مفهوم التعددية

مفهوم التعددية هو أحد المفاهيم المستقاة من الأدبيات والنظريات الغربية ويعد الاقتصادي “فيرنيفال” هو أول من “صاغ مفهوم التعددية والمجتمع المتعدد” في النصف الأول من هذا القرن، وصاغ منه نظرية عامة عن “التعددية الثقافية”. ثم تتابعت أعمال الباحثين الغربيين حول هذا المفهوم ومن ذلك دراسة “جون ركس” عن “المجتمع المتعدد في النظرية السيسولوجية” كما تعد أبحاث “كرادفورد يونج” من أهم ما قدم في هذا الصدد حيث ميز بين مدارس فكرية خمسة لدراسة “التعددية” وهي المنطقة: بالتعددية الثقافية (كما صاغ أفكارها فيرنيفال وسميث)، وبحوث الصراع السلالي، ودراسات التكامل القومي، وأيضا الدراسات الخاصة بالقومية، ثم الدراسات الخاصة باللغويات الاجتماعية.

وبناء على ما سبق فإن المجتمع التعددي وفقا للصياغة الأساسية لفيرنيفال هو المجتمع الذي يعتمد تكوينه على اختلافات وتميزات ثقافية بارزة بين جماعاته المختلفة، وقد لاحظ أن مجرد وجود الإختلافات الثقافية ليس برهاناً ولا دليلاً كافياً على وجود التعددية، فحتى تعتبر هذه الاختلافات برهانا ًعلى وجود التعددية لا بد وأن تحتوي على اختلافات جوهرية في المؤسسات الأساسية للجماعات الثقافية المختلفة، بل وأكثر من هذا لا بد وأن تؤدي هذه الاختلافات إلى حدوث تعارض بين هذه الجماعات وباقي المجتمع بحيث يحتاج الأمر إلى استخدام القوة التي عادة ما يتم تركيزها في أيدي قسم ثقافي واحد في المجتمع.

والواقع أن مجرد وجود الاختلافات الثقافية قد ينظر إليه عليه أنه مجرد نوع من عدم التجانس. وهنا يثور تساؤل عن الفرق بين التعددية وعدم التجانس، وبعبارة أخرى هل المجتمع المتعدد هو بالضرورة مجتمع غير متجانس؟، أم أنه من الممكن أن يكون متعدداً ولكنه في نفس الوقت متجانس. ويرى البعض أن ظاهرة التعددية هي موجودة في كل المجتمعات، فلا يخلو أي مجتمع من وجود جوانب تعددية، فالتعددية في نظر البعض هي صورة من صور “التدريج الاجتماعي”، ومن ثم فهي لا تمثل سمة أساسية للتميز بين المجتمعات.

بل أن البعض يتساءل حول “ما إذا كان مفهوم التعددية ذاته مفيد على الإطلاق في تحليل الإنسان الاجتماعي أم لا؟”.وقد أجاب البعض على هذا السؤال بتقرير أن “التعددية مفهوم مهم وله دلالته وينبغي أن يؤخذ في الحسبان في تحليل الإنسان الاجتماعي، فالتعددية ليست حقيقة مطلقة لمجتمع دون غيره، وأنها تتدرج ويمكن قياسها، وأنها مفهوم لا يمكن تجاهله في التحليل الاجتماعي”. والبعض الآخر ينظر إلى هذه “التعددية” التي هي “صفة ثقافية” على أنها “تعددية مجتمعية”، وهي في حالة المجتمع العربي تمثل معطى تكويني وتاريخي وهي بهذا الشكل محايدة قيمياً وأخلاقياً. والاشكالية لا تكمن فيها في حد ذاتها ولكنها تكمن في كفالة حقوق وأمن التكوينات الاجتماعية المختلفة بشكل لا يهدد تماسك المجتمع وإيجاد الصيغة أو الصيغ الملائمة لتحقيق ذلك.

ولقد شهد التاريخ البشري نظماً سياسية إمبراطورية، وقد كانت هذه النظم بحكم اتساعها وكونها مترامية الأطراف، كانت تضم بالطبع شعوباً وأقواماً وقبائل متعددة، مما جعل “التعددية” في صورتها الثقافية واللغوية أمراً مقبولاً ومتصوراً، وفي التاريخ الإسلامي مثل نظام الملة العثماني أحد صور هذا القبول. إلا أنه في تطور الأمر فيما بعد إلى ظهور “الدولة الحديثة” في أوروبا ثم في الدول “النامية”، اتجهت معظم هذه الدول إلى بسط سلطتها المركزية على جميع رعاياها، وغالباً ما كان يحدث أن تسيطر جماعة ثقافية معينة وتفرض رموزها على باقي المجتمع.

وعلى الرغم من أن “الدولة الحديثة” كما ظهرت في أوروبا الغربية لم تكن دولة قومية “نقية” فإن “المفهوم المركزي للدولة القومية” قد شاع وانتشر بين الباحثين وبصفة خاصة في الدول النامية حيث أصبح موضوع “التكامل” هو أحد الموضوعات الهامة في ميدان التنمية السياسية والاجتماعية بغرض استكمال مقومات “الدولة القومية” وتحقيق “التجانس القومي” وذلك عن طريق “صهر الاختلافات القبلية والسلالية والدينية في بوتقة الهوية القومية الجديدة التي تحتضنها الدولة، وتم التعامل مع تلك الاختلافات على أنها أثر من آثار الماضي وسمة من سمات المجتمع التقليدي المتخلف الذي ينبغي تجاوزه” .

ومن ثم فقد ارتبطت دراسات التعددية بقضية “التنمية” في الدول “النامية” حيث تثار مشكلة “التكامل” بين الجماعات اللغوية والعرقية والقومية المختلفة ومحاولة صهرها ودمجها في إطار الدولة “النامية” من أجل الحصول على ولاء وطني يعلو فوق الولاءات ذات الطابع الطائفي أو اللغوي أو السلالي، وحيث ينظر إلى التكامل على أنه عملية  مستمرة ومتبادلة تهدف إلى منح المجتمع شعورا بالهوية والتضامن أو ما يسمى “بالتعاضد الداخلي ، وقد تتخذ دراسات التعددية مسميات أخرى مثل دراسات “الأقليات” أو “الطوائف”، والبعض يختزل قضية “التعددية” ليعتبرها تعبيراً عن مسألة الطبقات في المجتمع.

كما ترتبط دراسات “التعددية” أيضاً “بالديمقراطية” و “الحرية” كقيمة سياسية تعني بالاعتراف بالآراء المختلفة وحرية التعبير عنها، وهي في أحد أشكالها تأخذ شكل الأحزاب السياسية التنافسية وانقسام الحياة السياسية ما بين “حكومة” “ومعارضة” .

ويمكننا أن نجمل التعريفات المختلفة التي قدمت لهذا المفهوم في مجموعتين أساسيتين:

التعريفات الشكلية:

هي التي حاولت رسم حدود المفهوم وبيان معالمه بوجه عام، ويمكن تحديد أهم الملامح التي وردت في هذه التعريفات في أنها ربطت بين معنى “التعددية” وبين “التنوع” و “الاختلاف”. وربطت بين معنى “التعددية” حين يتعلق الأمر باحترام المعتقدات الدينية أو الأخلاقية، وبين الدور “الأيديولوجي” الذي يلعبه هذا المفهوم في صوره تبرير لوضع أو لمطالب جماعة أو فئة ما وذلك حين يتعلق الأمر بالوقائع الاجتماعية والاقتصادية. ومن ثم فقد تمت صياغة ما يمكن تسميته “بمعضلة التعددية” وهي: “أنه بغير تعددية يمكن أن يصبح المجتمع ضحية للشمولية، غير أنه في حالة توافر التعددية فإن الأقوى هو الذي يستفيد من الوضع ويفرض شريعته”

التعريفات الموضوعية:

فهي التي حاولت أن تنفذ لصميم الظاهرة، وهي قد تنوعت بحسب موضوع هذه التعددية إذا كان منصبًا حول العرقية، أم المجتمعية، أم الدينية، أم السياسية.

فهذه التعريفات تربط بين مفهوم “التعددية” وبين عملية التفاعل بين كتلتين اجتماعيتين وسياسيتين أو أكثر. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإنه يمكن أن تكون العملية السابقة تعبيراً عن تعددية في الأصول العرقية أو في اللغات أو الطوائف، أي أن تكون التعددية السياسية انعكاساً للتعددية الاجتماعية أو أنها تجد أصولها فيها. وفي كل الأحوال فأن كل من التعريفات الشكلية أو الموضوعية تربط بين تعريف التعددية وبين النظام السياسي والدولة والقانون أي أن التعددية التي نتحدث عنها في أبعادها السياسية لا تقتصر على مجرد الاختلافات والتنوع بين الجماعات المختلفة في مجتمع معين ولكنها تتعلق بالدولة ذات السيادة التي تشكل إطاراً يحدد العلاقات الاجتماعية والسياسية على مستوى المجتمع ككل، وأنها تعني أساسا بمشروعية تعدد القوى والآراء والاتجاهات السياسية وحقها في التعبير عن نفسها.

فالتعددية السياسية المرتبطة “بالديمقراطية الليبرالية” التي تعتمد نماذج في المنافسة السياسية قد لا تنطبق على العديد من المجتمعات الأخرى المعاصرة التي تكون مضطرة نظراً لطبيعة تكوينها إلى إتباع وسائل أخرى في الائتلافات الحكومية وفي المشاركة السياسية حتى لا تتحول أي جماعة معينة إلى أقلية دائمة. وبالتالي فإننا نميز بين نوعين من التعددية:

التعددية السياسية في المجتمعات الديمقراطية

حيث تتوزع السلطة بين فئات متجانسة. وتبدو التعددية السياسية وسيلة لتنظيم الحياة العامة على أسس مشتركة تقوم على مبدأ احترام الآراء والاتجاهات المختلفة وإعطائها الفرصة للتعبير عن نفسها. ومن ثم فإن التباينات في المجتمع الذي يعتمد التعددية السياسية هي تباينات متحركة تحسمها العملية الانتخابية والتحولات في الرأي العام التي قد تؤدي إلى إمكانية الانتقال من الأقلية إلى الأكثرية وبالعكس وتعني بصفة أساسية مبدأ التناوب في السلطة أو تداول السلطة.

المجتمعات التعددية “التعددية المجتمعية” 

التي تعني التعددية فيها حقيقة ترتبط بتكوين المجتمع ذاته فهو مجتمع تعددي أو متنوع فإن التباينات في مثل هذا المجتمع ليست تباينات في الرأي العام بل هي تباينات ثقافية أو لغوية أو عرقية أو طائفية. ولها حدود معينة وتتميز بالثبات وعدم التحرك. ومن ثم فإن القبول بتطبيق نظام تنافسي في أمثال تلك المجتمعات دون وضع ضوابط معينة قد يؤدي إلى نوع من عدم المساواة أو خلل أو قصور في المشاركة. والخطر يكمن حينما يحدث إدراك للتباينات داخل المجتمع المتعدد ويجرى تسييسها فهذا هو العنصر المولد للنزاعات بين التباينات المختلفة سواء أكانت اقتصادية أو ثقافية أو لغوية أو عرقية أو غيرها. وذلك عندما تشعر إحدى الجماعات أو المجموعات بما يسمى “الحرمان النسبي” أي “شعور الأشخاص بحرمانهم من حقوق بالمقارنة مع أشخاص آخرين في المجتمع”.

ونلاحظ أن معظم ادبيات عنيت بمفهوم “الوحدة” وأنتجت العديد من الأبحاث والدراسات والمؤلفات عنه، بينما نجد أن مفهوم التعددية لم يجد إلا بقدر ضئيل من هذا الاهتمام إذا قورن بمثله الذي حظي به مفهوم الوحدة. ولعل ذلك يرجع في جانب منه إلى أن الثقافة السياسية العربية عموما تنظر بعين الشك والريبة إلى هذا المفهوم وترى في جوانبه السلبية بواعث للفتنة يحسن إخمادها وعدم إثارتها. وإذا كان هذا يتعلق ببعض أنواع هذه التعددية لا سيما منها: العرقية والجنسية والدينية، …… الخ،.

أما غالبية الأدبيات الغربية فقد اعتنت بتأصيل مفهوم “التعددية السياسية” والإشارة إلى جذوره في الفكر السياسي الليبرالي الغربي وذكر من رواده “جون لوك” ـ المفكر الإنجليزي ـ في كتابه عن “الحكومة المدنية” عام 1689، حيث عارض “توماس هوبز” الذي تبنى الدفاع عن الحكم المطلق ورأي لوك على العكس من ذلك أنه لا ينبغي للسلطة الحاكمة أن تكون واحدية أو مطلقة وقد انطلق تأصيل هذا المفهوم من كتابات جون لوك إلى كتابات مونتسيكو، ثم جون ستيوارت ميل وجيفرسون عن التعددية ، ومن ثم فإن فكرة التعددية السياسية ظهرت في مواجهة الدفاع عن الحكم المطلق الذي بلوره الفكر الغربي حول مبدأ “السيادة” وكان أن نجح الفكر الغربي في إيجاد صياغة للتعددية السياسية تقوم على تعدد السلطات إلى ثلاث واعتماد مبدأ الفصل بينها ومبدأ الرقابة وعن هذا الطريق يمكن الحد من طغيان السلطة وقد ارتبطت التعددية في الأدبيات الغربية بمفهوم أساسي هو الديمقراطية .والحديث عن التعددية السياسية ينقلنا بالضرورة إلى تناول التعددية الحزبية، باعتبارها الركيزة الأساسية.

أبو زيد عادل القاضي

_______________

المصدر: التعددية الحزبية وأنماط التحول الديمقراطي

مقالات مشابهة