إنشغل دارسو التحول الديموقراطي في العديد من بلدان العالم، ليس فقط بمحاولة إيجاد تعريف للظاهرة وتحديد عواملها، وإنما أيضا ببيان الأنماط التي تتبعها عملية التحول الديموقراطي. هذه الأنماط اختلفت من باحث إلى أخر باختلاف المعيار أو المقياس الذي استخدمه.

وفيما يلي عرض لعدد من الاتجاهات في رصد أنماط التحول الديموقراطي، والتي تعني الأشكال والإجراءات التي تتخذها عملية التحول من نظام سلطوي إلى آخر ديموقراطي أو هي المسارات التي تتخذها للوصول إلى الديموقراطية.

أولاً، وفقاً لمعيار الأهمية النسبية للجماعات الحاكمة والمعارضة كمصادر للتحول الديموقراطي، يمكن التمييز بين ثلاثة أنماط:

أولا: نمط التحول: Transformation

وفقاً لـ “هنتجتون”، يحدث هذا النمط عندما تبادر النخبة الحاكمة إلى مباشرة عملية الانتقال إلى الديموقراطية. ويتفق الدارسون على أن الحكومة البرازيلية هي التي بدأت وسيطرت على عملية الانتقال للعديد من السنوات، إذ نجحت في مقاومة مطالب الجماعات المعارضة بإجراء انتخابات رئاسية مباشرة في أواسط الثمانينيات من القرن الماضي.يلاحظ في هذا النمط أن المبادرة تأتي من أعلى، أي من قمة النظام الحاكم. كما يرتبط بظهور قادة يؤمنون بفكرة الإصلاح وتبني المبادئ الديموقراطية للحكم كما هو الحال في الاتحاد السوفييتي إبان عهد “جور باتشوف”.

وقد يأخذ العسكريون المبادرة وذلك لأهمية المؤسسة العسكرية في ظل النظم السلطوية مثل اليونان والبرتغال في جنوب أوروبا وقد ربط “هنتجتون” بشدة بين هذا النمط والنظم العسكرية، إذ يرى أنه، باستثناء ثلاث حالات هي الأرجنتين، اليونان وبنما، أخذت القيادة العسكرية زمام المبادرة في إحداث التغيير وذلك استجابة للمعارضة والضغط الشعبي.

ففي لحظة معينة، قرر القادة العسكريون أن الوقت قد حان من أجل بدء العودة إلى الحكم الديموقراطي المدني أو التفاوض، مع جماعات المعارضة، على انسحابهم من السلطة، وقد حدث ذلك تقريباً بعد وقوع تغيير واحد على الأقل في القيادة العليا للنظام العسكري، فالقادة العسكريين في الغالب الأعم وضعوا شرطين أو “ضمانين” للتخلي عن السلطة، أولهما، عدم محاسبتهم على أي أعمال قاموا بها أثناء فترة حكمهم وثانيهما، احترام دورهم المؤسسي واستقلال المؤسسة العسكرية، بما فيها المسؤولية. عن الأمن القومي.

وبالتالي، يسهل نسبياً على القادة العسكريين الانسحاب من السلطة واستئناف أدوارهم العسكرية. الوجه الآخر من العملة أنه يكون من السهل نسبياً لهم أن يعودوا مرة أخرى إلى الحكم عندما تضمن صلاحياتهم ومصالحهم. ويعتبر “هنتجتون” أن هناك خمس مراحل تمر بها عمليات التحول، هذه المراحل هي: ظهور الإصلاحيين الذين تتعدد أسباب ظهورهم، ثم وصول هؤلاء إلى السلطة، وإن تعددت طرق وصولهم إليها، ثم فشل التحرر أو التحول الليبرالي، ثم العزف على وتر شرعية النظام السابق والتواصل مع الماضي من أجل تحجيم المعارضين من المحافظين، مما يضفي الشرعية على النظام الجديد باعتباره نتاجاً للقديم، ويؤكد شرعية القديم إذ أنه أنتج الجديد.

وأخيراً التعامل مع المعارضة، فحيث أن الإصلاحيين يخرجون المحافظين من الائتلاف الحاكم، فيصبح عليهم أن يثبتوا مواقعهم من خلال كسب تأييد المعارضة أو من خلال توسيع المجال السياسي والاقتراب من الجماعات التي تصبح نشطة سياسياً نتيجة للانفتاح.

ثانيا: نمط الاستبدال: replacements

إن عملية الاستبدال تختلف كثيراً عن التحول. إذ يشهد هذا النمط ضعف الإصلاحيين أو حتى غيابهم بالمطلق، فيما تكون السيطرة على الحكومة للمحافظين المعارضين لتغيير النظام. وبالتالي، فإن التحول الديموقراطي ينتج عن كسب المعارضة للقوة وفقد الحكومة لقوتها حتى تنهار ويتم إسقاطها.

وتأتي الجماعات التي كانت في المعارضة إلى السلطة ويدخل الصراع هنا مرحلة جديدة حيث تتعارك الجماعات التي تشكل الحكومة الجديدة فيما بينها على طبيعة النظام الذي يجب أن يؤسس. وباختصار، يمر نمط الاستبدال بثلاث مراحل متميزة: الصراع من أجل إسقاط النظام، إسقاط النظام والصراع بعد إسقاطه، ويقوم النظام السلطوي حيث تكون الحكومة أقوى سياسياً من المعارضة. ويتم استبدالها عندما تصبح أضعف من المعارضة. وبالتالي، فإن عملية الاستبدال تتطلب أن تقوم المعارضة بإرهاق الحكومة وتحويل ميزان القوة إلى صالحها.

وعادة ما تحظى الحكومات السلطوية في البداية بتأييد شعبي جارف، إلا أنه بمرور الوقت، تتدهور شرعيتها، وقد يتآكل دعم النظام علناً في بعض الأحيان، بينما يحدث خفية في الغالب الأعم نتيجة للطبيعة القمعية للنظم السلطوية.

وإذا كان الزعيم السلطوي لا يدرك عادة مبلغ عدم شعبيته، إلا أن هذا الأمر تظهره أحداث تكشف مدى عدم شعبيته. ويفترض “هنتجتون” أن عملية انهيار النظام تبدأ من خلال معارضة الطلاب، وإن ظلوا وحدهم عاجزين عن إسقاط النظام. بيد أن فقدان النظام لدعم الجيش سواء من خلال قيام الأخير بانقلاب أو بالامتناع عن تأييد القوى والعناصر التي تود الإطاحة بالنظام هو العنصر الحاسم في إسقاطه.

وما بين معارضة الطلاب والتأييد الضروري للجيش، هناك جماعات أخرى يعتمد تأييدها أو معارضتها للنظام على الظروف. مثل المثقفون ثم قادة الأحزاب السياسية السابقة. وقبل الانهيار، تتحد جماعات المعارضة من منطلق رغبتها في إسقاط النظام. وبعد سقوطه، تبدأ الانقسامات بينها في الظهور، وتتصارع على توزيع القوى وطبيعة النظام الجديد الذي يجب أن يؤسس، ويتوقف مصير الديموقراطية على القوة النسبية للمعتدلين الديموقراطيين والراديكاليين المناهضين للديموقراطية.

ثالثا: نمط الإحلال transplacments

أما في نمط الإحلال، فإن التحول الديموقراطي ينتج من خلال الأعمال المتقاطعة للحكومة والمعارضة. فالتوازن داخل الحكومة بين المتشددين والإصلاحيين يجعلها راغبة في التفاوض على تغيير النظام، بخلاف حالة هيمنة المتشددين التي تؤدي إلى الاستبدال. وحيث أن الحكومة لا ترغب في بدء تغيير النظام، يجب أن تدفع إلى الدخول في مفاوضات رسمية وغير رسمية مع المعارضة.

وفي داخل المعارضة، يكون الديموقراطيون المعتدلون أقوى بكثير من الراديكاليين المناهضين للديموقراطية، إلا أنهم ليسوا من القوة بما يكفي للإطاحة بالحكومة. وبالتالي، فهم أيضاً يرون مزايا في المفاوضات.ففي عمليات الإحلال الناجحة، أدركت الحكومة والمعارضة أنه لا سبيل لأي منهما بمفردها أن تحدد طبيعة النظام السياسي القادم، فكان أن طور زعماء الحكومة والمعارضة توجهاتهم بهذا الشأن بعد أن اختبر كل طرف قوة الآخر. ففي البداية، تظن المعارضة أنها قادرة على التخلص من الحكومة، عبر الإطاحة بها، بينما تظن الحكومة أنها قادرة على احتواء وقمع المعارضة دون نفقات فادحة. ويتم الإحلال عندما تتغير معتقدات كل فريق.

والمعتاد أن تشتمل ديالكتيكيته على عدد من الخطوات المتتابعة:-
أولاً: بدء فقدان الحكومة لقوتها وسلطاتها.
ثانياً: استغلال المعارضة ضعف الحكومة من أجل توسيع تأييدها وتكثيف نشاطها على أمل وتوقع أنه يمكنها قريباً أن تسقط الحكومة.
ثالثاً: تستجيب الحكومة باستخدام القوة لاحتواء وقمع المعارضة.
رابعاً: تدرك الحكومة والمعارضة انسداد الأفق، مما يحملها على الدخول في مفاوضات حول إحداث تحول أو انتقال. ويحتاج الإحلال، وفقاً لـ “هنتجتون” إلى بعض التساوي في القوة بين الحكومة والمعارضة، إلى جانب قدر من عدم اليقين على صعيد كل منهما حول من سيكون الفائز في حالة وقوع اختبار حقيقي للقوة.

أبو زيد عادل القاضي 

_______________

المصدر: التعددية الحزبية وأنماط التحول الديمقراطي