عبدالمجيد الصغيّر

قبل تحديد ماهية العمل السياسي يجدر القول أن المجتمع الليبي، يعاني من عدم التمكّن من صنع مؤسسات تشريعية وتنفيذية وقضائية فعالة لحلّ المشاكل بشكل أوسع، وليس هناك مؤسسات رقابة على ممارسي العمل السياسي (مجلسي الدولة والنواب) للتأكّد من المصداقية في هذا المجال، فمثلا كيف يكون العضو في أحد المجلسين متمتعا بالرواتب العالية والميزات الأخرى ويغيب عن الجلسات بالأشهر، ولا يقدم أي عمل أكثر من كونه مسخنا لكرسي من الكراسي، فالمشكلة تبدأ من غياب تحديد واضح لهذا العمل الذي يقوم به العضو في هذين المجلسين، فلا يوجد تعريف واضح لممتهن السياسة يوضح تفاصيل وحدود مهنته، ناهيك عن تصرفاته وسلوكياته والإحاطة بما يقوم به خارج المجلس.

السياسىة هي عملية متشعّبة وواسعة النطاق، حيث تبدو متناقضة في بعض تفاصيلها، والعمل السياسي يتطلب الإحاطة بكل هذه التشعبات والتفاصيل مع الاستعداد الدائم لتلافي تفاقم المشاكل في المجتمع، والعمل بشتى السبل على نزع فتيل الحرب.

إذا حددنا هدف السياسة بأنه ضمان استمرار استقرار الدولة وسلامة المجتمع باستعمال الخبرة والدراية، أي أن ممتهن السياسة هو في أمسّ الحاجة إلى أن يتحلى بالذكاء والعقلانية والمسؤولية، وأن يكون صاحب ضمير وطني. ولكن في الواقع الليبي، نجد أن الذين يتولّون زمام الأمور، ليسوا دائماً بهذه الصفات ولا على مستوى المسؤولية، ما يشكّل معضلة تُنتج التخبّط بين الأمل وقلّة الثقة في من يتولى هذه المسؤولية.

إنَّ قيام أحد المتصدرين للمشهد بنسج علاقات مصلحية مع آخرين لتحقيق مصالح شخصية آنية، فمهما كان اتقانه لتلك اللعبة الخبيثة، لن يكون ذلك عملا فرديا لا يرتبط بصفته الرسمية، فكل عمل لمن له صفة سياسية سيحاسب عليه عاجلا أو آجلا، ولو الحد الأدنى من الاعمال التي تخالف القانون. أما إذا كان العمل السياسي الفردي بنية تدبير أمور الناس، ولم يتكلل عمله بالنجاح أو كان منقوصا وتشوبه بعض العيوب، فذلك يعتبر عملا سياسيا، رغم كل شي. فللعمل السياسي أطر ومفاهيم وإجراءات ومبادئ لا يمكن لأحد الخروج عنها، مهما كانت النوايا.

إنّ العمل السياسي الناجح يعتمد أرقى درجات المعرفة وأدقّها، دون الحاجة بالضرورة إلى دراسة علم السياسة، وربما يكون ذلك بالفطرة أو نتيجة مجهود فكري منظّم. ولكنّ ذلك لا يكفي للقول بأنّهم أتقنوا فنون السياسة، رغم استطاعتهم تأمين التعاطي الآمن في ما بينهم.

يتطلّب العمل السياسي قيام السياسين بدراسة وفهم الاوضاع بحيادية وبلا تحيز أو تعصب، ولكن في الحالة الليبية التجربة أثبتت أن ما يحصل في الواقع هو أن غالبية العاملين في الحقل السياسي لا يعيرون شأنا للموضوعية والحيادية، ما يشكل معضلة في الشأن الليبي قد تطول وتُبقي البلاد تعاني من المظالم والتوتر وانعدام الامن ناهيك عن الفشل في تحقيق التحول الديمقراطي وإعادة بناء الدولة الليبية.

ليبيا في حاجة ماسة إلى عمل سياسي يحل المشاكل بالطرق السلمية، ويلتزم بالصدق في المعاملات ويحافظ على العلاقات الجيدة بين المتصدرين للمشهد، وينشر الوئام بين ربوع الوطن، ويبتعد عن منطق التحدي والمغالبة ويتجنب الأسباب المؤدية إلى الأزمات والحروب.

ليبيا مؤبوءة بظاهرة الإنحراف السياسي وذلك يعني خروج رجل السياسة عن المبادىء التي ترعى هذه المهنة أو الرسالة، إذ أنّ العمل السياسي هو رسالة ، وكلّ خروج عن أهدافها يعتبر انحرافاً سياسياً يستوجب العمل على تصحيحه من قبل المعنيين، وإلاّ فينبغي الشروع بتغييرهم نظراً لحتميّة وأهميّة أعمالهم في المجتمع داخل السلطة وخارجها.

إنّ أولوية المصلحة الفردية على النفع العام، والاستئثار بالسلطة وما يتبعه من تزوير للواقع وتشويه لسمعة المخالفين لهم في الأراء، وكل مخالفة للمباديء السياسية، تعتبر من الإنحراف السياسي، أي أنّها مخالفة لمبادىء العمل السياسي. وذلك ما يحصل عن قصد أو عن غير قصد لدى غالبية المتصدرين للمشهد. وقد صار لزاماً على كلّ عاقلٍ حماية العمل السياسي من الإنحراف المؤدّي حتما الى تفاقم الأزمات التي بدورها قد تساهم ربما بضياع الوطن.

تعاني المبادىء السياسية اليوم من عدم التطبيق بالشكل الصحيح، حتى يمكن القول إن مهنة السياسةً واقعة في مأزق سيتفاقم إن لم يبادر خيّرو هذا الوطن إلى الإنقاذ بوضع الآلية الكفيلة بذلك. ولتلك المشكلة مسبّباتها العديدة، منها ما هو عائد للأعراف والتقاليد، ومنها ما سببه النزاعات والحروب.

إنّ حلول العمل السياسي الحقّ مكان ما يسمى بتسيّس كل الأوضاع بات حاجة ملحّة، حيث يمكن اعتبار تصرّفات المسؤولين غير سياسية، بل تسيّساً وتعدّياً على السياسة التي هي براء من هذه التعدّيات على مبادئها. ولمعالجة هذه المسألة لا بد من فهم العقبات أمام تطبيق المبادىء السياسيّة، ومن ثمّ إلقاء الضوء على بعض محاولات الإصلاح، وبعدها يتمّ إظهار سلبيات وحجم المشكلة وتأثيرها المباشر وغير المباشر على مستقبل البلاد. ولا شك أن  المشاكل الناجمة عن عدم تطبيق المبادىء السياسية تؤدي إلى الإساءة للسلطة وللدولة وللمجتمع معاً، فالخلافات والانقسامات والمساومات والصفقات حول القضايا العامة المتعلّقة بالمبادىء السياسية، ترتفع أو تنخفض بحسب نوعية المرحلة، لكنها في ليبيا لا تزال موجودة بنسب عالية في المراحل الانتقالية الأخيرة.

إنّ الكثيرين من جنرالات العسكر الذين يعتبرون أنفسهم رجال دولة ومن الساسة الكبار، لا يملكون هذه الصفة في الواقع، لأنّ محاور اهتماماتهم تدور أولاً وأخيراً حول القوة العسكرية والهيمنة على الآخرين بشتّى السبل، ولا يُتقنون قوة المنطق والعقل المرتكزة على المبادىء والتي تهدف لخدمة المجتمع، والتي أُنشئت السياسة من أجلها.

فالذي يستخدم القوّة ويعمل على اعتمادها وسيلة وغاية، فذلك ينظر إلى عالم السياسة كما ينظر الجنرال إلى المعركة، همّه الوحيد هو الربح بشتّى السبل، فتتمحور استراتيجيّته حول كسب المعركة مستعيناً بالقوة، ويهمّه العديد من الأصوات المؤيّدة أكثر ممّا يهتم بالمبادىء، في حين يحتاج السياسي الناجح إلى المقدرة على معالجة القضايا المعقّدة والأوضاع الصعبة بتصميم وإصرار حسبما يمليه عليه العقل والمنطق.

الإنحراف السياسي ظاهرة خطيرة في غالبية المجتمعات، وفي ليبيا بشكل صارخ، ولذلك أصبح لزاماً البدء بإصلاح هذه الحالة على ضوء مستجدّات الواقع الراهن، ولكن ذلك لن يتم بوضع النظريات أو البرامج غير القابلة للتحقيق وغير الملائمة لمشاكل وأمراض مجتمعنا. فكما مهنة الهندسة أو الطب ترتكز على ثوابت وقواعد وقوانين، كذلك يجب العمل على إيجاد قواعد وقوانين تجعل من العمل السياسي مهنة تتلاءم مع سعة حجمها وأهدافها وتطلّعاتها في شتى الميادين، وفق آلية وشروط محدّدة توجب وتؤكّد التنفيذ القويم دون الوقوع بما يعرقل مسيرتها.

ينبغي على رجال الدولة، إن كان هناك من ينطبق عليهم هذا الوصف، البدء بتنفيذ آلية محدّدة للقيام بالعمل السياسي وفق خطّة مدروسة تأخذ في الإعتبار القناعة أولاً بضرورة إصلاح الوضع الحالي، مع إيجاد إطار للعمل السياسي تتبلور تفاصيله وفق نصوص صريحة وواضحة لا تحتمل الإلتباس.

­فيجب العمل على إيجاد مؤسسة سياسية تعليمية تهتم بتحضير من يريد ممارسة هذه المهنة بشكل واعٍ ومتقن، مع القيام بالتدرّب على تطبيقها لمدّة معيّنة للتأكّد من إتقانها واقعياً وليس نظرياً فحسب، وذلك بإشراف لجان متخصصة، إذ ليس من المنطق ­ كما يحصل حالياً ­ وجود مسؤولين في المجالات السياسية لا يتقنون هذا العمل، ولا تتوفر لديهم خبرات كافية، ولا هم على قدر المسؤولية المناطة بهم.

فالمسؤول السياسي يفترض فيه أن يمارس مهامه في الشأن العام الذي يهّم كل أفراد المجتمع. والمجال السياسي واسع جداً وكثير التشعّبات، وقد يصل أحياناً إلى حدّ التدخل في الحياة الشخصية للمواطن.

هناك فرق بين السياسي الممارس، والمفكّر السياسي، والمواطن العادي الذي لا يعمل في الحقل السياسي، هذا الأخير لا يمكن إقصاؤه عن فهم العمل السياسي إذ هو من يجب أن يُحاسِب في أغلب الأحيان. وليس مهمّاً أن يكون خرّيج من كلية متخصصة في العلوم السياسية.

­______________

­