سالم الكبتي 

ولم يكن البرلمان، بمجلسيه، وحده في الاعتراض من قبل مجموعة من نوابه وشيوخه على الاتفاقيات والمعاهدات مع بريطانيا والولايات المتحدة. فقد تلازم ذلك أيضا مع رفض لهما في الشارع الليبي على مستويات عديدة قبل عرض مشاريع الاتفاقيات على البرلمان أو أثناء العرض أو بعده. تناولت الموضوع الصحف وكتب الكتاب مقالاتهم ونظم الشعراء قصائدهم اعتراضا ومعارضة للاتفاقيات.

وكان ذلك في الواقع يشكل رأيا عاما لم تقابله السلطات، في الغالب، بأية مواجهات شديدة تذكر. وزعت العديد من المنشورات في بنغازي وطرابلس ولاحقت الجهات الأمنية من يقوم بالعمل وتحفظت عليه. مجرد تحقيقات واشتباهات ثم إطلاق السراح.

ويقع في صدارة هذه المنشورات واحد أعد وطبع في بنغازي بطريقة سرية ووزع على نطاق واسع داخل المدينة ثم وصل أيضا إلى طرابلس بتنسيق مع بعض مجموعات العمل هناك. هذا المنشور صدر دون توقيع من الجهة التي قامت به أو كانت وراءه وكان عنوانه صريحا وواضحا في مربع أعلى المنشور يتضمن الأتي.. (الدعوة إلى إضراب عام في جميع أنحاء البلاد يوم السبت 29 أغسطس 1953) وقد ورد في نصوص المنشور: (يارجال محمد.. يافتية العروبة.. يا أبناء ليبيا الأمجاد.. إليكم أيها الشيوخ يافرسان الوغاء وأساتذة الكر والفر. إليكم أيها الكهول يارجال الملاحم وأبطال النضال والنزال. إليكم أيها الشباب يا فدية الوطن وخلائف السويحلي والباروني والمختار. إليكم جميعا أيها الأحرار نوجه هذه الصرخة المدوية وإنا لمؤمنون أنكم للكرامة المداسة ستثورون وللنضال للحق المسلوب ستهبون.

ألا ويحكم هبوا.أن أرواح أبائكم الذين وقعوا في ميادين الوغى تستصرخكم اليوم من علياء السماء. أن المغرب ومصر والشرق العربي ينظر وثبتكم لتفكوا هذا العمل الذي يدفع به إلى حبائل مناورات إنجلترا الفاجرة. أيها الليبيون. أن4 وطنكم يدعوكم على مختلف طباقتكم أن تعبروا عن سخطكم عن هذه المعاهدة بإضراب عام ابتداء من فجر يوم السبت 29 أغسطس 1953 إلى فجر يوم 30 منه. وإن تنصروا الله ينصركم. والله ولي التوفيق).

ومن بين هذه الاعتراضات على المستوى الشخصي من بعض الأعيان والأفراد أرسل الشيخ محمد سيف النصر، أحد وجهاء أولاد سليمان وشقيق السيد حمد سيف النصر والي فزان، رسالة طويلة مؤرخة في الحادي والثلاثين من يوليو 1953 إلى السيد إبراهيم الشلحي ناظر الخاصة الملكية ورد فيها: (أخي العزيز. حملت أسلاك البرق والصحف نبأ تلك المعاهدة الليبية البريطانية التي تمت أخيرا.

هذه المعاهدة التي تضع البلاد تحت نير الاستعمار والاستعباد وتطيل يد الأجنبي وتعطيه الحق في استعمال أراضينا لأغراضه وأهدافه وتنقص من حريتنا وسيادتنا واستقلالنا. هذه المعاهدة نحن في غنى عنها وإذا اقتضت الظروف وعجز الميزانية لأن نمد يدنا إلى غيرنا فالأجدر بنا أن نمد يدنا إلى شقيقتنا مصر التي نادت ولم تزل تنادي بتقديم كل معونة إلى ليبيا سواء كانت هذه المعونة مالية أو فنية وليس لها هدف تبتغيه من ليبيا سوى حماية شقيقتها ومعاونتها على المحافظة على استقلالها.

إذا كان هذا العمل من أشخاص غيركم فإنكم قادرون على انتزاع الحكم منهم وتولية من لا يرضى أن يفرط بحق البلاد وسيادتها وحريتها واستقلالها وبيدكم المحافظة على الاستقلال وعدم التفريط فيه).
وعلى ضفاف النيل هناك.. في القاهرة التي كانت حكومة الثورة فيها رفضت أو اعتذرت عن طلب الحكومة الليبية مساعدتها اقتصاديا وفنيا وماليا قبل الشروع في إجراءات توقيع وتنفيذ المعاهدة (كانت الحكومة الليبية تعرف وجود القوات البريطانية فوق الأراضي الليبية في العموم منذ أيام الحرب العالمية الثانية ولذلك طالبت الحكومة البريطانية بدفع الإيجارات والمساعدات نظير هذا التواجد فعقدت المعاهدة).. هناك في القاهرة عقد الطلبة الليبيون الدارسون في المدارس الثانوية والجامعات المصرية (القاهرة. إبراهيم وهي عين شمس لاحقا. الأسكندرية) مؤتمرا عاما بحثوا فيه الحالة القائمة في ليبيا تلك الأيام نتيجة لعقد المعاهدة مع بريطانيا واتخذوا عدة قرارات من بينها:

  1. دعوة الشعب الليبي إلى الوقوف صفا واحدا ضد المعاهدات التي عقدت أو ستعقد مع دول الاستعمار بواسطة عملائهم من الخونة.
    2. مطالبة ملك ليبيا بحل البرلمان الحالي الذي أثبت عدم محافظته على استقلال الوطن ومصلحة البلاد وإجراء انتخابات حرة نزيهة.
    3. استنكار الاعتداءات الوحشية التي وقعت من جنود الاستعمار على الأهلين في طرابلس وفزان.
    4. مقاومة جميع القوانين والقيود التعسفية المفروضة على الشعب وعلى الطلبة الليبيين في الخارج.
    5. دعوة الشعب الليبي إلى الإضراب العام استنكارا على الاعتداءات الاستعمارية وإعلانا على مواصلة الكفاح من أجل تحرير الوطن.

وأبرقوا بهذه القرارات وغيرها إلى الملك ورئيس الوزراء ووزير الخارجية وإلى اللجنة السياسية بالجامعة العربية بمضمونها لافتين نظر اللجنة إلى ضرورة معارضة المشروع الاستعماري الرامي لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في ليبيا!!

كما أرسلوا باسمهم رسالة مفصلة مؤرخة في الحادي عشر من سبتمبر 1954 إلى السفير الليبي في القاهرة وكان السيد إبراهيم أحمد الشريف السنوسي أبلغوه فيها بمواصلة كفاحهم وربطه بجهاد الشعب الليبي ورفضهم لتزوير الانتخابات وتكوين برلمان مزيف لايمثل الشعب الليبي وللمعاهدة التي وقعت مع بريطانيا والتي ستوقع في المنظور القريب مع الولايات المتحدة وطلبوا منه أن يكون في مقدمة المجاهدين الذين ضحوا بحياتهم من أجل تحرير ليبيا واستقلالها (كوالدكم وسلفكم الصالح).

وبتاريخ الثاني والعشرين من سبتمبر 1954 أرسل القائم بالأعمال في السفارة الليبية بالقاهرة إلى وزير الخارجية ببنغازي برقية تتعلق بالتداعيات السابقة ورد فيها.. (إلحاقا ببرقيتنا المرسلة يوم 17 الجاري نتشرف بالإفادة أن الطلبة الثلاثة الطشاني والمسعودي والمعلول وهم الذين سبق لحكومة ليبيا في شهر مارس 1953 أن طلبت إبعادهم من مصر قد أمرتهم الحكومة بمغادرة البلاد سواء إلى ليبيا أم إلى غيرها.

وقد قاموا ببذل مساعي جبارة لإبطال هذا الأمر والذي علمته أن عزام باشا والسفارة السعودية وشخصيات أخرى قد تدخلوا لدى السلطات المصرية للحيلولة دون سفر المذكورين ونعتقد أن الحكومة المصرية جادة في هذا الموضوع حيث أنها طلبت كشفا بأسماء الطلبة الليبيين لمراقبة نشاطهم وقد يكون انتماء البعض للأخوان المسلمين من الأسباب التي جعلت الحكومة في التشدد مع أولئك الذين يبدون نشاطا خارج دائرة تعليمهم. وسنوافيكم بما سوف يجد في هذا الأمر.

يوم الخميس الموافق للسابع والعشرين من مايو 1954 كان قد صدر العدد الأول والوحيد من مجلة (المعركة) أصدره في القاهرة وحرره الطلبة: فاضل المسعودي صاحب الفكرة والمؤسس مع زميليه محمد عمر الطشاني وفريد أشرف. هذا العدد النادر الوحيد جاهر بالنقد المباشر والقاسي للمعاهدة البريطانية الليبية واعترض مسبقا على التجهيز والإعداد للاتفاقية الأمريكية التي كانت يومها قيد التوقيع بين الحكومتين الليبية والأمريكية.

وإضافة إلى كل ذلك وفي سياق الاعتراضات البرلمانية والشعبية على الاتفاقيات في تلك الأيام فقد ساد نقاش صاخب أيضا بين مجلس النواب والحكومة حول المعاهدة الليبية الفرنسية وكانت هناك استجوابات واعتراضات عديدة من النواب صالح بويصير وعبدالعزيز الزقلعي وعبد الرحمن القلهود وعلي تامر ومصطفى ميزران ومصطفى السراج واستغرق هذا النقاش جلسات عديدة عقدت بعضها سرية ووصل الأمر إلى إعلان رئيس الوزراء مصطفى بن حليم أثناء إلقائه خطاب العرش أمام البرلمان في افتتاح دورته الجديدة يوم التاسع من ديسمبر 1954 أن.. (الحكومة قامت بخطوات إيجابية لتحقيق رغبات الشعب الليبي المتمثلة في قرار مجلسكم الموقر بعدم تجديد الاتفاقية الفرنسية وأن الحكومة لن تسمح باستمرار بقاء القوات الفرنسية في أي جزء من أجزاء الوطن العزيز).

ثم أخذ الموضوع منحى آخر انتهى بعرض المعاهدة مع فرنسا في نصوصها الجديدة في مارس 1956 وعرضت على مجلسي الشيوخ والنواب ونالت موافقة تكاد تكون بالإجماع عليها من المجلسين المذكورين. وجلت بعد ذلك القوات الفرنسية من قلعة سبها في نفس العام في ما سلمت مطاري غدامس وغات إلى الحكومة الليبية عام 1963 المؤجرين لصالح فرنسا قبل ذلك التاريخ. وكانت المعاهدة أيضا نظمت في نصوصها مايتعلق بالحدود والأراضي المتجاورة وقت أن كانت الجزائر محتلة من فرنسا.

وسيظل موضوع الاتفاقات يعرض على البرلمان ويناقشه وقد حدث ذلك بعد عشر سنوات عام 1964 عندما دعا عبد الناصر ليبيا في خطابه يوم ذكرى الوحدة مع سوريا في 22 فبراير من العام المذكور إلى إجلاء القواعد عن أراضيها وبادرت الحكومة بالاستجابة إلى هذا الخطاب وتشاء الصدف أن يكون رئيسها السيد محمود المنتصر الذي كان هو الرئيس الذي وقعت حكومته المعاهدة مع بريطانيا عام 1953.

وشرعت حكومته في المفاوضات المباشرة مع بريطانيا وأمريكا وشهد البرلمان جلسات عديدة بشأنها مع الحكومة وأبدى فيها الكثير من النواب آرائهم بضرورة الجلاء وتحقيق المطالب الشعبية لتنفيذه وقرر بالإجماع الموافقة على ذلك. وبالفعل قامت بريطانيا بسحب قواتها من بعض المعسكرات في طرابلس وبنغازي.

.. وساندت الصحف في الداخل مطالب الشعب في الجلاء وباركت جهود البرلمان والحكومة في الشروع في خطوات المفاوضات. وتولت ذلك على مدى أيام وأشهر الصحف المستقلة وفي مقدمتها صحيفتا البلاغ والشعب (أغلقتا في ما بعد ولم يستمر صدورهما عام 1964) والحرية والحقيقة والعمل والأيام، وكذا الصحف الحكومية وهي طرابلس وبرقة وفزان.

ونشرت تلك الصحف العديد من المقالات والقصائد والتحقيقات مع المواطنين في كل المناطق لإظهار مشاعرهم وإنجاز الحلم الوطني الذي يسكن في الصدور عند الجميع بلا إستثناء. وتابع المواطنون بكثير من الأهتمام جلسات البرلمان العلنية ومناقشاته عبر الصحف وفي الإذاعة خلال نشراتها أو طوال بثها اليومي.

والواقع أن البرلمان بأعضائه الذين تميزوا بالحضور والمناقشة المستمرة والمتابعة لأحوال المواطنين ومعاناتهم في بعض المناطق، خاصة أماكن الدواخل، اقترب من معالجة هذه المشاكل وحاول أن يضع لها الحلول. وشهدت جلسات البرلمان تلك الأعوام وخلال دوراته تشكيل اللجان داخله لمتابعة العديد من الموضوعات مثل اللجنة الدستورية والمالية والخارجية ولجنة المحاسبة ولجنة الصحة والمعارف والشؤون الاجتماعية ولجنة الشؤون الخارجية.. وغيرها.

هذه اللجان تتابع وترصد أداء الوزارات وتستلم التقارير ويرد إليها كل مايتصل بهذه المسائل وتعقد اجتماعاتها وتخلص إلى نتائج ما تصل إليه في النهاية إلى البرلمان والحكومة. وتضمنت الجلسات إضافة إلى تشكيل اللجان: الأسئلة للوزراء وردودهم والاستجوابات والتقارير والاقتراحات والعرائض والشكاوى من المواطنين التي ينظر فيها المجلس ويحيلها إلى جهات الاختصاص في الدولة للبت فيها مع متابعة جوانبها. وعرض الميزانيات وخطط التنمية ومناقشتها باستفاضة والموافقة عليها ومناقشة مشاريع القوانين وإرسالها إلى الملك للمصادقة عليها. وناقشت الجلسات أيضا الكثير من القضايا المحلية والإقليمية وتصدرت ذلك الامتيازات والآبار البترولية والشركات الأجنبية والجالية الإيطالية وتعويضات الدولة الليبية عن فترة الاحتلال والحرب والنقابات وأمور العمال والمطبوعات وحرية الصحافة وقضية الجزائر والموقف من فرنسا والكونغو وقاعدة الملاحة واستفزازاتها لجيرانها المواطنين والظواهر الأخلاقية والربا والخمر وأحوال المزارعين وأصحاب المهن وصغار الموظفين.. والعديد من القضايا والموضوعات المستجدة والطارئة. صحيح أن بعضها ظل معلقا لم ينجز، لكن حسب للبرلمان أنه تولى بواسطة أعضائه مساءلة الحكومة وملاحقة أعمالها تحت كل الظروف واستفاد النواب والشيوخ بالطبع من الحصانة البرلمانية التي منحهاها لهم القانون. وكانت مضابط المجلس تنشر سنويا عن كل دورة في مجلدات وتوزع على الأعضاء ومرافق الدولة ومن يهمه الأمر في الرأي العام واحتوت تلك المضابط وقائع الجلسات والمناقشات بين الحكومة والبرلمان دون أية تحفظات، وتعتبر الآن وثيقة تاريخية مهمة لكل دارس وباحث في الحياة النيابية الليبية. وعلى سبيل المثال في فبراير 1960 عرضت على مجلس النواب رسالة مطولة من مجموعة من المسجلين في دائرة القبة يمثلون بعض الشرائح القبلية وتتعلق بالطعن في فوز أحد المرشحين بتلك الدائرة في الانتخابات التي جرت ذلك العام للدورة الجديدة لحصوله على الجنسية الإيطالية بموجب مرسوم ملكي إيطالي عام 1934 وقد أحال المجلس ذلك الطعن إلى اللجنة التشريعية وكان رئيسها النائب عبد الله السحيري ومقررها النائب محمد بشير المغيربي ورأت في اجتماعها المنعقد في طرابلس يوم الثالث من يناير 1961 أن الطعن لا يقوم على أي أساس ورفضت الطلب وقررت إبقاء عضوية المطعون فيه زميلهم بالمجلس دون مساس .

وظل البرلمان الليبي تلك الأعوام عضوا في اتحاد البرلمانات العالمي وشارك في عقد اجتماعاته كما قام العديد من النواب والشيوخ الليبيين بزيارات رسمية إلى الخارج بدعوات من الكونغرس في الولايات المتحدة وإلى بريطانيا وألمانيا. ومن أهم القضايا المحلية البارزة التي تداولها البرلمان موضوع طريق فزان أو ماعرف بأزمة طريق فزان. فقد فكرت الدولة أثناء تنفيذ مشروعاتها ربط ولاية فزان بالساحل عبر طريق يمتد من منطقة أبوقرين إلى الجنوب في مسافة طولها نحو ستمائة وخمسين كيلو مترا. تعاقدت في أواخر عام 1958 مع شركة ساسكو التي يملكها عبد الله عابد السنوسي ورسا عليها العقد لتنفيذ ذلك المشروع الحيوي الذي ينتظره أهالي فزان منذ أمد بعيد، وكان من المقرروفقا لشروط التعاقد بين الحكومة والشركة أن ينتهي العمل بإنجاز الطريق بعد ثلاث سنوات، أي عام 1961. وبمجرد رسو العقد على الشركة استلمت من الحكومة مبلغ مليون وتسعمائة جنيه ليبي تقريبا. وبعد فترة وجيزة من التنفيذ طالبت الشركة من خلال مالكها الحكومة بمبلغ إضافي قدره أربعة ملايين جنيه لاستكمال المشروع.

هنا حامت الشبهات والشكوك والظنون مرة واحدة تجاه مايجري في السر بين الحكومة والشركة وتسرب ذلك بطريقة أو أخرى إلى صحيفة المساء التي يصدرها في طرابلس السيد سليمان دهان، كشفت عن المستور في عددها الصادر بتاريخ العشرين من أغسطس 1960 وتناولته بالقدر نفسه دعما لها.. صحيفة الليبي في طرابلس وصحيفة الزمان في بنغازي. كان رئيس الحكومة وقتها السيد عبد المجيد كعبار وقد شغل أول رئيس للبرلمان قبل ذلك عقب الاستقلال في أول دورة نيابية عام 1952.

في تلك الفترة كانت رائحة النفط تقترب من الأنوف والشركات الأجنبية تكاثر وصولها إلى البلاد للتنقيب عن السائل الأسود الذي بدأ يغري الجميع وأقبلت مع ذلك ثقافة جديدة من العلاقات والمصالح بين المسؤولين ومجموعة من الأفراد في البلاد وطغت في الواقع تلك المصالح الشخصية على مصالح الوطن وبدأت تتداعى ظاهرة الفساد والانحراف لدى البعض في الدولة مسؤولين ومواطنين. والواقع أن الملك نفسه في هذه الحالة سبق الكثير في التنبيه ولفت الأنظار والتحذير مما يحدث، فأصدر في الثالث عشر من يوليو 1960 منشوره الشهير.. (لقد بلغ السيل الزبى) وتردد تلك الأيام أن الملك في هذا المنشور الحاد والصريح ربما يشير إلى رؤوس كبيرة في الحكومة وبالقرب منه في الخاصة الملكية وبعض أصحاب الشركات المتنفذة. كان الملك في المنشور يوجه كلامه إلى رئيس الحكومة والوزراء والوكلاء وإلى الولاة في طرابلس وبرقة وفزان والنظار والمتصرفين وكل المسؤولين، فقد طرق سمعه وفقا للمنشور: مايصم الأذان من سوء سيرة المسؤولين في الدولة من أخذ الرشوة سرا وعلانية والمحسوبية القاضيتين على كيان الدولة وحسن سمعتها في الداخل والخارج مع تبذير أموالها سرا وعلانية. هذا النداء الملكي بعد طول صمت لعله شجع أصحاب الرأي والصحف والمهتمين بالشأن الوطني على التجاوب معه والتشديد على مظاهر الفساد المالي الذي لوحظ انتشاره على نطاق واسع في البلاد والدعوة مع ما صرح به الملك إلى التصدي لذلك الفساد والقضاء عليه بكل صوره وأشكاله .

كان البرلمان في عطلة فالتقط رغم ذلك مايتردد في الصحف والشارع حول طريق فزان. نهض مجموعة من نوابه بالمسؤولية تصحيحا للأخطاء وتقويما للاعوجاج. كان في مقدمة هؤلاء النواب: عبد المولى لنقي وبشير المغيربي وعلي مصطفى المصراتي ومحمود صبحي ومفتاح شريعة ويونس عبد النبي بالخير وعبد السلام التهامي وغيرهم ممن يمثلون داخل البرلمان صوتا وطنيا يعارض الأخطاء وتداولوا الأمر في عدة جلسات مشهورة وشعرت خلالها الحكومة بالحرج والضيق.

وبدأت الخطوة الأولى برفع مذكرة منهم إلى الملك يطالبون فيها بدعوة البرلمان بمجلسيه الشيوخ والنواب للانعقاد في جلسة إستثنائية للنظر في تجاوزات الحكومة مع الشركة. واستندوا إلى أن الدستور في مادته 169 ينص على أنه: (لايجوز عقد قرض عمومي ولا تعهد يترتب عليه إنفاق مبالغ من الخزانة في سنة أو سنوات مقبلة إلا بموافقة مجلس الأمة) وهذا الشرط الدستوري لم يراع في الأساس. والواقع أن الملك استجاب ووافق من فوره على ما ورد في مذكرة أولئك النواب فأصدر مرسوما في منتصف سبتمبر بدعوة المجلس للانعقاد استثنائيا وحدد يوم الثالث من إكتوبر 1960 موعدا لذلك. وحدث بعد صدور المرسوم من ارتباك فلم يحضر رئيس الحكومة جلسات البرلمان وحاول استمالة بعض النواب المعترضين على الدخول في تشكيلة جديدة للحكومة وقابلوا ذلك بالرفض واعتبر رئيس الحكومة في جانب آخر أن مناقشات النواب بهذا الشكل حول طريق فزان تعريض شخصي به وحاول من جهته استصدار مرسوم ملكي بحل البرلمان ولم ينجح في ذلك. أيام عديدة مرت وجلسات ساخنة في البرلمان ونقاشات وجدل لم ينته حول موضوع الطريق استمر ولم يتوقف وتجاوب معه الشارع. وللتاريخ فإن آراء النواب تلك الأيام لم تكن ضد تنفيذ مشروع الطريق ولكنها كانت تتجه نحو علاج نواحي القصور وأوجه الفساد الذي اعترى الإجراءات وجعلت منه أزمة لا بد من إزالة أسبابها. وفي جانب بعيد آخر لم يفصح عنه إلا في أضيق نطاق تردد أن الدولة كانت تود مساعدة جبهة التحرير الجزائرية في كفاحها فحملت المشروع المبلغ لكي لا يسبب ذلك حرجا لها خاصة مع فرنسا عندما يحول بصورة معلنة. ورغم ذلك استمرت المواجهة الحاسمة مع الحكومة وطالب البرلمان بسحب الثقة وحجبها تماما عنها فاستقالت تحت هذا الضغط وأدركت في النهاية أن الملك نفسه لايريد منها الاستمرار بناء على مجريات الأحداث التي وقعت. فأصدر مرسوما بتكليف أحد وزرائها بتشكيل الحكومة الخامسة في عهد الاستقلال وهو السيد محمد عثمان الصيد في السادس عشر من أكتوبر 1960 وكان في الوقت نفسه نائبا في البرلمان عن فزان.

يتبع في الجزء التالي

________________

بوابة الوسط

مقالات مشابهة