هناك علاقة وثيقة بين النظرية الديمقراطية وتعدد الأحزاب، فتقوم هذه النظرية على أنه لا ديمقراطية بدون أحزاب، ويعتبر غياب التعدد الحزبي دليلاً على عدم ديمقراطية النظام السياسي. وينطلق هذا الإفتراض من تعريف الديمقراطية بكونها حكومة تعدد الأحزاب. ويشار إلى هذا النوع من الديمقراطية بعدد من المسميات، مثل الديمقراطية الغربية، والديمقراطية الليبرالية، والديمقراطية التعددية.
وينطلق هذا التصور من اعتبار أن المثل الأعلى السياسي هو قيم الديمقراطية الليبرالية، بحيث يصبح النموذج الديمقراطي الليبرالي القائم على تعدد الأحزاب هو النتيجة الطبيعية لعملية التطور السياسي. وكانت الليبرالية هي النسق الفلسفي الرئيسي للحضارة الغربية، طوال القرون الأربعة الماضية.
وكان بروزها وانتشارها على هذا النحو، تعبيرا عن الروح الجديدة التي غمرت القارة الأوروبية في نهاية العصور الوسطى، مع انهيار النظام الإقطاعي ـ الكنسي وانتصار الرأسمالية، وما صاحب هذه العملية من تحولات جذرية في البيئة المادية والفكرية. ووضع ذلك في الاكتشافات الجغرافية، نمو النزعة التجارية، وسقوط العلاقات الاقتصادية للعصور الوسطى، واكتشاف الطباعة، وما واكبها من سرعة انتشار المعرفة، والثورة العلمية التي غيرت آفاق تفكير الإنسان في الحياة وبزغت حركة الإصلاح الديني وفلسفة النهضة للمناداة بحرية الإنسان الفرد.
وظهرت البروتستانتية التي يري ماركس فيبر، في تحليله للعلاقة بينها وبين ما يسميه معنويات النظام الرأسمالي، أنها كانت قوة دافعة للديمقراطية. وأضحت المنطلقات الأساسية لذلك العصر هي الفرد، والعقل، والطبيعة، والسعادة، والتقدم. وأصبح العقل هو فلسفة الوجود، وتأكد الحق المطلق للإنسان في النقد والتحليل .
ومن أبرز نتائج هذا التطور أن المركز الاجتماعي، لم يعد هو الأساس القانوني للمجتمع، واحتل العلم مكانة محورية، كعامل يتحكم في تشكيل أفكار الناس. وسقطت فكرة أن العصر الذهبي للإنسان كان في الماضي، بفعل مذهب التقدم والاعتقاد في قدرة العقل الإنساني، على وضع أسس رشيدة لتنظيم المجتمع.أدي انتشار الاختراعات إلى جعل التغير سمة المجتمع بدلاً من الاستقرار. وفي مناخ الجديد، انتشرت الدعوة لأن يقرأ الإنسان ما يشاء، وأن يصور الفنان، وأن يعبر المفكر عن كل ما يريد. ومع حلول القران السابع عشر، برزت فكرة الحقوق الطبيعية للإنسان، التي عرفت بصفة عامة على أنها تشمل حق الحياة والحرية والملكية ن ولم تلبث أن اتسعت تدريجاً، لتتضمن حقوقا أساسية كحرية القول والتعبير والاجتماع.
وبصفة عامة، يمكن القول بأنه منذ القرن السابع عشر كان معظم مفكري الغرب قد انتهوا إلى المناداة بالحرية السياسية، وكان جوهر رسالتهم الفلسفية، هو العمل على تحرير الفرد من قيوده وقد مهد هذ المناخ، مع تباين وتنوع المصالح والانتماءات، لقيام أحزاب سياسية متعددة، يعبر كل منها عن اتجاهات وغايات قطاع أو فئة أو طبقة من المجتمع. وارتبط نمو الأحزاب السياسية، وساعدت على نشوئها عوامل مثل جمعيات الرأي والنوادي الشعبية والصحافة والنقابات.
ويلاحظ لدي دراسة دساتير دول الغرب الليبرالية أن الأحزاب نشأت ـ وتنشأ ـ فيها في ظل مناخ يتقبل وجود هذه الأحزاب وتعددها دون نص صريح في الدستور يقرر منح المواطنين حق تكوين هذه الأحزاب، عملاُ بالمنهج الذي يعتبر تكوين الأحزاب، حقاُ طبيعياُ مستمداُ من حق الاجتماع، وإنشاء الجمعيات وحرية الرأي والفكر والصحافة، والظاهرة الغالبة في الدول الليبرالية هي تعدد الأحزاب السياسية ـ ثلاثة أحزاب أو أكثر. ومع ذلك فإن يغلب على بعض هذه الدول، و خاصة ذات التقاليد الانجلو سكسونية، مثل بريطانيا والولايات المتحدة واستراليا، ظاهرة ثنائية الأحزاب الفعالة في الحياة السياسية، حيث يوجد حزبان كبيران، أحدهما يحصل على الأغلبية ويحكم، والثاني يقبع في المعارضة، ذلك مع وجود أحزاب صغيرة غير مؤثرة، ومن ثم فانه لابد من التطرق إلى الاسس والمفاهيم الحاكمة للتعددية الحزبية في الفكر الغربى، وكذا اهداف المراد تحقيقها من قامت هذه التعددية.
وقد وجد تعدد الأحزاب سنداُ قوياُ في المفاهيم الأساسية التي قامت عليها الديمقراطية الغربية، أما يعبر عنه أحيانا بالأساس الفلسفي لليبرالية والذي يقوم على عدد من المفاهيم الأساسية أهمها:
ـ مبدأ الفردية: المستمد من المذهب الفردي الذي يعد حجر الزاوية في الفكر الليبرالي، ويقوم على افتراض أساسي مؤداه أن الإنسان الفرد هو الحقيقة الأولى في الاجتماع الإنساني، وأن ذلك الفرد يتمتع ـ بحكم الطبيعة نفسها ـ وقبل وجود الدولة وسلطتها بحقوق وحريات طبيعية، وأن واجب الدولة وغايتها حماية تلك الحقوق حريات طبيعية، وأن مجموع المصالح الفردية يحقق في النهاية مصلحة الجماعة دون تدخل واسع النطاق من الدولة. وترتب على اعتبار الليبرالية أن الفرد حجر الزاوية في الفكر والمجتمع نتائج أهما اعتبار الفرد أسبق من المجتمع، وأن الفرد غاية في ذاته، وأن المبادأة الفردية تحمل في ثناياها بذرة ضرورية للخير الاجتماعي.
ـ مفهوم سيادة الأمة: ووفقا لهذا المفهوم، فإن المحكومين هم أنفسهم أصحاب القرار النهائي فيما يهمهم من أمور، أو ما يعبر عنه بأنهم المحكومون و الحاكمون في أن واحد. كان بزوغ هذا المفهوم، تعبيراُ عن الرغبة في الحد من السلطات المطلقة للملوك، وذلك بالقول بأن للأمة شخصية تختلف عن شخصية الأفراد وأن لها إرادة تعلو إرادتهم. وعلى أساس هذا المفهوم، صيغت دساتير أوروبا بعد الثورة الفرنسية تأثرا بأفكار جان جاك روسو في الإرادة العامة.
ـ مفهوم إرادة الأغلبية: وظهر هذا المفهوم انعكاسا لحقيقة أنه لا إجماع على شيء، وأن مجموع المواطنين لا يتخذون نفس الموقف، وإنما ينقسمون غالبا إلى أغلبية وأقلية. ولذلك جرى العمل على أن إرادة الأغلبية، هي التي تمثل إرادة الأمة، وعلى الأقلية أن تقبل بذلك.
ـ مفهوم حرية المعارضة: برز هذا المفهوم لمواجهة مشكلة أن مفهوم إرادة الأغلبية، لا يحل التناقض بين قضية السلطة وقضية الحرية بالنسبة للأقلية. ولذلك يجب الاعتراف لهذه الأقلية بحق المعارضة، أي حرية نقد رأى الأغلبية والدعوة إلي تغييره عن طريق كسب الرأي العام إلي صفها والمقصود بالمعارضة هنا المعارضة السلمية التي تعتمد على الرأي والإقناع.
ـ مفهوم الحريات العامة: وهو التطبيق العملي لمبدأ الفردية، وتشمل هذه الحريات حقوقاُ شخصية مثل حق الملكية حق الانتقال والحق في حياد القضاة، وحقوق معنوية مثل الحرية الدينية وحرية إبداء الرأي وحرية الصحافة والنشر والتعبير، وحقوقا سياسية مثل حق الانتخاب والتصويت وتكوين الجمعيات والانضمام إليها والمشاركة في الأنشطة السياسية، وحقوقا نقابية مثل حق تكوين النقابات والأحزاب وحق اختيار المهنة.
ـ مفهوم المساواة المدنية أو أمام القانون: بمعني تطبيق القانون على الجميع بلا تمييز بين الإفراد بسبب الأصل أو الجنس أو الدين أو اللغة أو المركز الاجتماعي وهو صدي لما كان قد أعلنه الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو في عقده الاجتماعي، من أن القانون إنما هو قواعد عامة مجردة غير منحازة. وقد تصدرت بيان الثورة الفرنسية لإعلان الحقوق عام 1789 عبارة أن ( الناس يولدون أحرارا، وهم متساوون في الحقوق. والميزات الاجتماعية لا يمكن أن تقوم إلا للمصلحة العامة ).
وخلاصة هذه المفاهيم، أن تعدد الأحزاب يرتبط ارتباطا وثيقا بالديمقراطية التي تقوم على أساس المذهب الفردي وما ينبني عليه من نظرية للحقوق فكرة سيادة الأمة من الناحية القانونية، ويترجم ذلك صورة حكومات أغلبية، لا تصادر حق الأقلية في إبداء رأيها والدفاع عنه، وهذه الحكومات مقيدة وليست مطلقة، ذلك أن سلطتها تقف عند حد الحقوق والحريات الطبيعية ولا تستطيع أن تتجاوزها. وبمعنى آخر فقد وضعت الليبرالية نظاما للحقوق الأساسية لا تستطيع الدولة أن تقتحمه، وذلك في نفس الوقت الذي تحرص على الاحتفاظ بحق إقرار النظام العام.
أبو زيد عادل القاضي
_______________
المصدر: التعددية الحزبية وأنماط التحول الديمقراطي