سالم الكبتي
مرت ليبيا قبل إعلان استقلالها في الرابع والعشرين من ديسمبر 1951 بفترة بعيدة بتجارب نيابية مختلفة ومتعددة بدأت أولاها في أواخر العهد التركي عندما جرى العمل بدستور عام 1908. الذي عرف بإعلان الحرية أو بـ (تعميم حريت). كان عطله وأوقف العمل به السلطان عبدالحميد الثاني. وقد نشأ عن عودة ذلك الدستور إلى الحياة تكوين البرلمان أو مجلس المبعوثان في إسطنبول شارك في عضويته مندوبون مثلوا الولايات التابعة للدولة العثمانية المترامية الأطراف.. هنا وهناك.
في (ليبيا) تم اختيار نواب عن بنغازي وطرابلس وفزان من بينهم: عمر منصور الكيخيا ويوسف بن شتوان وسليمان الباروني ومحمد فرحات الزاوي ومصطفى بن قدارة وعبد القادر جامي. كان حضور هؤلاء النواب واضحا في معظم جلسات المبعوثان التي في الواقع لم يدم أجلها طويلا وأثاروا خلالها، وفقا للمحاضر التي نشرت، العديد من القضايا المحلية وشؤون الولاية في النواحي التعليمية والصحية وأمن الحدود والقوافل وخطوط المواصلات والهواتف وغيرها. لكن ظلت هذه التجربة البرلمانية الأولى في حياة ليبيا والليبيين السياسية تلوح صغيرة مثل الوشم في ظاهر اليد. إنها سرعان ماتوقفت بمجرد سماع دوي مدافع الاحتلال الإيطالي عبر الشواطئ الليبية أواخر العام 1911 فيما تفرغ الليبيون في مناطقهم كافة للقتال والمقاومة.
وكانت التجربة البرلمانية الثانية في فترات أعوام ذلك الاحتلال عندما وضعت إيطاليا قوانين أساسية (دساتير) وأصدرتها في برقة وطرابلس خلال الفترة السلمية التي توقفت فيها المقاومة ضدها.. إلى حين (1916_1923) فيما ظلت فزان بعيدة خلف تلال الصحراء عن هذا الذي يجري قرب ضفاف الساحل. ونشأ عن هذه التجربة قيام مجلس نواب برقة في إبريل 1921 بعد انتخابات في المدن واختيارات بين القبائل في الداخل. الكثيرون اعتبروا هذا المجلس أول برلمان نيابي عربي بمقاييس تلك الأيام. وفي طرابلس لم يحدث تأسيس أي مجلس مماثل رغم الوعود الإيطالية وصدور القانون الأساسي وكان ثمة مجلس شورى يتبع (الجمهورية الطرابلسية) التي تكونت في جامع المجابرة بمسلاتة عام 1918.
والواقع أن الفترة السلمية التي سادت برقة والتي تظل تحتاج إلى المزيد من العناية العلمية والدراسة المنهجية الجادة.. أنتجت مع وجود السيد إدريس السنوسي أميرا معترفا به يدير حكومة إجدابيا التي تشكلت برئاسته عام 1917.. شكلا واضحا وجديدا من التعامل السياسي الجديد الذي تعلم عبره السكان المحليون الانتخابات لأول مرة في تاريخ ليبيا في مدينتي بنغازي ودرنة فيما تم الاختيار في مناطق القبائل في البطنان والواحات والمرج والجبل بالطريق المباشر دون انتخاب. وقد ضم المجلس المذكور عقب الانتخاب والاختيار خمسين عضوا من المدن والدواخل وبعضهم مثل الإيطاليين والأقلية اليهودية. وعقد جلساته في مدينة بنغازي في أحد المباني الفخمة الذي أنشئ خصيصا لهذا الغرض ثم أضحى لاحقا مقرا للحزب الفاشستي وجرت فيه محاكمة عمر المختار بعد أسره في الجبل الأخضر في الحادي عشر من سبتمبر 1931. هذا المبنى دمر تماما في القصف الذي شهدته بنغازي في الحرب العالمية الثانية. وأعيد إعماره بعد الاستقلال وصار مقرا للمجلس التشريعي في ولاية برقة وبعد إلغاء النظام الفيدرالي عام 1963 ألحق المبنى بالجامعة الليبية وظل يحتوي مكتبتها العامة إلى العام 1974.
شهد مجلس نواب برقة فترتين نيابتين من 1921 إلى 1923 وترأسه السيد صفي الدين السنوسي ثم من 1924 إلى 1926 برئاسة الحاج أحمد مفتاح البناني أحد نواب درنة وأعيانها.
وخلال الفترتين المذكورتين ضبطت جلسات المجلس بلوائح داخلية ونظم وجداول أعمال وضبطت جلساته بمحاضر رسمية. وعرف النواب هنا معنى (الاستجواب) و (المداولة) و (الطعون) و (التصويت) وسواها من مصطلحات برلمانية معروفة.
إن هذه التجربة التي إاتبرها أبناء البلاد (محاولة وطنية) لمواجهة العدو الذي يحتلهم بأساليبه الديمقراطية والبرلمانية كما يدعي أمام العالم.. تعثرت كثيرا وأصابها العطب حين استولى الفاشيون بقيادة موسوليني النائب القديم في البرلمان الإيطالي الذي اعترض ورفض غزو ليبيا.. على السلطة في روما مع رفاقه ذوي الأحذية والقمصان السوداء أواخر عام 1922.
حاول الإيطاليون بلا هوادة في هذه الفترة ذات القبضة الحديدية والديكتاتورية الفاشية أن يجعلوا مجلس النواب يسير في ركابهم وأن يكون صوتا بلا كلام أو رجعا للصدى. وظلت أغلب جلساته تناصب العداء الواضح للأمير إدريس الذي اختار الهجرة إلى مصر عام 1923 بعد أن نكث الفاشيون بالوعود والمواثيق والاتفاقات التي سبقت مجيئهم إلى السلطة الأمر الذي لم يتمكن معه أغلب النواب من تحقيق أي شئ يذكر باتجاه إنجاح (المحاولة الوطنية) نتيجة لخداع السلطات الإيطالية لهم. وفي صفحات جريدة بريد برقة الصادرة في بنغازي تلك الأيام المزيد من تفاصيل مضابط تلك الجلسات ومايدور فيها وحالات العداء الواضحة وخطاب الكراهية الذي تديره إيطاليا وتضخه نحو الليبيين المتواجدين في الأقطار المجاورة وتتوعدهم بالفناء. وبهذا خبا ضياء المجلس وانطفأ في جنبات بنغازي الضيقة وتوقف تماما في نهاية المطاف.
ومن الملاحظ بعد هذه الفترة أن عمر المختار الذي ظل رمزا للمقاومة كان من ضمن شروطه التي أصر عليها ونادى بها في مفاوضاته المعروفة مع الجانب الإيطالي في اجتماع سيدي إرحومة قرب المرج في يونيو 1929: تكوين جمعية وطنية تقوم بسن دستور للبلاد ينشأ عنها مجلس نيابي وحكومة تدير الشؤون. غير أن الإيطاليين كعادتهم المزمنة ولوا ظهورهم للرجل الذي استمر ورفاقه في مقاومتهم ولم يأبهوا لتلك المطالب والشروط. وكانت غايتهم من كل ذلك في الواقع كسب الوقت للقضاء على جذوة المقاومة الوطنية ورموزها. إن الديكتاتورية والديمقراطية في كل زمن لاتلتقيان. وكانت مطالب وشروط عمر المختار وزعت ونشرت في عديد الصحف في العالمين العربي والإسلامي إحراجا لإيطاليا وتعريتها أمام رأيهما العام.
عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية في ليبيا عام 1943 وقيام سلطات الإدارتين البريطانية والفرنسية بإدارة الأمور في الأقاليم الليبية الثلاثة: برقة وطرابلس وفزان وعودة أغلب المهاجرين الليبيين إلى بلادهم.. حدث حراك سياسي كبير نشط فيه جميع المواطنين على اختلاف مستوياتهم خلال أعوام الأربعينيات الماضية تلمسا لطريق طويل وشاق يفضي بهم إلى الاستقلال والحرية فصدرت الصحف وتكونت الأندية الثقافية والأحزاب والجماعات السياسية في بنغازي ودرنة وطرابلس وغيرها وأنشطة أخرى مماثلة إلى حد متواضع في فزان البعيدة.
في برقة تحديدا كان يرعى هذه الأنشطة ولو من بعيد الأمير إدريس نفسه الذي أعلن استقلال برقة في أول يونيو 1949 وكان ذلك في الحقيقة تمهيدا (ضاغطا) لإعلان استقلال البلاد بالكامل وأدى ذلك إلى تكوين حكومات محلية ترأس إحداها عمر الكيخيا الذي كان صاحب تجربة سياسية في الأصل ومستشارا للأمير في حكومة إجدابيا وقبلها نائبا عن بنغازي في المبعوثان التركي إضافة إلى صياغة للدستور الذي أعلن عن صدوره في سبتمبر 1949.
وفي طرابلس نشطت بقوة كل الجماعات وفي مقدمتها حزب المؤتمر. واختيرت حكومة محلية أدارت الأمور هناك برئاسة السيد محمود المنتصر. وفي فزان انتخب السيد حمد سيف النصر لإدارة حكومتها. خطوط تقاطعت ثم التقت فيما بعد باتجاه الوطن الواحد بمزيد من الجهود مع الكثير من المشاق وتقطع الأنفاس في بعض الأحيان.
تلك الخطوات المتسارعة ذلك العام بلغت مداها بتشكيل مجلس للنواب في مايو 1950 ضم خمسين نائبا وصلوا إلى مقاعده بالانتخاب في المناطق الحضرية والقبلية في برقة. وكانت تجربة برلمانية جديدة أخرى بعد ظلام الاحتلال الإيطالي وأنجزت بعدة خطوات وإجراءات سنتابعها لاحقا.
وقبل ذلك كله ووصولا إليه – أعني إجراء الانتخابات وقيام مجلس النواب في برقة – تنبغي الإشارة إلى أنه كان من الأحداث البارزة التي نشأت وسط هذا الحراك السياسي والتفاعل في تلك الأعوام.. إعلان الأمير إدريس إستقلال برقة في 1 يونيو 1949 رغم تحفظ الكثير من القوى في داخل البلاد على هذا الإعلان الذي استوجبته ظروف ذلك الوقت. وقد أكد الأمير في الواقع عبر الإعلان توليه السلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية حتى تشكيل حكومة وطنية دستورية تصدر بأمره قانونا للانتخابات ويتكون بموجب هذا القانون مجلس للنواب. وتمنى الأمير في نهاية خطاب الإعلان من قاعة قصر المنار ببنغازي أن (تنال طرابلس بحكمة زعمائها الأفاضل مانالته أختها برقة وأن تتحدا في رئاسة واحدة) وبهذا أضحى الاستقلال أو الحكم الذاتي في برقة إيذانا باستلام مقاليد الأمور من الإدارة العسكرية البريطانية المؤقتة التي تولت ذلك اعتبارا من العام 1943. وصار رئيس الإدارة يسمى بالمعتمد البريطاني وتألفت أول حكومة محلية في برقة برئاسة د. فتحي عمر الكيخيا في 6 يوليو 1949.
وهنا أعاد التاريخ نفسه ولكن بطريقة أخرى وإن اختلفت التفاصيل. فقد رجع الأمير إدريس إلى إمارته التي غادرها إلى مصر عام 1923عقب وصول الفاشست للسلطة في روما. ولم تعد الحكومة (حكومة إجدابيا) بل أضحت (حكومة برقة) وسيتولى الأمير شؤون إمارته هذه المرة بمساعدة حليفته (بريطانيا) التي وقفت معه في الحرب العالمية الأخيرة ضد إيطاليا وسينفذ ومعاونوه الذين كان بعضهم معه في فترة إمارته الأولى.. خطوات مشابهة لما حدث سابقا من خطوات.
في اليوم الثامن عشر من سبتمبر 1949 صدر الدستور البرقاوي بمعاونة من بعض فقهاء الدستور والقانون في مصر ذوي علاقة برئيس الحكومة فتحي الكيخيا وهو رجل قانون أيضا وبالاستفادة من القوانين الأساسية الإيطالية التي مرت بها البلاد. تضمن هذا الدستور عشرة فصول وثماني وستين مادة بينت في مجملها حقوق الشعب وتفاصيل مسؤولية السلطات الثلاث ومجلس الوزراء ومجلس النواب والنظم المالية والخدمة المدنية وتعطيل الدستور عند الطوارئ ونظام القضاء وغيرها من الأسس.
على ضوء إصدار هذا الدستور ووفقا لقانون الانتخاب رقم (8) الصادر من وزير الداخلية في 17 إبريل 1950 تم الشروع في إجراء الانتخابات لترشيح أعضاء المجلس من 50 عضوا يتنافسون في مناطق المدن الانتخابية وعددها (9) في مدن بنغازي والمرج ودرنة وفي مناطق القبائل الانتخابية في نفس المدن وما حولها وعددها (41). تم فوز المرشحين الذين يمثلون هذه المدن والقبائل فيما عين الأمير لاحقا بموجب المادة (43) من الدستور أحد عشر عضوا في المجلس بعد انتهاء الانتخابات.
وشهدت أيام الانتخابات خلال مايو ويونيو 1950 الكثير من الوقائع فقد تصادف زيارة المجلس الاستشاري للأمم المتحدة برئاسة مندوبها أدريان بلت الوقوف على جانب منها وذكرها كثيرا في تقريره المقدم إلى الأمين العام للأمم المتحدة (في إبريل 1950 مرقونا بالآلة الطابعة وفي مجلد ضخم صادر في ذلك الوقت من المنظمة الدولية) أشار فيه: بأنها من خطوات التقدم الدستوري في البلاد. كما كان تنظيم الانتخاب دقيقا مصحوبا بجداول وبيانات وتوضيحات بناء على متابعة من الأمير نفسه ووزير الداخلية وكبير مفتشيها المستر كاسبلز. فقد حدد هذا التنظيم للناس الكثير من النقاط وشرح العديد من الغوامض.. فمثلا أشار إلى أنه لأغراض الانتخاب تقسم البلاد لثلاث مناطق رئيسية وهي بنغازي والجبل ودرنة وتقسم كل من هذه المناطق إلى منطقتين يكون لهما ممثلون بالمجلس.
ووضح التنظيم أن حدود المناطق الثلاث الرئيسية تكون في كلٍ من هذه الحالات تلك الحدود الإدارية المادية أما الحدود الفارقة مابين مناطق المدن الانتخابية ومناطق القبائل الانتخابية فتكون في كل من هذه الحالات حدود البلدية كما هو منصوص عليه في قانون مجالس البلديات. وظل التنظيم يضرب أمثلة على مايقول: (لفظة المنطقة الفرعية للانتخاب القبائلي معناها ذلك القسم أو الأقسام المعينة من منطقة الانتخاب القبائلي والمأهولة من أي قبيلة أو فرع قبيلة معينة أو من أي فرد من أفراد تلك القبيلة أو الفرع. فمثلا جميع الأمكنة في منطقة الانتخاب القبائلي لبنغازي منتشرة غير أنه أينما كان وجود أي فرد أو أفراد من قبيلة المجابرة فإنهم يشكلون قسما من المنطقة الانتخابية لتلك القبيلة. أما الأمكنة التي يقيم بها أفراد قبيلة المجابرة في المناطق الانتخابية لدرنة أو الجبل فهم في هذه الحالة لايعتبرون قسما من المنطقة الانتخابية لقبيلة المجابرة). وفي إبريل 1950 صدرت اللائحة الداخلية لمجلس النواب في كتيب طبع في مصر وصار متداولا بين الناس وتضمن سبعة أقسام اختصت بالشرح والتفاصيل المجلس ونظامه وجلساته وتأجيلها ولجانه الدائمة والخاصة والإجراءات وترتيب الأعمال والتصويت والعرائض والأسئلة والاقتراحات ومشروعات القوانين وعرضها وقراءتها مرة أولى ثم ثانية ثم ثالثة وإقرارها وقواعد السلوك في المجلس والجمهور والصحافة والسماح لهما بحضور الجلسات العلنية.
وظل مديرو المناطق خاصة في الدواخل يتابعون الإجراءات الخاصة بالانتخابات وبناء عليها ووفقا لمشاهداتهم يرفعون التقارير إلى الأمير لوضعه في صورة مايجري أولا بأول. ففي يوم 16 مايو 1950 أرسل مدير الأبيار سعد علي إرحومة تقريرا مفصلا أوضح فيه بعض الأمور المهمة ومايقترحه من إجراء يوم الانتخاب وذكر فيه: (لقد حررت على كل المشائخ تعهدات والتزامات بالشروط المذكورة في قواعد الانتخابات وحملتهم المسؤولية العظمى وعرضتهم للعقوبة القصوى إذا حصل من أي واحد منهم أي خلل في شرط من شروط الانتخابات من زيادة أو نقص أو إدخال من لايجيز إدخاله القانون إلى غير ذلك. وكله مذيل بإمضاءاتهم كل شيخ على حدته. ولكني رغم هذا كله لازلت متخوفا من تصادم ربما أدى إلى ما لا تحمد عقباه. يجد فيه أهل الضلال بابا يلجون منه إلى عقيدة الناس حول الموضوع. أو نكون بسببه أضحوكة القرن العشرين في القواعد الانتخابية أو يكون برهانا للغير في همجيتنا ومايسموننا به على مسمع من العالم أو على الأقل نقطة ارتكاز في إزعاج غير ملائم في الوقت الحاضر لهذا أتقدم برأي وهو أن أعتبر كل شيخ بأصوات أنفاره ولانحضر الأفراد إلى المركز تفاديا من هذا التصادم المتوقع. يعني نكتفي بالشيخ ليوقع أصوات أنفاره في بيان المنتخب أما إذا حضرت الأفراد فلابد من حدوث تصادم مهما كانت لدي من قوة لقمعها ومهما أعطيت من سلطة لاستعمالها وقصدي دائما التفادي للنتائج غير المرضية).
اتخذ المجلس مقره في بنغازي في المبنى الذي يضم رئاسة حكومة برقة والذي سيصبح بعد الاستقلال مقرا للمجلس التشريعي البرقاوي ثم لبنك ليبيا في شارع عمر المختار وافتتح الأمير المجلس في يوم 12 يونيو 1950 قبيل حلول شهر رمضان بأيام قليلة. واستمع بحضور النواب إلى خطاب العرش الذي ألقاه رئيس حكومته السيد محمد الساقزلي. عرض الخطاب إلى أمور الداخل والخارج والشؤون المالية والتعليمية والصحية والميزانية وسياسة الإنشاء والتعمير لخرائب الحرب وطلب التعويضات من إيطاليا ومحاربة الأمية ومراعاة الشؤون الاجتماعية وتوفير الغذاء والوقاية من الأمراض والنهوض بالزراعة ورحب الخطاب بشروع مجلس الأمم المتحدة في ليبيا في أعماله لتحقيق استقلال البلاد مؤكدا على شرعية مقرارات الأمم المتحدة الدولية ومساعدة الشعب الليبي وصولا إلى حل للقضية الليبية.
اختيرت هيئة المجلس وتكونت من الحاج رشيد منصور الكيخيا رئيسا وعوض لنقي نائبا له والنائبين المعينين منير البعباع وسالم الأطرش سكرتيرين للمجلس فيما واصل جلساته التي بلغت حتى يوم 4 يونيو 1951 إلى اثنتين وثلاثين جلسة ناقش فيها العديد من القضايا والأمور وسط اهتمام دولي ومتابعة عالمية للأمر الليبي وقرب تحقيق استقلاله في 24 ديسمبر 1951. وكان يدون المحاضر أولا بأول الأستاذان: أحمد فؤاد شنيب ومحمود التائب كما اقترح المجلس في فترة لاحقة اختيار السيد محمد رفعت الرمالي الموظف بوزارة العدل لتولي شؤون إدارة سكرتارية المجلس. كما تابع المجلس في دورته التي استغرقت عاما الكثير من شؤون المواطنين وشكاواهم وكانت الصحف الصادرة في بنغازي تنقل ما يدور به وتتداول أخباره. وقد فقد أحد أعضائه النائب عن مدينة درنه إبراهيم الأسطى عمر إثر حادث غرق قرب درنة في سبتمبر 1950.
وبعد افتتاح المجلس بيوم (13 يونيو 1950) وجه النواب.. عبدالرازق شقلوف وصالح بويصير ومصطفى بن عامر وإبراهيم الأسطى عمر وعبد الحميد سعيد نجم رسالة إلى رئيس المجلس الحاج رشيد الكيخيا أشاروا فيها إلى ماحدث في إجراءات انتخاباته رئيسا مع نائبه السيد عوض لنقي: (بما أن المادة 47 من الدستور تشترط أن يصادق سمو الأمير على تنصيب الرئيس ونائبه. وبما أن التصديق السامي على تنصيبكما لم يحصل قبل الشروع فيما تداول فيه المجلس. فأن جميع القرارات التي اتخذت أثناء الجلسة ماعدا الإجراء الذي أسفر عن انتخابكما.. تعتبر باطلة بحكم الدستور الذي لايعتبر المجلس مرؤوسا برئيس شرعي مالم يصادق سمو الأمير على تنصيبه. ومعلوم أن كل إجراء يتخذه المجلس بدون رئيس شرعي باطل دستوريا وقانونيا. ومعلوم أيضا أن المجلس لم يحط علما بالمصادقة السامية التي تخوله مواصلة أعماله برئيسه الشرعي قبل الشروع في الإجراءات الأخرى. وبما أن الفقرة 2 من المادة 51 من الدستور تنص على أن تدوم دورة مجلس النواب إلى أن يأمر الأمير بفضها فإننا نعتبر الدورة لاتزال مستمرة وبناء على ماتقدم نطلب منكم اتخاذ الخطوات اللازمة لإصلاح هذا الخطأ الدستوري لاستدعاء المجلس للاجتماع في أقرب فرصة واستئناف جلساته والنظر فيما لديه من الأعمال الأساسية الهامة طبقا لأحكام الدستور التي نحرص جميعا على المحافظة عليها في مستهل حياتنا النيابية).
وعموما سار مجلس النواب في برقة بخطواته نحو ترسيخ التجربة البرلمانية وضم الكثير من الوطنيين الذين حرصوا على مراعاة الدستور القائم والقوانين النافذة. وقد أثار ذلك على الدوام اهتمام مندوب الأمم المتحدة في ليبيا ومجلسه. ثم اتجهت البلاد إلى تجربة أخرى مهمة في تاريخها البرلماني والنيابي برعاية دولية تصل بها إلى حلم أبنائها منذ زمن بعيد.
كانت تلك الخطوات البرلمانية الأولى التي خاضها الليبيون وإن اختلفت أشكالها -عثمانية وإيطالية ومحلية-في مجملها مع تعثر بعضها في الطرقات بدايات وإرهاصات للانطلاق وترسيخ التجربة الدستورية أو النيابية في ليبيا المعاصرة. غير أن القفزة الكبرى لهذه التجربة كانت ناتجة عن صدور القرار التاريخي رقم (289)الصادر عن هيئة الأمم المتحدة في ليكسس في الحادي والعشرين من نوفمبر 1949 الذي قضى بالاعتراف العالمي بأستقلال ليبيا في موعد أقصاه الأول من يناير1952 وعلى أن يشرع الليبيون في وضع دستور لبلادهم .
في ضوء هذا القرار المهم الذي يتجاهله الليبيون دائما وتقديرا من العالم بأسره لنضالهم في سبيل حريتهم ووصولا بهم إلى دولة ذات سيادة ودفعا بهم نحو الاستقلال المنتظر عينت الأمم المتحدة مندوبا لها في ليبيا للعمل على تنفيذ هذا القرار ومتابعة خطوات إنجازه ودعمه ومساعدة أهل البلاد لتحقيق ذلك الاستقلال.
كان المندوب هو السيد إدريان بلت. من هولندا صاحب الخبرة القانونية والدبلوماسية والدولية منذ أيام عصبة الأمم الذي بذل جهدا شاقا في سبيل الوصول إلى شاطئ السلامة وسط الأنواء والعواصف المحيطة. شاركه في ذلك المخلصون من الليبيين وتم تكوين مجلس استشاري من بعض الدول ذات العلاقة بالقضية الليبية وهي :مصر وفرنسا وإيطاليا والباكستان وبريطانيا والولايات المتحدة إضافة إلى مندوب عن كل إقليم من الأقاليم الليبية الثلاثة وآخر يمثل الأقليات في ليبيا وتحديدا الجالية الأيطالية التي كانت تمثل نسبة من السكان في مدينة طرابلس وماحولها.
بدأ المستر بلت ومعه المجلس عملهما اعتبارا من إبريل 1950. وقاما بزيارة كل الأقاليم واستطلعا كل الآراء ووجهات النظر بها وعملا على تقريب تلك الوجهات وتجسير الاختلافات وسد الثغرات. وكانت المهمة في واقع الأمر نبيلة في معظمها وفي نصفها الآخر صعبة وشاقة وتنهض أحيانا معها مشاكل وعدم توافقات.
وفي الرابع من سبتمبر 1950 أرسل المستر بلت تقريره الأول وكان ممتازا ودقيقا للغاية إلى (جناب المستر تريجفي لي الأمين العام للأمم المتحدة) لعرضه على الجمعية العامة وبحثه في دورة إنعقادها (الخامسة المقبلة).
والتقرير كما نوهت سابقا مايزال مرقونا على الآلة الطابعة وفي مجلد ضخم يحتويه منذ تلك الأيام وهو يختلف عن دراسته اللاحقة عن الحالة الليبية واحتواها في الغالب الأرشيف الخاص في الأمم المتحدة.
يقول المستر بلت في مستهل تقريره بأن: (الجمعية العامة قصدت باتخاذها القرار الخاص بالتصرف في أمر المستعمرات الإيطالية السابقة أن تكون ليبيا التي تشتمل على برقة وطرابلس وفزان دولة مستقلة ذات سيادة بأسرع مايمكن في موعد لايتجاوز أول يناير 1952 . وأنة يقر الدستور وشكل الحكم ممثلو سكان ليبيا مجتمعين بهيئة جمعية وطنية.
وإني لعلى يقين على رغم من وجود عقبات وصعوبات خطيرة معتمدا على الرغبة الشديدة لكل ليبي في أن تصبح بلاده مستقلة في أقصر وقت ممكن.. من أن الغرض من قرار الجمعية العامة سيتحقق في الموعد المحدد وربما تحقق قبل ذلك)!.
ويواصل تقريره الدقيق بالقول المركز: (ومهما كان الأمر سيواجه الشعب الليبي عدة مشاكل خطيرة في أثناء السنوات المقبلة قبل أن يتم له إنشاء إدارة ناجحة ونظام مالي سليم الأسس واقتصاد قوي البنيان لكي يرتفع مستوى معيشة الشعب الليبي تدريجا. ولإدراك هذه الغاية يحتاج الشعب الليبي إلى مساعدة فنية ومالية من الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة وحكومات الدول الأعضاء كما تشرفت من قبل بتوجيه نظركم إلى ذلك عدة مرات. وإني أشترك مع سكان ليبيا اشتراكا تاما في اعتقادهم أن الأمم المتحدة قد جعلت لنفسها باتخاذها القرار الصادر في يوم 21 نوفمبر 1949 مسؤولية خاصة إزاء بلادهم.
ويمكن السير في سبيل الاضطلاع بهذه المسؤولية بإرشادهم فيما يختص بالتطور الدستوري لبلادهم وتقديم مساعدة فنية إليهم ولكن يجب العمل أيضا على تقديم مساعدة مالية إليهم في الفترة التي تسبق إعلان الاستقلال وبعدها عن طريق الأمم المتحدة والمصادر الحكومية أو الخاصة. ولتفادي انقطاع المساعدة المالية والفنية عن ليبيا بعد أن تصبح مستقلة وقبل أن تصبح عضوا في هيئة الأمم المتحدة أود أن أقول مرة أخرى أن الحاجة ماسة لكي تتخذ الأمم المتحدة على وجه السرعة.. قرارا يخول لليبيا بعد أن تصبح مستقلة وقبل أن تصبح عضوا في هيئة الأمم المتحدة الحصول على مساعدة من الأمم المتحدة).
وقد شمل ذلك التقرير المهم من المستر بلت معلومات وافية عن الأقاليم الثلاثة فيما يخص تقدمها الدستوري في ذلك الوقت اعتمد فيها المستر بلت على ماورده من المعتمد البريطاني في برقة ورئيس الإدارة البريطانية في طرابلس والسلطات الفرنسية في فزان.
وذكر بأنه في برقة وضع الدستور الخاص بها عقب إعلان استقلالها الذاتي وتألفت حكومة لها مطلق التصرف في الشؤون الداخلية وأن الأمير ومجلس الوزراء يعاونهما لفيف مختلط من الموظفين المختلطين من برقة وبريطانيا .
وصدرت قوانين تتعلق بالجمعيات والصحافة والمحاكم والقذف والسب والجرائم المدنية والخدمة المدنية ومال التأمين وتسوية منازعات القبائل والجنسية وقانون الانتخاب الذي على ضوئه أسس مجلس النواب وافتتح في يونيو 1950.
وفي طرابلس شملت خطوات التقدم الدستوري مراحل ثلاث تتعلق بإيجاد مجلس إداري وافتتاح جمعية تشريعية ونقل تدريجي للسلطات والمسؤوليات من الإدارة البريطانية إلى المجلس الإداري والجمعية التشريعية.
كان القصد من إيجاد المجلس الإداري في طرابلس هو وضع هيئة تشريعية تحت تصرف أهالي طرابلس تكون ذات شأن بحيث يمكنهم عن طريقها أن ينقلوا إلى رئيس الإدارة وجهات نظرهم حول الأمور التي تتناول مصلحة الأقليم وإعطاء الذين سيدعون فيما بعد لتحمل المسؤولية السياسية فرصة اكتساب الخبرة في شؤون الحكم. وعلى الرغم من أن مهمة هذا المجلس كانت في الواقع استشارية بالدرجة الأولى فإن رأيه ظل يؤخذ في جميع الشؤون الداخلية وقد عقد جلسته الأولى في الخامس عشر من مايو 1950 وتناقش مع رئيس الإدارة وأسدى إليه عدة مشورات حول مختلف المسائل المتعلقة بسياسة البلاد الداخلية والتي هي ذات أهمية إدارية. المجلس في نظري كان بمثابة حكومة محلية مصغرة.
ولم يقع افتتاح الجمعية التشريعية المقترحة أو مجلس النواب هناك لأنه ظل ينتظر صدور إعلان قانون انتخابي الذي أعدت مسودته وجرت مناقشته مع المجلس الإداري في الرابع من يوليو 1950 وتناولت هذه المناقشة على العموم مسودة المواد التي تتعلق بالأهلية للاشتراك في التصويت. وتاريخيا لم يتحقق هذه الإنجاز الذي لو تم لأضحى بدوره خطوة دستورية بالغة الأهمية في تاريخنا الدستوري المعاصر وتجربتنا الليبية البرلمانية.
وفي فزان البعيدة عن الساحل ورائحة الشمال مضى تقدمها الدستوري بشروع السلطات الفرنسية أوائل عام 1950 في إدخال نظام انتقالي يرمي إلى تمكين السكان من الاشتراك في إدارة الشؤون العامة على نطاق أوسع مع الأخذ بعين الاعتبار الحالة الخاصة التي يتميز بها الإقليم الذي تمتد رقعته في مساحة شاسعة تتناثر فيها مناطق مأهولة تفصلها بعضها عن بعض بطاح مترامية من الصحراء إضافة إلى أن أولئك السكان يضمون أجناسا مختلفة متباينة العادات ويختلفون أيضا في طرق معيشتهم: فبعضهم مستقر وبعضهم من البدو الرحل والبعض الآخر من البدو شبه الرحل ولم يكن في الإقليم بأجمعه ثمة مركز حضري كبير واحد.
وبناء على قرار المقيم الفرنسي لفزان في 20 يناير 1950 دعيت الجماعات (وقد أشير إليها ضمن التقرير بأنها مؤسسة سياسية يرجع تاريخ تنظيمها في جميع البلدان البربرية وهي هيئة تقليدية قديمة تتألف من رؤوساء العائلات وهي لذلك جمعية شعبية حقيقية ولها سلطان كامل لاتفوضه إلى غيرها وتعتبر الهيئة الوحيدة التي إلى جانب كونها قضائية فهي تنفيذية أيضا والشعب يتخذ قراراته وينفذها بنفسه).
ومع تلك الجماعات أيضا تم دعوة رؤوساء القرى للاجتماع في المراكز التابعين لها لأجل تسمية ثلاثة ممثلين عن كل مديرية وثلاثة ممثلين عن منطقة غدامس. ثم اجتمع هؤلاء الممثلون في سبها في شكل جمعية بتاريخ 12 فبراير 1950 وشرعوا في انتخاب رئيس للأقليم.
وقد انتخب هؤلاء الممثلون الثمانية والخمسون في هذه الجمعية السيد حمد سيف النصر بالإجماع رئيسا لإقليم فزان. غير أن ممثلي الطوارق وفقا لثنايا التقرير وسطوره رفضوا الاشتراك في الانتخاب وذلك لرغبتهم في المحافظة على سلامة روابطهم مع (اتحاد الأزجر) التابعين له. ثم شرع في تطبيق نظام دستوري للحكومة فكانت أولى الخطوات التي اتخذت في هذا الشأن هي تعيين مستشارين ومساعدين بالاتفاق مع السيد حمد سيف النصر لمساعدته في إدارة شؤون الإقليم الداخلية.
وانطلاقا من تجميع الآراء ومعرفة وجهات النظر وتخطي العقبات وبالاستفادة من التجربة المحلية وصل المندوب ومجلسه إلى الخطوة الدستورية الأخرى.. تشكيل لجنة الواحد والعشرين. كانت هذه اللجنة هي حجر الأساس للتطور الدستوري المعاصر في ليبيا التي تسير نحو استقلالها في الرابع والعشرين من ديسمبر 1951.
يتبع في الجزء التالي
_____________