطة التي رسمتها لجنة الواحد والعشرين. وبنفس الخطوات السابقة تولى الاختيار في برقة الأمير إدريس وفي طرابلس الشيخ محمد أبو الأسعاد العالم وفي فزان السيد حمد سيف النصر. عشرون عضوا من كل إقليم يتفرغون لإنجاز وتحقيق العمل المقبل والمهم في تاريخ ليبيا.
مشروع الدولة والدستور وشكل الحكم والانتخابات القادمة والبرلمان والحقوق والواجبات للمواطن الليبي، بدءا من تحقيق الاستقلال في موعد لا يتجاوز يناير 195. وبهذا يكون أمام الجمعية براح من الزمن قوامه عام واحد بالضبط.
كانت اختيارات أعضاء الجمعية في وقت مناسب وسريع في نفس اللحظة. وشملت الأعضاء وفقا للأسماء التالية:
أولا: فزان – الطاهر محمد العالم – سعد ميدون المقرحي – محمد عثمان الصيد- منصور بن محمد الحسناوي -علي عبد النبي المقطوف البوسيفي – أبوبكر أحمد بن حمد – محمد الأزهري الحطماني – المبروك بن علي عريبي – عبد الهادي رمضان الزائدي – أبوالقاسم أبوقيله – السنوسي حمادي محمد – علي عبدالله الهادي – علي بن محمد بديوي -أحمد محمد الطبولي – الفيتوري بن محمد زيدان – طاهر القذافي بريدح المقرحي – علي عبد النبي السعداوي – محمد العكرمي بن هوبي – محمد بن الأمير – علي بن محمد الشريف.
ثانيا: برقة -عمر فائق شنيب – محمود حسين بوهدمة – سليمان إبراهيم الجربي – بوبكر بالذان الدرسي – محمد أرحيم بوجازية – أحميدة المحجوب – عبدالكافي السمين – خليل القلال – حسين مفتاح غرور – رافع بوغيطاس – الكيلاني صالح لاطيوش – طاهر العسبلي – عبدالله عبدالجليل سويكر- الطائع صالح البيجو- محمد السيفاط بوفروه – عبد الحميد عبدالله دلاف – سالم الأطرش – مبروك سليم الجيباني – أحمد عقيلة الكزة – عبدالجواد الفريطيس.
ثالثا طرابلس: – أحمد عون سوف – سالم المريض – عبدالعزيز الزقلعي محمد المنصوري – محمدالهنقاري – منير برشان – علي تامر – محمد أبو الأسعاد العالم – أحمدالصاري – علي الكالوش – مختار المنتصر – عبدالمجيد كعبار – عبدالله بن معتوق – أبوبكر بونعامة – محمد كامل الهمالي – محمود المنتصر – إبراهيم بن شعبان – طاهر القرمانلي – يحي مسعود بن علي – علي بن سليم.
ويلاحظ هنا أن الاختيارات ضمت شخصيات من عديد مناطق الأقاليم الثلاثة تنوعت اتجاهاتهم وتجاربهم ومواقفهم. فمنهم من عاصر نهايات العهد التركي في ليبيا ودخول الإيطاليين. ومنهم من عمل في كوادر الإدارة الإيطالية ثم البريطانية والفرنسية. ومنهم أعيان مدن ووجهاء قبائل. ومنهم من شارك في المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الإيطالي. ومنهم من كان مهاجرا خارج البلاد. ومنهم صحفيون ومثقفون ونشطاء ينتمون إلى بعض الجماعات السياسية. ومنهم من شارك في مجلس نواب برقة عام 1921ثم 1950.
ومنهم من كان عضوا في لجنة الواحد والعشرين. ومنهم من الأمازيغ والطوارق. ومنهم مجموعات تمثل أهل الرأي والخبرة والإدارة في البلاد.
وفي كل هذا اجتمعت ليبيا بثقلها من خلال أقاليمها الثلاثة عبر هذا المكون الذي غدا يعرف باسم الجمعية الوطنية الليبية. والواقع أنني هنا أعتبر أن هذه الجمعية الوطنية في مجملها كانت بمثابة برلمان أو مجلس وطني يمثل الشعب الليبي في مناطقه كافة بلا إستثناء.
عقب هذه الاختيارات التوافقية التي أرضت كل الأطراف ولم تنشأ عنها أية أزمات أو حساسيات أو تقليب في صفحات الماضي عقدت الجمعية أولى اجتماعاتها وفقا لأحكام قرار لجنة الواحد والعشرين في مدينة طرابلس يوم الخامس والعشرين من نوفمبر 1950 وترأس هذا الاجتماع الشيخ أبو الأسعاد العالم الذي كان مفتيا لطرابلس في الوقت نفسه بصفته أكبر الأعضاء سنا.
تم هذا الاجتماع الأول في احتفال رسمي حضرته وشاركت فيه جميع السلطات والهيئات السياسية الأجنبية الموجودة في ليبيا وأغلب أعضاء مجلس الأمم المتحدة الخاص بليبيا. وفي جلستها الثانية المنعقدة يوم السابع والعشرين من نوفمبر 1950 قررت الجمعية تأليف لجنة فرعية لوضع لائحة نظامها الداخلي.
نفس الخطوات التي قطعتها لجنة الواحد والعشرين. تكونت هذه اللجنة الفرعية من أثني عشر عضوا بواقع أربعة من فزان وهم: أبوبكر أحمد وأحمد الطبولي ومحمد عثمان الصيد والسنوسي حمادي.
ومثلهم من طرابلس وهم: محمد الهنقاري ومنير برشان ومختار المنتصر ويحي بن مسعود. ومثلهم أيضا من برقة وهم: عمر فائق شنيب وخليل القلال وعبد الجواد الفريطيس وسليمان الجربي.
بلغت جلسات الجمعية منذ بدايتها وإلى نهايتها ثلاث وأربعين جلسة وكان مقار انعقادها في طرابلس في أماكن مختلفة: مدرسة الفنون والصنائع الإسلامية وقاعة جراند هوتيل إضافة إلى مقر الحاكم العام (قصر الخلد لاحقا) إضافة إلى بعض جلساتها في بنغازي في مقر مجلس نواب برقة.
وكانت الجلسات في الغالب مفتوحة لحضور الجمهور دون فرق لمتابعة مايقرر لمصير ليبيا ومستقبلها من أبنائها بأنفسهم وعبر هذه التجربة البرلمانية الصحيحة في كل الأحوال. وافقت الجمعية على لائحة الإجراءات المتضمنة لنظام عملها الداخلي تكون من ثلاث وأربعين مادة وحددت اختصاصها بالتفصيل. فمثلا في المادة الثانية تعين أن تختص بإعداد دستور الدولة الليبية بما فيه نوع الحكومة وفقا للفقرة الثالثة من قرار الأمم المتحدة في 21 نوفمبر 1949 وفي المادة الثانية عشرة نصت على أن اجتماع الجمعية يكون قانونيا متى حضره ثلاثا الأعضاء وفي المادة العشرين من اللائحة أكدت على أن جلسات الجمعية تعقد علانية إلا إذا قررت غير ذلك ويصدر بلاغ صحفي على أثر انتهاء جلسة خاصة كما نظمت اللائحة عمل سكرتارية الجمعية التي تقوم بإعداد محاضر الجلسات العلنية الخاصة وأكدت أيضا أن المحاضر التي لم يطلب أحد تصحيحها أو التي تكون قد صححت فإنها تعتبر المحاضر الرسمية للجمعية كما جوزت تشكيل لجان فرعية من أعضائها على أن تنتخب كل لجنة من بين أعضائها رئيسا وسكرتيرا.
وبنفس الكيفية السابقة في أعمال لجنة الواحد والعشرين اختارت الجمعية بعد الموافقة على اللائحة الداخلية الشيخ أبو الأسعاد العالم رئيسا لها والسيدين عمر شنيب من برقة ومحمد عثمان الصيد من فزان نائبين له وفي فترة لاحقة سيصبح السيد أبوبكر أحمد نائبا للرئيس بدلا من السيد الصيد. وفي اجتماعها الثالث الموافق لليوم الثاني من ديسمبر 1950 ناقشت الجمعية في جلسة (ساخنة بعض الشيء) مايتصل بتقرير نوع الحكم وملك الدولة القادم وتعيين لجنة أو هيئة لوضع الدستور المرتقب على هذين الأساسين .
وكان أول المتكلمين السيد محمد عثمان الصيد الذي أكد على أن يكون نوع الحكم وشكله اتحاديا فيدراليا (وحين تولى السيد الصيد رئاسة الوزراء حدث في فترة تلك الرئاسة أن شرع في تعديل بعض أحكام ومواد الدستور في 7 ديسمبر 1962 الذي انتهى بالغاء النظام الفيدرالي في 26 إبريل 1963 في عهد خلفه الدكتور محي الدين فكيني).
واقترح العضو عبدالعزيز الزقلعي أن تكون الدولة الليبية مستقلة موحدة بحدودها الطبيعية مصر شرقا وتونس غربا والسودان جنوبا فيما أشار السيد محمود المنتصر إلى أن القصد من وضع الدستور أن يكون تمهيدا للوحدة الكاملة. ومع تنوع الآراء والنقاش الثري في كل الجوانب قررت الجمعية بعد هذه المداولات الطويلة أن تكون:
- ليبيا دولة مستقلة ذات سيادة وأن يكون شكل الحكم فيها اتحاديا فيدراليا عادلا
2. وأن تكون الحكومة ملكية دستورية ديمقراطية نيابية تحت تاج الملك إدريس السنوسي
3. وأن ترفع الجمعية للملك قرارها التاريخي وتعتبره ملكا شرعيا على ليبيا منذ الآن.
في اجتماعها المنعقد في الرابع من ديسمبر وافقت الجمعية بعد مناقشة شكل علم البلاد المقترح من السيد عمر شنيب على اعتماده الذي يتكون من ثلاثة ألوان: الأحمر والأسود والأخضر بشكل أفقي ويحتوي القسم الأسود في المنتصف الذي يوازي اللونين السابقين على هلال وكوكب أبيض (نجمة).
.. ثم في نفس الاجتماع اختارت لجنة الدستور من ثمانية عشر عضوا من أعضائها للشروع في وضع الدستور وبنوده بالتفصيل وعرضه أولا بأول على الجمعية لإقراره فصلا فصلا.
وتوالت الخطوات البرلمانية الليبية نحو البعيد بكثير من التوافق وقليل من الاختلاف وكانت الغاية مصلحة ليبيا دون غيرها.
وظلت الجمعية الوطنية في مفتتح كل جلساتها تستلم العديد من الرسائل والبرقيات من جميع المواطنين في ليبيا وكذا أبناء الجاليات الليبية في المهاجر البعيدة والقريبة التي تتضمن التأييد والمباركة لجهود الجمعية ومتمنية لها كل التوفيق والسداد في أعمالها من أجل ليبيا .
ثم انتقلت الجمعية بكامل أعضائها إلى بنغازي في اليوم الخامس عشر من ديسمبر 1950 حاملين وثيقة البيعة للملك وفقا لقرارها وفي السابع عشر من الشهر المذكور التقت الأمير إدريس في قصر المنار وقدم رئيس الجمعية الشيخ محمد أبو الأسعاد العالم بيعة (الشعب الليبي) له لتبوء العرش في البلاد. وكانت تحمل توقيعات وأسماء كل الأعضاء . قبل الأمير البيعة من الجمعية وشملته صورة مشهورة في حديقة القصر مع كل الأعضاء ووعد بأن يكون دائما (خادما مخلصا لبلاده ليبيا عاملا على إسعاد ورفاهية أبناء أمته الأعزاء).
لكن الأمير في هذا الموقف وبكل دبلوماسية وحنكة معروفة عنه تلك الأيام أبلغ الجمعية بإرجائه الأعلان من طرفه عن اعتلائه (عرش المملكة المنتظرة) ريثما تتكامل الخطوات السياسية والإدارية ويعلن عن الدستور وهي المرحلة التي يمكنه معها أن يصبح (ملكا دستوريا) ويستطيع ممارسة سلطاته الملكية طبقا لنص الدستور .
خلال هذه الفترة ظل الأمير يعرف بـ (الملك العتيد) أي المعد أو المهيأ وأصبح ينادى ويخاطب به رسميا.
كانت الجمعية قد شكلت لجنة الدستور في الرابع من ديسمبر 1950 من سبعة عشر عضوا يمثلون الأقاليم الثلاثة . وهم: عمر فائق شنيب رئيسا للجنة. وعضوية محمود المنتصر. محمد الهنقاري. محمد كامل الهمالي. منير برشان (مقررا للجنة). أحمد عون سوف. إبراهيم بن شعبان. خليل القلال. سليمان الجربي. محمد ارحيم بوجازية. عبدالجواد الفريطيس. إحميده المحجوب. أبوبكر بن حمد. محمد عثمان الصيد. أحمد الطبولي. علي المقطوف. السنوسي حمادي. منصور بن محمد. وبدورها اختارت اللجنة الدستورية مجموعة منها لدراسة النظم الفيدرالية وتشكلت برئاسة محمود المنتصر وعضوية: خليل القلال ومحمد عثمان الصيد ومنير برشان وعبدالجواد الفريطيس وأبوبكر بن حمد. وعرفت أيضا بلجنة العمل.
وقد تمكنت طوال ستة وتسعين جلسة من إنجاز الدستور ونصوصه بمواده وفصوله وإحالتها إلى لجنة الدستور للعرض على الجمعية الوطنية.
وقد سجلت اللجنة ووثقت أعمالها في محاضر مهمة للغاية والباحث أو المتابع لهذه المحاضر مع محاضر جلسات الجمعية الوطنية يقف على أجواء وآفاق هذا العمل الوطني الذي غمره الحماس وساده النقاش والحوار الواعي واختلاف وجهات النظر المبنية على الاحترام والمصداقية ومراعاة المصلحة الوطنية فوق كل الاعتبارات الذاتية والجهوية والقبلية والتكتلات. كان الحرص على مستقبل ليبيا هو الأساس في الإنجاز الدستوري المرتقب.
وفي كتابي (الدستور في ليبيا .. تاريخ وتطورات) الصادر في بيروت وبنغازي خلال 2013.2012. العديد من التفاصيل الموضحة لهذه الجهود الوطنية التي بذلها الجيل الأب والمؤسس بكل تضحية ونكران الذات.
صحيح أن اللجنة والجمعية توسعت مداركهما وخبرتهما بالاستنارة والاستفادة من استشارات المستر إدريان بلت ومجلسه الاستشاري. إضافة إلى الخبرات القانونية العربية والدولية السيدين عوني الدجاني وعمر لطفي .. لكن مع تواجد هذه الاستشارات والإفادة منها ولد الدستور الليبي واقعا حيا ذلك العام ولم يكن مجرد قفزة في المجهول.
كان (نصرا) بمقاييس تلك الظروف واللحظات واستجابة للواقع والمعلوم.. فقط لاغير!!
إن متابعتي واهتمامي بموضوع التجربة الدستورية والبرلمانية في ليبيا التي عاشها أبناؤها فترة من الأعوام في ظروف مختلفة تلاحقت وتباينت ثم ظلت بعيدة وراء الأفق في أطياف التاريخ وانتهت بتجربة نيابية ديمقراطية رغم العثرات دامت ثمانية عشر عاما إلى 1969 حيث تعطلت وتوقفت.. إن ذلك يعود إلى أيام بعيدة ماضيات إقتربت والتقيت فيها بكثير من رجال ليبيا الذين أسهموا بجهودهم في إرساء قواعد هذه التجارب العديدة وفي هذا كله يتعين عليَّ خلال هذه المقالات أن أشير إلى بعض منهم وهم السادة: محمود بوهدمة وسليمان الجربي والطاهر العالم.. على سبيل المثال.
لقد كان الأول عضوا في لجنة الواحد والعشرين ثم الجمعية الوطنية (الستين) وكان الثاني عضوا مثله في الستين وفي لجنة الدستور وقام بأعمال السكرتارية وتدوين محاضرها وجلساتها بدقة عالية التنظيم وكانا ضمن وفد إقليم برقة فيما كان الثالث مثلهما في الجمعية إضافة إلى اختياره في فترة لاحقة عضوا بلجنة العمل وإعداد الدستور ضمن زملائه وفد فزان في الجمعية المذكورة. وأضيف إلى ذلك: أن السيد بوهدمة كان رئيسا لأول مجلس تشريعي في ولاية برقة بعد الاستقلال وهي – المجالس التشريعية في الولايات الثلاث – تجربة برلمانية سأتعرض إليها في ثنايا مايبقى من مقالات ثم اختير ثالث رئيس لمجلس شيوخ في المملكة وعينه الملك نائبا له مع رئيس مجلس النواب خلال غيابه عن الدولة عام 1956 قبل تعيين ولي للعهد تلك الأيام. وأن السيد العالم كان نائبا في أول برلمان ليبي بعد الاستقلال في 1952.
التقيتهم في بنغازي وطرابلس مرارا وتحدثوا لي عن هذه المخاضات العسيرة والتجارب التي انقطع عنها الجيل اللاحق وولى لها ظهره دون الإفادة منها أو متابعتها بالتحليل والدراسة والنقد والحوار. دونت وسجلت منهم مما دار في كواليس القاعات والجلسات ووقفت في حقيقة الأمر على قيمة هذه الجهود الكبيرة التي بذلوها مع بقية زملائهم أياما وليالي طويلة بين طرابلس وبنغازي. لقاءات وحوارات وجلسات ونقاشات وجولات وتفاهمات وتناقضات وأخذ ورد وشد وجذب ثم كانت المحصلة الختامية لهذه الجهود الوطنية توحد الخطوات نحو طريق واحدة تؤدي إلى الوطن الواحد الذي يسع الجميع رغم المطالبات والحلم بالمزايا لكل إقليم وكان هناك في كل الأحوال درء وسد لمحاولات النفاذ الأجنبي والتدخل بتغيير وجهة ذلك الطريق.
ولم يكن هذا العمل الوطني المخلص يسعى لتحقيق أطماع أو مأرب شخصية. وكان الحضور والتواجد في طرابلس يتم بالتنقل عبر ظروف صعبة بالبر وأحيانا بالجو في طائرة الأمم المتحدة الوحيدة التي خصصت لمندوبها في ليبيا المستر إدريان بلت. وتظل إحدى أحاديث الشيخ بوهدمة إلي ماثلة في الذهن ولاتنسى فقد ذكر بأنه خلال مشاركته في اجتماعات الجمعية الوطنية عامي 1950و1951 كان يغادر من بنغازي إلى طرابلس مع رفيقه السيد عمر فائق شنيب لحضور تلك الاجتماعات مصحوبين بعائلتيهما. كانت الوسيلة التي تقلهما شاحنة كبيرة ويستغرق سيرها أياما عديدة وكثيرا ما تتعطل تلك الشاحنة في بعض الأماكن البعيدة عبر الطريق الساحلي عن أي وجه من وجوه المساعدة اللازمة. ينتظرون فترة من الأيام والليالي في أيام الصيف والشتاء حتى تصل إليهم أول نجدة للقيام بإصلاح وصيانة الشاحنة. ينتظرون في تلك البقعة الخالية.. يتسامرون ويتحدثون عن شجون الوطن دون شعور بالشكوى أو الألم وعندما يصلون إلى طرابلس كانا يؤجران مسكنا على حسابهما الخاص رغم قلة ذات اليد ويشرعون في حضور الاجتماعات متناسيين تعب الطريق ومشاقه. كانت الطريق الأخرى نحو الاستقلال أكثر مشقة منها.
وظل السيد العالم في أحاديثه عن معاصرته لوضع أسس وبنيان الدولة الوليدة يؤكد على وطنية وحرص الشيخ أبو الأسعاد العالم الذي يجهله الكثيرون وروعة أدائه للجلسات وحسن سيطرته بكل ديمقراطية وإتاحة الفرصة أمام كل الآراء وتقريب وجهات النظر بكل حنكة ودراية. فيما أشار إلى المحاولات الخبيثة التي كان يرمي بها بعض رجال فرنسا في إدارتها في فزان للتأثير عليه وزملائه الذين يمثلون الإقليم سعيا لانفصال الوطن. ذاكرا بأن لجنة العمل في إعداد الدستور ظلت تناقش القضايا والموضوعات دون أي تدخل خارجي من أي طرف. ماعدا الصياغة النهائية في صورتها القانونية من قبل المستشارين عمر لطفي وعوني الدجاني وغيرهما. مشيرا في الوقت نفسه إلى أن من القضايا الحساسة التي غدت مثار اهتمام ومتابعة كثيرة على سبيل المثال هي موضوعات الاتفاقيات الأجنبية وإعلان الحرب والعاصمة.
وفي جملة هذه التفاصيل المهمة التي خرج عبرها الدستور الليبي الذي لم يكن صناعة أجنبية بل كان نتاجا ليبيا وبأيدي ليبية لم تكن عميلة أو يحركها الخارج على أي وجه من الوجوه.. أود أن أستعين بما ذكره صديقي الدكتور محمد الطاهر الجراري الذي كان والده السيد الطاهر عبدالله الجراري عضوا من فزان في لجنة الواحد والعشرين.. فقد سمع ذات يوم من السيد علي رجب المدني عضو اللجنة عن طرابلس هذه القصة التي دارت أيام جلسات اللجنة المذكورة صيف عام 1950 ما مفاده مختصرا في بعض جوانبه: (ذات يوم قام السفير البريطاني في طرابلس بدعوة أعضاء لجنة الواحد والعشرين لمائدة العشاء واختار السطوح مكانا للعشاء في جو رائق. يطل فيه الضيوف الناعم منهم والخشن على مصابيح طرابلس المتلألئة من بعيد أو قريب ومويجات بحرها المتسابقة ونجوم سمائها الصافية ونسائم مسائها المتعانقة وسط الأكل المطروح للراغبين والماء المسكوب للسائلين. فتحولت الجلسة المدروسة وإطارها إلى سمفونية رائعة يتداخل فيها الهواء مع الحضور السماوي والأرضي والمائي فإلى أين المفر أيها الواحد والعشرون؟.
تعمدت في هذا الجو الساحر التأكيد على مصالح من نوبوني عنهم فقصدت أحد ممثلي فزان (وكان والدك المقصود). أطلقت السلام.. فرد. وعرفت بنفسي فقام هو بالرد والترحيب ثم بدأت أناقشه في القضايا المطروحة وقتها للنقاش ومنها العاصمة. فرد بأنه قديم التردد على طرابلس وفيها نبيع ونشتري ونملك ونتزاور مع أقاربنا القاطنين بها. واسترسل في العلاقات بين الجنوب والشمال وحتى عن فشل محاولات فرنسا ربط الجنوب (فزان) بمستعمراتها في المغرب وإفريقيا. سعدت بكل هذه الأحاديث واعتبرتها تقدمة ناجحة لتقديم سؤالي الرئيسي له وهو.. التصويت لصالح طرابلس عاصمة لليبيا. رد: طرابلس اقتصاديا من مصلحتي الشخصية أن تصبح عاصمة حتى تزدهر استثماراتي البسيطة بها.. لكنها عاطفيا وحدها لاتشبع غروري الطامح إلى ليبيا الواسعة!
إستغربت رده ولكنني فهمت منه أننا جميعا ندور في حلقة شكوك وظنون لكنه شخصيا (والدك الشيخ الجراري) أشار إلى أن من يضحك الآن علينا ويهزأ الآن بنا جميعا ومن يخطط لتأكيد مصالحه فينا جميعا (برقة وطرابلس وفزان) هو ذاك الواقف هناك المستضيف لنا الليلة. مشيرا بأصبعه إلى السفير البريطاني!).
في هذه الأجواء الوطنية والحماس والخوف من المجهول والحرص على الوطن رغم محاولات تغليب المزايا لكل إقليم على حده.. ولد الدستورمن أبناء ليبيا. وكان الملك العتيد إدريس قد ألقى خطابا أثناء زيارته إلى طرابلس بتاريخ 21 مايو 1951أشار فيه إلى أنه: فهم أن الدستور الذي تقوم بوضعه الجمعية الوطنية سيشمل إنشاء دولة واحدة ووزارة واحدة وأنه عندما يحدد ذلك ستعدل أنظمة الحكم في الأقاليم الثلاثة حال إعلان الدستور وتنفيذه من وزارات إلى ولايات لها سلطات تشريعية داخلية في تلك الشؤون التي ينص عليها الدستور ..
الدستور الذي حققه الليبيون .
(..وإنه لمن أعز أمانينا كما تعرفون أن تحيا البلاد حياة دستورية صحيحة) .. الملك إدريس السنوسي في خطاب إعلان الأستقلال
.. ولابد أحيانا من العودة إلى التاريخ أو بمعنى آخر التقدم خطوة نحوه. فقد ظلت ليبيا وستبقى ذات موقع مهم على ساحل البحر الأبيض المتوسط وتحميها من الخلف عبر البعيد الصحراء الكبرى ومنذ القدم تشكلت هويتها وشخصيتها بالتدريج نتيجة لتلاقي الحضارات فوق أديمها الواسع وامتزاج الثقافات والمعارف والفنون والعادات وتأسيس المدن والمراكز الحضارية واستيعاب القادمين للعيش بها في حرية وسلام.
في (قوريني)على قمة الجبل الأخضر نشأ الفلاسفة وبرزت مدرسة المشائين ووضع المشرع الأغريقي الشهير (ديموناكس) دستورا للمدينة في سنوات ما الميلاد وظلت قوريني على الدوام في تلك الحقبة مقرا للحكمة والفلسفة والرياضة والطب والعلوم ومنها انطلق كاليموخس لإنشاء مكتبة الأسكندرية إحدى مدن العالم القديم الكبرى مع قوريني وقرطاجنه ولبدة. وعند الفتح الإسلامي دارت حول طلميثة التي كانت عاصمة لإقليم برقة أولى معارك الإسلام في ليبيا وعقب تلك المعارك الفاصلة كتب المسلمون الفاتحون مع سكانها النسخة الأولى من وثيقة الصلح التي أصبحت نموذجا راقيا لجميع الوثائق اللاحقة مع بقية المدن المنتشرة التي سيقومون بفتحها في شمال إفريقيا. كانت هذه الوثيقة كما تقول المصادر التاريخية وثيقة تحرير بالفعل من العصر المظلم الذي عاشته شعوب المنطقة تحت حكم الرومان. ثمة خلفية تاريخية تطل دائما عبر ليبيا تنهض أمام الأعين مرة في لحظات اليأس وتغيب أكثر بكل مرارة في أوقات مؤلمة من الانكسار والحزن. فلتكن مشيئة الله كما أرادها.
وفي كل الظروف لعل الليبيين غدوا يستفيدون من هذا التاريخ والإفادة من تجربتهم المتواصلة إضافة إلى تجارب الآخرين على الطريق وبهذا تكتمل أسس تكوين الدول فمن لاقديم له لاحاضر لديه بأختصار شديد. إن ذلك يعتبر قفزة في الفراغ وفي الهواء فوق كنوز مطمورة تحت الأرض.
يذكر د.مجيد خدوري العالم المشهور وثاني عميد لكلية الآداب والتربية في الجامعة الليبية عام – 1957 -1956 في مذكراته في ليبيا أن في تحضير الدستور الليبي عام 1951 حدثه الدكتور عوني الدجاني الذي كان مستشارا قانونيا للجمعية الوطنية التأسيسية خلال أعمالها في لقاء جمعهما يوم الخميس الموافق للرابع والعشرين من يناير 1957 قائلا: (نظرا لقرب الفترة الزمنية التي حددتها الأمم المتحدة موعدا لاستقلال ليبيا فقد أعد الدستور بشيء من السرعة عبر اجتماعات اللجنة الدستورية التابعة للجمعية الوطنية وانتهى الفراغ منه خلال ستة أشهر فقط. وهذه اللجنة عينت تسعة أعضاء من أجل وضع لائحة الدستور وكانت بواقع ثلاثة أعضاء عن كل إقليم. كنت مستشارا قانونيا للملك إدريس فأرسلني لأعمل إعداد الدستور وكنت أمثل وجهة نظر الملك فيما يتعلق بالدستور. وقد وضعت لجنة التسعة أعضاء مسودة الدستور وترجمت كافة الدساتير الفيدرالية (نحو إثني عشر) في العالم حتى يطلع عليها أعضاء اللجان وجلبت أيضا دساتير البلاد العربية الأخرى للاطلاع عليها. وأكد الدجاني على أنه حضر (بتشديد الضاد) نحو ثلثي الدستور: ثاني أبوبه الذي يتعلق بالمقدمة وحقوق الملك والشعب والوزارة والمحكمة العليا. أما عمر لطفي المستشار القانوني لأدريان بلت فقد حضر المواد المتعلقة بالبرلمان والنظام المالي وقد استقى أكثر المواد لهذه الأقسام – نحو أربعة أبواب – من الدستور المصري. فالنظام التشريعي كثير الشبه بالدستور المصري. وأشار الدجاني في هذا اللقاء أيضا إلى أنه علم آراء الملك العامة كرغبته في أن يكون شكل نظام الحكم فيدراليا ورأيه في هذا ساد بالرغم من كثرة مطالبة الأعضاء الطرابلسيين بالدولة الموحدة. وقد شرع أول قانون دستوري من قبل الجمعية الوطنية بقانون اقترحه السيد محمود المنتصر رئيس الحكومة المؤقتة نص على أن يكون نظام الحكم ملكيا وإعلان ملكية إدريس الأول أول ملك لمملكة ليبيا. وكذلك نظرت الجمعية في عدة اقتراحات وقوانين كانت لها صفة دستورية).
وعلى هذه المعطيات والتفاصيل القول يظل مؤكدا على أن خطوات الدستور ومناقشته تولتها اللجنة المختارة من الجمعية الوطنية فيما ظل أمر الصياغة القانونية في صورة الدستور النهائية تعود للمستشارين الدجاني ولطفي بعد الموافقة النهائية من الجمعية بالكامل.
لقد ناقشت الجمعية أيضا بكل مسؤولية وأمانة في جلسات استغرقت وقتا طويلا وعاصفا بعض الأحيان موضوع البرلمان وتكوينه وتفاصيل النظام الانتخابي وتفاصيل تقسيم السلطات التشريعية بين مجلسي البرلمان المقترحين وهما النواب والشيوخ واستعرضت عدة اقتراحات بشأنها وقر الاتفاق على أن ينص الدستور الليبي على قيام برلمان ليبي مؤلف من مجلسين: أحدهما مجلس للشيوخ يؤلف من ممثلين للأقاليم على أساس المساواة وعلى أن يكون هؤلاء الممثلون معينين أو مختارين من قبل حكومات الأقاليم ثم يعينهم الملك وفي هذا تفضيل للجمعية في أن تؤكد على ذلك أو ترغب في أن يقوم الملك من تلقاء نفسه بتعيين عدد محدود من هؤلاء الممثلين ويتم اختيار الآخرين من قبل حكومات الأقاليم ثم يعينهم الملك ويتم انتخاب أعضاء مجلس النواب على أساس نسبي يضمن تمثيل سكان الأقاليم الثلاثة. وواصلت نقاشها في كل القضايا التي تهم المستقبل ومن بينها مسألة تنقيح الدستور وإجازة ذلك بعد موافقة المجالس التشريعية في الأقاليم والبرلمان ثم الملك وهذا ماحدث لاحقا عند إجراء التعديلات الدستورية عام 1963 .
بعد الموافقة من قبل لجنة العمل على مشروع الدستور إكتمل بمقدمة واثنى عشر فصلا ومائتين وثلاث عشرة مادة. وأرسل إلى الجمعية الوطنية في العاشر من سبتمبر 1951 وقريء فيها للمرة الأولى وفي التاسع والعشرين من الشهر نفسه عقدت الجمعية جلساتها في بنغازي لمناقشة مشروع الدستور وإقراره ثم وافقت عليه دون أية تحفظات أو اعتراضات في السابع من إكتوبر 1951. ثم قدمت الحكومة الاتحادية المؤقتة للجمعية في الثاني والعشرين من إكتوبر مشروع قانون الانتخاب وبعد أن درسته وأجرت بعض التعديلات أقرته وأصدرته في السادس من نوفمبر 1951.
ستجرى هذه الانتخابات لاحقا في النصف الثاني من فبراير 1952 وكان بود الجمعية الوطنية أن تجرى تلك الانتخابات قبل إعلان الاستقلال ولكن وضع قانون الانتخاب لم يكن ممكنا بطبيعة الحال كما تشير تقارير الأمم المتحدة إلا بعد أن انتهي من وضع الدستور الذي حدد الهيئات الواجب اتخاذها والمباديء الأساسية الواجب اتباعها في النظام الانتخابي. فيما لخص المستر إدريان بلت رأيه في هذا الدستور في إحدى تقاريره بأنه: (يمكن القول بأن الدستور الليبي ذو طابع ديمقراطي والملك هو ملك دستوري يتولى سلطاته عن طريق وزرائه المسؤولين أمام مجلس النواب المنتخب أما فيما يتعلق بحقوق الإنسان فالدستور يتبع بوجه عام مباديء إعلان حقوق الإنسان الذي وضعته الأمم المتحدة ونظرا للظروف السائدة في ليبيا فإن الدستور ليس ديمقراطيا من حيث الفكرة بل يتيح فرصة للتقدم المطرد).
ومن أهم خصائص الدستور الليبي وقتها التي أشارت إليها تقارير الأمم المتحدة أيضا بأنه: دستور ديمقراطي لأنه يعترف بالسيادة للشعب فالسيادة للأمة والأمة مصدر السلطات. وهو دستور نيابي لأن مجلس الأمة بمجلسيه نوابا وشيوخا يقوم باستعمال حقوق الشعب الدستورية نيابة عنه وهو أخيرا دستور برلماني لأنه يقرر المسؤولية الوزارية أمام مجلس النواب.
.. فماذا كانت آراء الملك عندما كانت تعرض عليه مسودة الدستور تلك الأيام. كيف كان ينظر إلى الأمور التالية بعد الاستقلال؟!
يتبع في الجزء التالي
_______________
بوابة الوسط