سالم الكبتي
“لقد أوفدتني الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى ليبيا ممثلا لها لقصد مساعدة شعبها على وضع دستور لبلاده وتأليف حكومة مستقلة لها. إن هذه المساعدة تقدم بدون مقابل وإذا كان شعب ليبيا لايريد الاندفاع بها فإن له مطلق الحرية في عدم قبولها” … إدريان بلت أمام مجلس الأمم المتحدة في ليبيا 1950
فكيف تكونت لجنة الواحد والعشرين تلك الأيام؟
بمجرد وصول المستر أدريان بلت إلى ليبيا في 18 يناير 1950 بدأ في الحال بإجراء مشاوراته وإتصالاته مع الزعماء والهيئات والأفراد في طرابلس ومع الأمير إدريس في برقة ومع السيد حمد سيف النصر في فزان. وعبر ذلك كله فهم الرغبة الموجودة والأكيدة لدى الشعب الليبي وزعمائه وجماعاته السياسية وخلص من هذه الأجواء إلى أمرين مهمين في تلك الفترة:
الأول: إجماع الشعب كله على مبايعة الأمير إدريس السنوسي ملكا على ليبيا .
والثاني: ضرورة إقامة نظام اتحادي بين الأقاليم الثلاثة طرابلس وبرقة وفزان وهو أمر يتمشى مع الأوضاع المختلفة الموجودة في البلاد ولأنه وفقا لما يجري بغير هذا النظام الاتحادي لايمكن التفكير جديا في جمع (ليبيا) في دولة واحدة.
تلك الخلاصة التي فهمها المندوب ووصل إليها بسهولة طبقا لرحلاته ومشاوراته وما ورد في تقاريره إلى الأمين العام للأمم المتحدة. وكان لابد مع ذلك الكثير من الصبر والحكمة وقطع الكثير من المشاوير والخطوات.. هنا وهناك.
ثم طرأت في الواقع مشكلة ظلت هامة بعض الوقت فقد وجد المندوب والمجلس الاستشاري للأمم المتحدة في ليبيا أنفسهما أمام تلك المشكلة التي تمثلت باختصار شديد في إيجاد طريقة تدعى بموجبها (الجمعية الوطنية) التي تسن الدستور وتقرر شكل الحكم في البلاد تنفيذا للفقرة الثالثة الواردة في قرار الأمم المتحدة في 21 نوفمبر 1949. القرار المذكور نص على ذلك لكنه لم يحدد الطريقة أو الأسلوب الذي تنشأ عنهما هذه الجمعية.
وكان لابد من المزيد من المشاورات لمواجهة المشكلة وتذليل الصعاب لتحقيق القرار التاريخي. قام المندوب من جديد بمشاورات أخرى استغرقت أشهرا ثلاثة ثم تقدم في نهايتها في الرابع من مايو 1950 إلى المجلس طالبا مشورته حول خطة تجتمع على أثرها لجنة تحضيرية مؤلفة من خمسة ممثلين من كل إقليم تختارهم المجالس المحلية المنتخبة في برقة وطرابلس أما في فزان فيمكن أن يتم اختيارهم من قبل الجمعية نفسها التي سبق لها انتخاب رئيس الإقليم.
وفي هذا الصدد الذي يمضي نحو التطور الدستوري الليبي ظل أعضاء المجلس الاستشاري يميلون إلى الأخذ بمبدأ الانتخاب وفقا لما ورد في التقرير السنوي الأول للمندوب في فقرته رقم 135. ممثل الباكستان في المجلس صرح بأن الانتخابات لن تكون حرة في طرابلس حيث أن الهيئة التشريعية والمجلس الإداري هناك يقعان تحت إمرة رئيس الإدارة البريطانية مؤكدا القول أيضا بأن لطرابلس تاريخا طويلا وعددا من الأحزاب السياسية المعروفة وأنه يبدو أن اختيار ممثلي طرابلس يعد أمرا سهلا عندما يتم التشاور مع قادة هذه الأحزاب وعلى ذلك أوصى السيد عبدالرحيم خان ممثل الباكستان باتباع هذه الطريقة وصولا إلى الحل التوافقي الذي يرضى عنه المجلس والمندوب.
عقب هذه الاجتماعات والحوارات المدونة في تقارير الأمم المتحدة فضل المجلس الاستشاري أن يتمهل في إبداء رأيه النهائي في الموضوع إلى أن ينتهي أعضاء المجلس بالكامل من القيام بزيارات مختلفة للأقاليم الليبية يتاح لهم فيها الوقوف بأنفسهم على الأحوال والظروف قبل تعيين ماينبغي عمله لتنفيذ قرار الأمم المتحدة بتكوين الجمعية الوطنية.
في الثاني عشر من يونيو 1950 وهو اليوم الذي افتتح فيه الأمير إدريس مجلس نواب برقة في بنغازي واصل المجلس الاستشاري بحثه لمشروع السيد إدريان بلت بعد عودة أعضائه من جولاتهم في برقة وفزان. وذكرت التقارير الصادرة بالخصوص من السيد بلت أن السيد مصطفى ميزران ممثل طرابلس أبدى رأيه الذي تمثل في الدعوة إلى عدم إجراء إنتخابات بحجة أن إجراءها في الظروف السائدة في طرابلس سيؤدي إلى اضطرابات في البلاد من جهة ولأن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة لم يحدد طريقة تأليف الجمعية الوطنية من جهة أخرى.
وهنا أيد ممثلا مصر والباكستان السيد ميزران في مامضى إليه من رأي وانتقدا مشروع السيد بلت للأسباب ذاتها ولغيرها. وقال ممثل الباكستان إن مقترحات السيد بلت تتعدى نطاق قرار الجمعية العامة كما أنها لاتنال تأييد أغلبية الزعماء الذين يعارضون إجراء الأنتخابات على أية صورة في (الظروف الحاضرة) ثم قدم إلى المجلس مشروع قرار يقترح فيه إنشاء لجنة تحضيرية ووصفه بأنه غير ديمقراطي فهو يلائم الطريقة ذاتها التي اختارتها الجمعية العامة لتعيين ممثلي ليبيا الأربعة في المجلس (ثلاثة عن كل إقليم ورابع عن الأقليات).
ووفقا لهذه المناقشات والمجادلات والأخذ والرد بشأنها رفض المجلس الاستشاري في جلسته المنعقدة يوم الرابع عشر من يونيو 1950 مشروع قرار المندوب ومشروعا آخر قدمه ممثل الولايات المتحدة الذي أيد فيه مشروع المندوب المعدل ووافق المجلس هنا مع حرارة يونيو في طرابلس على مشروع قرار ممثل الباكستان وفيه أشار المجلس على المندوب بما يلي:
أ- أن يطلب إلى الأمير إدريس اقتراح أسماء سبعة ممثلين عن برقة.
ب- أن يستشير المندوب زعماء الأحزاب في طرابلس وأن يقترح على المجلس لأخذ رأيه بعد معرفة وجهات نظرهم في الموضوع أسماء سبعة أشخاص بارزين من طرابلس للأنضمام إلى ممثلي برقة.
ج- أن يطلب المندوب إلى رئيس إقليم فزان تعيين سبعة ممثلين يقومون بالتشاور مع ممثلي برقة وطرابلس المشار إليهم فيما سبق من أجل عقد اجتماع في طرابلس لايتجاوز ميعاده أول يوليو 1950 لوضع خطة تؤدي إلى اجتماع ممثلي سكان برقة وطرابلس وفزان بهيئة جمعية وطنية لتحقيق الغرض المنصوص عليه في قرار الأمم المتحدة.
تحقيقا وإنجازا لرأي المجلس وحسب ماورد في وثائق التقارير بدأ المستر بلت في استشاراته في اليوم نفسه وبعد أن اختير أعضاء برقة وفزان من الأمير إدريس والسيد حمد سيف النصر صرح المستر بلت بأنه اختار نهائيا سبعة ممثلين لطرابلس بعد أن أخذ بعين الاعتبار أولا القائمة التي قدمتها الأحزاب السياسية وبعد أن راعى كفاءة كل من المرشحين.
في اليوم الخامس والعشرين من يوليو 1950 دعا المستر بلت كل الأشخاص الذين شملتهم القائمة التي صادق عليها مجلس الأمم المتحدة في ليبيا لكي يشتركوا في عضوية لجنة الواحد والعشرين. وهكذا عقدت اللجنة أولى جلساتها بتاريخ 27 يوليو 1950 بطرابلس ووافقت على جدول أعمال يتضمن مسألة إيجاد الطريقة القانونية والدستورية التي بموجبها تجتمع الجمعية الوطنية وعدد الممثلين في هذه الجمعية وطريقة اختيارهم وكيفية اعتمادهم وتاريخ اجتماعه ومكانه ومسألة تمثيل الأقليات.
التقى الأعضاء من الأقاليم في طرابلس في اثنتين وعشرين جلسة كان آخرها يوم 30 إكتوبر 1950 وأسفرت تلك الجلسات عن إقرار خطة قادمة للطريق نحو المزيد من التطور الدستوري والبرلماني.. وإستقلال ليبيا.
.. والواقع أن إختيار ممثلي الأقاليم الثلاثة (برقة وطرابلس وفزان) في لجنة الواحد والعشرين خاض مخاضا عسيرا وصعبا في تلك الأيام والظروف للاستقرار في محطة يرتاح عندها الجميع وتبدأ منها انطلاقة كبيرة وجديدة لإنجاز التطور الدستوري في ليبيا بمشاركة هؤلاء الممثلين إنقاذا لليبيا من العديد من التربصات والأطماع التي كانت مستعدة وتنتظر حدوث أية انتكاسات أو مشاكل تنشأ عن ذلك المخاض العسير. لقد ظل السيد بلت والمجلس الاستشاري للأمم المتحدة في ليبيا في نقاشات استغرقت أياما ولياليَ في طرابلس وخارجها للوصول إلى توافق يرضي كل الأطراف صاحبة الصلة المباشرة.
وتحمل المستر بلت أعباء التنسيق والمشاورات فقد طلب منه المجلس القيام بذلك في طرابلس على وجه الخصوص بحسب ماله من إدراك وتمييز ومقدرة وعلى أن يسلك طريقة مماثلة للطريقة المنوه عنها في الفقرة السابعة من قرار الأمم المتحدة القاضي باستقلال ليبيا وأن يعدل تلك الطريقة بمطلق الحرية متى رأى ضرورة لذلك وأن يتشاور أيضا مع الإدارة القائمة في طرابلس بشأن الكيفية التي يتم بها اعتماد الممثلين السبعة الذين سيختارون لتمثيلها حتى يكون في مركز مماثل لمركز كل من ممثلي برقة وفزان وأن يتشاور مع الأمير إدريس في برقة ومع السيد حمد سيف النصر. وحدد المجلس له موعدا لايتجاوز يوم الحادي والعشرين من يونيو 1950 .
كانت هنا قد نهضت مشكلة تتعلق بتمثيل الأقليات في اللجنة المذكورة. والأقليات تعني في الغالب وتحديدا الإيطاليين في طرابلس دون غيرهم. وزاد المخاض حول هذه النقطة الجدلية وتدفق لحظة فلحظة. غير أن الصبر الذي ميز السيد بلت مع معونة المجلس مع رضاء بعض الأطراف.. أضاف حكمة ولطفا بمستقبل البلاد.
في الثامن عشر من يونيو 1950 حضر المستر بلت إلى بنغازي والتقى بالأمير إدريس بناء على رغبة ودعوة من الأمير نفسه الذي كان يود الاستزادة من بحث أمر اجتماع اللجنة المؤلفة من الواحد وعشرين عضوا. في هذا اللقاء الذي تم بين قصري المنار والغدير في بنغازي أثار الأمير مسألة ما إذا كان اشتراك الإيطاليين في اللجنة المعنية من شأنه أن يعتبر حكما مسبقا في تقرير الوضوع القانوني لأولئك الطليان في ليبيا بعد أن تعلن البلاد دستورها وتحقق استقلالها ورغب من السيد بلت أن يطلب مشورة المجلس حول هذه المسألة معربا له عن رأيه بأن هذه المشورة ستكون عونا كبيرا للحكومة في برقة ومجلس نوابها في المداولة للوصول إلى وجهة نظر للاتفاق على اختيار لجنة الواحد والعشرين. كان سؤال الأمير محددا للمندوب لأخذ مشورة المجلس وتحدد في التالي وفقا لمحاضر المجلس المذكور: (هل يعتبر المجلس أن إشتراك الإيطاليين في اللجنة المؤلفة من واحد وعشرين عضوا وفي الجمعية الوطنية ليس سابقة في تنظيم الوضع القانوني للإيطاليين عند استقلال ليبيا بعد وضع دستورها؟).
توجس أو حذر أو استباق لما هو قادم أو نظرة تمتلئ سياسة ودهاء من الأمير تظل تحمل وعيا لسد أية ثغرة قد تطيل أمد الأزمة المتوقعة. فهناك تاريخ قديم للطليان على امتداد ليبيا مفعم بالشراسة والعنصرية والفاشية والمعتقلات والقتل والتشريد واغتصاب الممتلكات والتهجير.. وكل ماتحت ذلك وينبغي مراعاته ووضعه في الحسبان. وقد كانت مشورة المجلس حول سؤال الأمير وحذره جاهزة في اليوم الرابع والعشرين من يونيو 1950 إذ اعتبر المجلس: (أن إشتراك الإيطاليين في اللجنة أو الجمعية المشار إليهما لايعد سابقة في تنظيم الوضع القانوني للإيطاليين بعد إصدار دستور ليبيا وإعلان استقلالها).
ثم تشكلت هيأة حكومية وشعبية تمثل برقة وتعبرعن رأيها من وزراء حكومتها وعضوها في المجلس الاستشاري وممثليها في لجنة الواحد والعشرين لبحث الموقف النأشئ عن احتمال إشراك عضو أجنبي عن الأقليات في طرابلس وقررت بأنه وفقا لمشورة المجلس القاضية بأن الاشتراك (لايعتبر سابقة) فهو يعني عدم وجود أي حق أو ادعاء للإيطاليين أو لغيرهم من الجاليات الأجنبية في طرابلس أو غيرها بطلب تمثيلهم السياسي في أي هيئات تأسيسية أو تشكيلات حكومية وأن لهم فقط تأمين حقوقهم المدنية والدينية والاجتماعية بموجب الدستور الذي سيوضع قياسا للمتبع في الدساتير الحديثة.
وأكدت أيضا بأنها لاتمانع الآن في وجود شخص أجنبي عن الأقليات في طرابلس إذا قرر الطرابلسيون أنفسهم قبوله معهم في لجنة الواحد والعشرين التي لها الحق في البت في موضوع تمثيل الأجانب من عدمه في الجمعية الوطنية إضافة إلى أنها لاتقبل تحميل برقة أية مسؤولية أو الاشتراك في أية نتائج غير صالحة في نظرها قد يسببها هذا القبول الأجنبي في اللجنة.
خلال تلك الأيام كان السيد حمد سيف النصر موجودا في تونس للعلاج وذهب إليه المستر بلت مع الحاج أحمد صوفو ممثل فزان في المجلس الاستشاري (وكان مع السيد أحمد مرافقا السيد سيف النصر ابن أخيه عبدالجليل)وتم تداول الموضوع باستفاضة وقد كان الموقف من السيد حمد بالرفض لتاريخ الطليان في ليبيا.
لكن تم الاتفاق في النهاية معه على القبول بوجود ممثل للطليان في اللجنة دفعا وابتعادا عما يسبب أي قلاقل في مسار التطور الدستوري القادم. ونشأت معارضات أخرى وعدم توافقات في المشاورات مع بعض الشخصيات البارزة التي أكدت بدورها بأن هناك عدم ارتياح جدي وعام حول فكرة تمثيل الأقليات وخصوصا عبر شخص يحمل الجنسية الإيطالية الواحد والعشرين. إرتكزت المعارضة هنا على أساس أن (أشخاصا يحملون جواز سفر أجنبيا يجب أن لا يشتركوا في تطور ليبيا الدستوري)!.
وفي كل الأحوال تم اختيار الممثلين السبعة عن كل إقليم حسب الأتي: 1. برقة. (محمود بوهدمة. عمر شنيب. رشيد الكيخيا. خليل القلال. أحمد عقيلة الكزة. الطائع البيج. عبدالكافي السمين.)
ويلاحظ أن خمسة منهم كانوا أعضاء في مجلس نواب برقة. وفي طرابلس عقب التشاور بين المستر بلت والأحزاب والهيئات السياسية التي التقاها هناك وهي: حزب الاتحاد المصري الطرابلسي. حزب الاستقلال. حزب الكتلة الوطنية الحرة. حزب العمال. حزب الأحرار. المؤتمر الوطني العام. الجمعية السياسية لترقي ليبيا وهي مكونة من عرب وطليان. الرابطة الديمقراطية وهي جلها من الطليان فقد اختير: (محمد أبو الأسعاد العالم. أبوالربيع الباروني. سالم المريض.علي رجب المدني. أحمد عون سوف. عبدالعزيز الزقلعي. والإيطالي جياكومو ماركينو).
وكان حزبا الاستقلال والكتلة الوطنية قد رفضا تقديم قائمتيهما إجابة لطلبات المندوب المستر بلت وكان عذرهما في ذلك أنهما يعارضان مبدأ التمثيل على قدم المساواة بين الأقاليم الليبية الثلاثة.
كما رفضت الجمعية السياسية لترقي ليبيا تقديم قائمة بمرشحيها أيضا فيما صارت القوائم التي اقترحتها أحزاب أخرى وكانت مماثلة لا فرق بينها واختير من فزان.. (سي المهدي بن هنية وكان قاضيا لغدامس التابعة حينها للإقليم. طاهر الجراري. علي بديوي. محمد بن عثمان الصيد. بلقاسم بوقيلة. أحمد الطبولي. علي المقطوف.)
في مفتتح اجتماعاتها الذي عقدت في طرابلس 27 يوليو. 1950.. تحدث المستر بلت أمام لجنة الواحد والعشرين بكامل أعضائها في قاعة فندق جراند هوتيل قائلا: (يطيب لي أن أشهد اليوم بصفتي مندوب الأمم المتحدة أول اجتماع لأول هيأة تمثل ليبيا كلها في تاريخ هذه البلاد الحديث وهذه المناسبة من الأهمية بمكان فالوحدة أصبحت قريبة المنال وانبثقت الآن أنوار الاستقلال الحقيقي التام. إن مهمتكم سهلة ولكنها خطيرة الشأن فعليكم أن تتخذوا الإجراءات اللازمة لاجتماع الجمعية الوطنية أي الهيأة التي ستعرب عن رغبات الشعب فيما يختص بشكل حكومته المرتقبة والقواعد المدنية والسياسية التي سوف يجري بمقتضاها تصريف شؤونه في المستقبل.) ثم تحدث السيد عمر شنيب وجاء في حديثه.. (يسرني باسم وفد برقة في هذه اللجنة وباسم الأمير إدريس أن أقدم الشكر على ماقمت به وما تقومون به من الأعمال المشرفة في سبيل استقلال ليبيا.
وهذه مناسبة سعيدة أتيح لنا فيها أن نتكلم باسم ليبيا جمعا لاستكمال لوازم استقلالها. إن الواجب الذي يلقيه علينا التاريخ سيكون منه حكم قاسٍ لنا أو علينا ولذا فلا شئ يمكن أن يعرقل استقلالنا إلا أن نكون نحن وحدنا.. ونحن بناة الاستقلال ونحن الذين دفعنا الثمن ولاقوة في الدنيا تستطيع أن تحرمنا من حقنا).
فيما أشار سي المهدي في حديثه عن فزان.. (أحييكم باسم عموم أهالي فزان ومنطقة غدامس وأرجو أن نوفق لما فيه صلاح أقاليمنا الثلاثة وأن يكلل عملنا بالتوفيق والنجاح) ثم تحدث الشيخ الباروني ممثل طرابلس.. (سنشرع اليوم بعون الله وتوفيقه في وضع قواعد دولتنا ولنهتف بحياة الزعماء العاملين وعلى رأسهم الأمير السنوسي والزعيم السعداوي وبحياة الأمم المتحدة).. وامتد الطريق طويلا اعتبارا من يوليو 1950. والغاية هي إرساء الحجر الأساس للتطور الدستوري الليبي .
دامت أعمال لجنة الواحد والعشرين في عدة اجتماعات متواصلة. نقاشات وأخذ ورد ومشاورات مع مندوب الأمم المتحدة المستر بلت والمجلس الاستشاري المتواجد في طرابلس؛ حيث تعقد تلك الاجتماعات للجنة. استغرقت هذه الأعمال والاجتماعات الفترة من الصيف إلى الخريف. بدأت في يوليو 1950 وانتهت في الثلاثين من أكتوبر منه. اثنتان وعشرون جلسة بالتمام. ومحاضر وثقت كل الآراء وما دار عبر تلك الجلسات في جراند هوتيل المطل على كورنيش طرابلس.
في مستهل أول الاجتماعات اختير الشيخ محمد أبوالأسعاد العالم باعتباره أكبر الأعضاء سناً رئيساً للجلسات وعلي رجب المدني أصغر الأعضاء سكرتيراً.
اعتنت اللجنة بأمورها وتنظيمها منذ البداية لكي يسير العمل بالصورة القانونية المرضية فاقترح رئيسها تأليف لجنة فرعية سداسية تقوم بوضع مشروع للائحة الإجراءات الداخلية وتمت الموافقة على هذا الاقتراح وصار تأليف اللجنة من السادة: رشيد الكيخيا وخليل القلال وأبوالربيع الباروني وعلي رجب وطاهر الجراري ومحمد عثمان الصيد، تتولى إعداد اللائحة وقد انتهت منها وقدمتها للموافقة التي نالتها من اللجنة بالكامل وعلى ضوء إصدار اللائحة انتخبت اللجنة بالإجماع الشيخ أبوالأسعاد رئيساً للجنة الواحد والعشرين والسيدين خليل القلال من وفد برقة ومحمد عثمان الصيد من وفد فزان سكرتيرين للجنة المذكورة.
كان أهم عمل أمام اللجنة يتطلب إنجازه هو كيفية تكوين الجمعية الوطنية وتحديد أعضائها والإجابة عن ثلاثة أسئلة ووضع أجوبة وحلول لها وهي:
1- تحديد العدد الذي تتكون منه الجمعية.
2- هل يكون التمثيل في الجمعية بالتساوي بين الأقاليم الثلاثة أو بنسبة عدد سكان كل إقليم منها.
3- هل يكون التمثيل بطريق الانتخاب أو بالاختيار
4- كيفية الاختيار إذا ووفق على هذا المبدأ.
5- تحديد موعد انعقاد الجمعية الوطنية ومكان اجتماعها.
وعلى هذا الأساس وإجابة لمحاور هذه الأسئلة المهمة التي ستضع حجر الأساس الدستوري لليبيا والشروع في تجربتها البرلمانية الجديدة استمرت في مداولاتها وانتهت بتحديد عدد أعضاء الجمعية بستين عضواً والتمثيل خلالها يكون بالتساوي.. عشرون عضواً عن برقة وبالمثل عن طرابلس وفزان. ثم كانت العقبة التي كثيراً ما تخللت المناقشات هي في التمثيل اختياراً أو انتخاباً. وطالت النقاشات هنا فقد وافق وفدا برقة وطرابلس على أن يتم ذلك (اختياراً) ويقوم به الأمير إدريس في برقة ويقوم به في طرابلس الشيخ محمد أبوالأسعاد العالم.
وهنا رفض السيد حمد سيف النصر مبدأ الاختيار وأصر وفقاً لبرقية وتعليمات أرسل بها في شهر أغسطس إلى وفد فزان بضرورة أن يتم التمثيل في الجمعية الوطنية (انتخاباً). وتأجلت المناقشات حول الموضوع كثيراً وظل سي المهدي بن هيبة رئيس وفد فزان ينتظر التعليمات الجديدة لكي يستطيع ووفده إبداء وجهات نظرهم الشخصية. ثم كان الرأي منه بأن تجرى الانتخابات في طرابلس تحت إشراف مندوب الأمم المتحدة وفي برقة تحت إشراف الأمير إدريس وفي فزان بأشراف السيد حمد سيف النصر. وظل الوفد على اتصال بالسيد سيف النصر وسافر إلى سبها لهذا الغرض وبعد الكثير من التوضيحات وإزالة الالتباسات نال اقتراح التمثيل بالاختيار رضا وموافقة السيد سيف النصر في نهاية الأمر حتى تسير الأمور إلى الأفضل.
وقد عرضت إلى ذلك كله بتفاصيل موثقة في كتابي (ليبيا مسيرة الاستقلال..ثلاثة أجزاء) الصادر في طبعتين في بيروت وبنغازي خلال 2011 و2012.
وبهذا تكون لجنة الواحد والعشرين قد هيأت المسائل بجهد كبير ووضحت معالم الطريق الدستوري القادم ونجحت في الخطة التي أوجدتها لكيان الجمعية الوطنية التأسيسية واجتماعاتها وطريقة تشكيلها ونفذت نصاً وروحاً الغرض الذي قامت من أجله لبناء الأساس الدستوري الليبي. ورأت أن الدرب الذي سلكه مندوب الأمم المتحدة في اختيار أعضاء لجنة الواحد والعشرين وما احتواه من طريقة عملية وأصولية سهل ويسر العديد من الجهود اختصاراً للوقت وعدم ضياعه.
في الرابع والعشرين من أكتوبر 1950 حضر المستر بلت الدورة الخامسة للجمعية العامة للأمم المتحدة في ليك سكسس. نظرت في تقريره السنوي عن القضية الليبية ثم قدم تقريراً لاحقاً أطلع فيه الأمين العام على مجمل القرارات التي اتخذتها لجنة الواحد والعشرين. وبمناقشة التقرير واستعراض تشكيل اللجنة وقراراتها أصدرت بناء على ذلك الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها التاريخي الثاني (الذي يغفل عنه الليبيون أيضاً) في السابع عشر من نوفمبر 1950 مؤكداً قرارها السابق في 21 نوفمبر 1949 وأوصت بالآتي:
أ- بأن تجتمع جمعية وطنية ليبية تمثل سكان ليبيا تمثيلاً صحيحاً في أقرب وقت ممكن وعلى كل حال في مدة لا تتجاوز أول يناير 1951.
ب- بأن تؤلف هذه الجمعية الوطنية حكومة ليبية موقتة في أقرب وقت ممكن على أن تضع نصب أعينها أول إبريل 1951 هدفاً لذلك.
ج- بأن تنقل الدولتان القائمتان بأعمال الإدارة في ليبيا السلطات تدريجياً إلى الحكومة الليبية الموقتة بطريقة تضمن إنجاز نقل جميع السلطات من أيدي الإدارتين الحاليتين (البريطانية والفرنسية) إلى حكومة ليبية مشكلة تشكيلاً صحيحاً قبل أول يناير 1952.
مفارقة أخرى ظلت لازمة مع مطلب الانتخابات أيضاً في ذلك الوقت ففي أثناء مناقشة هذا القرار في رحاب الأمم المتحدة وقبل أن تقره الجمعية العامة تقدمت مصر بطلب تعديل التوصية الأولى من القرار بحيث يكون (تجتمع جمعية وطنية ليبية منتخبة) بدلا من الصيغة المذكورة وكان هذا الاقتراح في الواقع كما تشير أوراق الأمم المتحدة ومحاضر المجلس الاستشاري معارضة لطريقة التمثيل في الجمعية الوطنية المرتقبة على قدم المساواة وبطريقة الاختيار كما قررتها لجنة الواحد والعشرين بعد عصف متواصل من الأفكار والأخذ والرد غير أن هذا (التعديل المصري المقترح) رفض بأغلبية أصوات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وهكذا رغم ما حدث هناك في نيويورك قرب تمثال الحرية ووفقاً لقراري الأمم المتحدة تشكلت الجمعية الوطنية الليبية التأسيسية وفقاً للخطة التي رسمها الليبيون في لجنة الواحد والعشرين المكلفة من مجلس الأمم المتحدة لليبيا بوضع طريقة تكوين الجمعية المذكورة كما تفيد المحاضر والتقارير الدولية.
.. وعلى السكة بدأ مشوار الجمعية الوطنية. ولم يكن الليبيون في ذلك كله مجرد (صناعة أجنبية)أو (أدوات في أيدي الآخرين)!
يتبع في الجزء التالي
_____________