بقلم أحمد الرشيد، وعماد دخيل، وحكمت صبرة

تعد التعددية الحزبية ظاهرة حديثة العهد في الأنظمة السياسية المعاصرة، وقد أضحت ـ أحد مقومات العملية الديمقراطية في العالم اليوم، إذ لا تستقيم الديمقراطية النيابية إلا بوجود تعددية حزبية.

الجزء الثاني

المحور الثالث: العمل والتنظيم الحزبي خلال حقبة حكم القذافي

يعد الأول من سبتمبر عام 1969 بداية حقبة جديدة لدولة ليبيا حديثة الإستقلال، بقيام مجموعة من صغار ضباط الجيش الليبي بقيادة الملازم أول معمر القذافي بالإطاحة بالنظام الملكي.

لقد كان للنظام الجديد ـ ومنذ البداية ـ رؤية واضحة فيما يتعلق بالأحزاب السياسية في ليبيا، فقد أظهر العقيد القذافي رئيس مجلس قيادة الثورة رفضه القاطع للعمل والتنظيم الحزبي، حيث أشار في أول خطاب شعبي له أمام ضريح عمر المختار في مدينة بنغازي يوم 16 سبتمبر 1969، بتجريم الحزبية والحزبيين، فقال عنها: “لا حزبية بعد اليوم ومن تحزب خان“، وتلا ذلك العديد من القرارات والقوانين التي منعت العمل والتنظيم الحزبي خلال فترة حكم نظام القذافي (1969 – 2011).

1ـ الاتحاد الاشتراكي العربي: التنظيم السياسي الوحيد في البلاد

في ندوة الفكر الثوري التي عقدت في مايو 1970، وأدارها العقيد القذافي بنفسه، اقترح فيها صيغة “الاتحاد الإشتراكي العربي“، كتنظيم وحيد للبلاد يضم قوى الشعب العاملة من عمال وفلاحين ومثقفين ثوريين وجنود ورأسمالية وطنية غير مستغلة، إضافة إلى بعض المثقفين والمفكرين والكتاب والحزبيين ومنتسبي الحركة الوطنية في ليبيا.

لقد شرع العقيد القذافي منذ بداية عام 1970 إلى فرض فكرة “التنظيم السياسي الوحيد“، وقد اتخذت هذه الفكرة شكل واسم “التنظيم الشعبي” ثم تحولت إلى “الاتحاد الإشتراكي العربي“، وفي عام 1977 تطورت إلى صيغة “سلطة الشعب” من خلال المؤتمرات الشعبية، واللجان الشعبية، والنقابات، والإتحادات، والروابط المهنية، مؤتمر الشعب العام، أي شكل “النظام الجماهيري“، وقدّمت هذه الفكرة في كل مرة على أساس أن التنظيم يشكل “الوعاء السياسي الوحيد” الذي يُسمح فيه لليبيين من خلاله بممارسة السلطة.

لقد حثّ القذافي الليبيين على إطلاق الحريات كاملة، لكنه لم يورد ذكرا للأهداف الديمقراطية مثل الأحزاب السياسية، وكان دائما يصف الولايات المتحدة وبريطانيا وإيطاليا بأنه دكتاتوريات العصر، ودعاها إلى أن تتعلم “الديمقراطية الحقة“، كما يظن، والمطبقة في ليبيا التي يعدّها الديمقراطية الحقيقية، وتتمثل في حكم الشعب نفسه بنفسه عن طريق المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية.

ومنذ البداية حاول القذافي السيطرة على زمام الأمور في ليبيا عند الإعلان في 11 يونيو 1971 عن قيام “الاتحاد الاشتراكي العربي“، باعتباره التنظيم السياسي الوحيد في البلاد، الذي نص في نظامه الأساسي على أن مجلس قيادة الثورة هو “اللجنة العليا للإتحاد“، وعين الرائد بشير هوادي، وهو أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة، أمينا عاما، والعقيد القذافي رئيسا للمؤتمر القومي العام لهذا التنظيم، ومن خلاله قام النظام السياسي السابق بإصدار العديد من القرارات والقوانين والتشريعات.

في ذكرى معركة الهاني الشهيرة ألقى القذافي خطابا مطولا جاء فيه: “لكن الشعارات التي تطرح اليوم، والتي يراد من ورائها ترضية الكتلة الغربية أو الكتلة الشرقية أو من أجل قيادة أحزاب سياسية، ومن أجل الزعامة وكراسي الحكم، هذه الشعارات فشلت كلها في الميدان، ولن تستطع أن تجمع الأمة العربية على كلمة، ولن تخلق زحفا مقدسا نحو الهدف العظيم، ولن تتمكن من أن تجمع الشعب المبعثر لتتحطم السدود وتختفي الحدود المصطنعة، لأن الشعارات التي طُرحت كانت شعارات حزبية ضيقة، الغرض منها الوصول إلى كراسي الحكم واحتلال مناصب في المجالس النيابية وفي تشكيل الحكومات … ، إن أغلب شعاراتها ضيقة، الغرض منها الوصول إلى كراسي الحكم واحتلال مناصب في المجالس النيابية وفي تشكيل الحكومات …، إن أغلب شعاراتها محدودة دون محتوى أو مضمون، كانت دون برهان يقنع الناس، بل كانت في معظمها تلفيقا وبهتانا وتدجيلا وتضليلا للتربع على كراسي الحكم.

2 ـ القوانين والتشريعات النافدة وتجريم العمل والنشاط الحزبي:

يعد صدور القانون رقم (17) لسنة 1972 تأكيدا على حظر تأسيس الأحزاب السياسية في ليبيا ومنع أي نشاط حزبي سري أو علني، حيث نصّ هذا القانون على رفض ومنع قياد الأحزاب السياسية منعا باتاً، وشكك في نواياها، وأعلن النظام الجديد عداءه التام لها، وصل إلى حد التجريم والإتهام بالخيانة للوطن، وتضمنت إحدى مواده بأن ممارسة الحياة الحزبية خيانة في حق الوطن، وتبلور ذلك بشكل واضح في مقولة “من تحزب خان“.

ونصت المادتان الأولى والثانية من هذا القانون على أن: الاتحاد الاشتراكي العربي هو التنظيم الشعبي السياسي الوحيد في الجمهورية العربية الليبية، يمارس المواطنون من خلاله حرية الرأي والتعبير في حدود مصلحة الشعب ومبادئ الثورة، وفقا لأحكام النظام الأساسي للاتحاد الاشتراكي العربي.

كما أكدت هاتان المادتان أن الحزبية خيانة في حق الوطن وتحالف قوى الشعب العاملة الممثلة في الاتحاد الاشتراكي العربي. ويقصد بالحزبية كل تجمع أو تنظيم أو تشكيل أيا كانت صورته أو عدد أعضائه، يقوم على فكر سياسي مضاد لمبادئ ثورة الفاتح من سبتمبر في الغاية أو الوسيلة، أو يرمي إلى المساس بمؤسساتها الدستورية سواءً أكان سريا أو علينا، أو كان الفكر الذي يقوم عليه مكتوبا أو غير مكتوب أو استعمل دعاته ومؤيدوه وسائل مادية أو غير مادية“.

ويتضح من خلال هاتين المادتين منذ البداية، أن الاتحاد الإشتراكي العربي ليس حزبا سياسيا، ولا يمارس مهام الحزبيين.

ورتّبت المادتان الثالثة والرابعة من هذا القانون عقوبات الإعدام والسجن مدة لا تقل عن عشر سنوات لكل من دعا إلى إقامة أي تجمع أو تنظيم أو تشكيل سياسي محظور. وجاء في نص القانون “أن يعاقب بالإدام كل من دعا إلى إقامة أي تجمع أو تنظيم أو تشكيل محظور بموجب هذا القانون، أو قام بتأسيسه أو إدارته أو تمويله أو أعد مكانا لاجتماعاته، وكل من أنضم إليه أوحرّض على ذلك بأية وسيلة كانت بقصد إقامة التجمع أو التنظيم أو التشكيل المحظور أو التمهيد لإقامته، ولا فرق في العقوبة بين الرئيس والمرؤوس مهما دنت درجته في الحزب أو التجمع أو التنظيم أو التشكيل أو الفرقة أو الخلية أو ما شابه ذلك، كما يعاقب كل من علم بوقوع جريمة من الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون ولم يبلغ عنها بالسجن مدة لا تقل عن عشر سنوات“.

وتنطلق النظرية الجماهيرية في تبرير دواعي معاداتها للظاهرة الحزبية ومساواتها بالتخريب والخيانة للوطن، من رؤية العقيد القذافي وتوجهاته التي جاء بها الكتاب الأخضر وأخذ بها التشريع الليبي واعتمد عليها لاحقا، وتمثلت هذه المبررات، إلى جانب التحليل العام الرافض للعمل والتنظيم الحزبي، مبدأ المعاملة بالمثل إذ يشير العقيد القذافي: “طالما أن الشيوعيين لا يسمحون لنا أن ننشط في أرضهم، فلماذا نسمح لهم أن ينشطوا في أرضنا“، ويضيف في رفضه، خاصة للإخوان المسلمين: “إن الإسلام دين عالمي، ولا نسمح بأي شكل أن يتحول إلى خلية حزبية أو أن ينطوي على نفسه وينسحب في الظل، لأن ذلك يشكل جريمة حقيقية ضد الدين نفسه، ومن هنا كان الإخوان المسلمين يسيئون إلى الدين“.

3ـ الثورة الشعبية وتطهير البلاد من الحزبيين :

في ذكرى المولد النبوي الشريف، الموافق الخامس عشر من أبريل 1973، أعلن القذافي الثورة الشعبية، حيث قال: “تمثل هذه النقاط برنامجا للثورة الشعبية أو الثقافية التي ستبدأ بتشكيل لجان شعبية في كل مدينة وقرية ومدرسة ومصنع وجامعة ومطار …، الخ“، ويمكن حصر النقاط الخمس التي شكلت رؤية القذافي وتوجهاته السياسية لاحقا:

  • أـ تعطيل القوانين المعمول بها كافة.
  • ب ـ تطهير البلاد من جميع الحزبيين الذين وصفوا بالمرضى.
  • ج ـ الحرية كل الحرية للشعب ولا حرية لأعدائه.
  • د ـ إعلان الثورة الإدارية.
  • هـ ـ إعلان الثورة الثقافية.

لقد تضمن خطاب زوارة في أهم بنوده تطهير البلاد من جميع الحزبيين، حيث أشار القذافي بالخصوص: “لابد من تطهير البلاد من جميع المرضى، منذ ثلاث سنوات والمرضى يعالجون معالجة طبيعية، ومنعتُ اعتقال الناس الذين يتآمرون على الشعب، ويتآمرون على التحول الثوري …، أنا لا أقبل أن واحدا يسمم أفكار الناس، وهو ليس بقادر على قبول التحدي، هذه حصلت في الجامعة، وحصلت في الشارع، وعليه أنا أقول لكم أي واحد نجده يتكلم عن الشيوعية أو فكر ماركس أو إلحادي سوف يوضع في السجن، وسأصدر الأمر لوزير الداخلية بتطهير أي مجموعة من هؤلاء الناس المرضى …، معنى هذا أن هناك أناس عليهم أن يجهزوا أنفسهم من الآن لأنني سأضعهم في السجن“.

ويمثل إعلان الثورة الثقافية أهم خصائص هذه المرحلة، التي تم فيها تثوير البنى الإدارية للحكومة من منظور ورؤية القذافي، وإلغاء القوانين القديمة، ففي 18 أبريل 1973، وخلال مؤتمر صحفى أكد القذافي رفضه للحزبية والحزبيين ونيته التخلص منهم حيث يقول: “أما أولئك الذين لهم توجهات أو أهداف حزبية، فلابد للشعب أن يتخلص منهم، وفي إحدى الكليات ظهر بعض الشوعيين، وهم إثنان أو ثلاثة طلاب، ولكن الطلبة أخرجوهم.

إن الحزبيين يجب ألا يكون لهم مكان بيننا، ولابد أن نضعهم في السجن ليدفعوا ثم جريمتهم لخروجهم عن الصف والجماعة وعمالتهم للأجانب،وعدم إيمانهم بشعبهم وأمتهم ودينهم. وهكذا يبدو أن إعلان الثورة الشعبية أريد به كسب التأييد الشعبي في اتجاه تنظيم المؤسسات الإدارية والبيروقراطية، وكذلك أداة أريد بها تجاوز معارضي النظام السابق.

4ـ الكتاب الأخضر وحظر العمل والنشاط الحزبي وتجريمه

لقد شرعت صحيفة “الفجر الجديد” الرسمية منذ عددها الصادر 17 سبتمبر 1975 في نشر جزء من أحاديث وخطابات القذافي حول جملة من القضايا والمسائل المتعلقة بنظام الحكم في ليبيا لعل أهمها:

أـ المجالس النيابية: تمثيل خادع للشعب، والنظام البرلمانية حلّ تلفيقي لمشكلة الديمقراطية ، فلا نيابة عن الشعب، والتمثيل تدجيل، ووجود مجلس نيابي معناه غياب الشعب.

ب ـ الحزبية: إجهاض للديمقراطية، و “تعدد الأحزاب” مدمّر لحياة المجتمع سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، إن فوز أي جزب معناه هزيمة الشعب والديمقراطية، و “اللعبة الحزبية” لعبة هزلية.

ج ـ الحزب: قبيلة العصر الحديث، والحزب يمثل جزء من سيادة الشعب، وسيادة الشعب لا تتجزأ، والحزب يحكم نيابة عن الشعب، والصحيح لا نيابة عن الشعب ومن تحزب خان الوطن.

وفي 3 يناير 1976 أصدر القذافي كتيبه الأخضر الذي تطرّق في فصله الاول للأحزاب السياسية على النحو التالي:

أ ـ الاحزاب السياسية ذات مصلحة واحدة وهي الحكم، وقد ورد في الكتيب الأخضر بأن الحزب: “هو حكم الجزء للكل، وهو آخر الأدوات الدكتاتورية حتى الآن، وبما أن الحزب ليس فرداً، فهو يضفي ديمقراطية مظهرية بما يقيمه من مجالس ولجان ودعاية بواسطة أعضائه، فالحزب ليس أداة ديمقراطية على الإطلاق، لأنه يتكون إما من ذوي المصالح الواحدة، أو الرؤية الواحدة، أو الثقافة الواحدة، أو المكان الواحد، أو العقيدة الواحدة، هؤلاء يكونون الحزب لتحقيق مصالحهم أو فرض رؤيتهم أو بسط سلطان عقيدتهم على المجتمع ككل، وهدفهم السلطة باسم تنفيذ برنامجهم“

ويرى القذافي في كتيبه “بأن الحزب يقوم أصلاً ممثلا للشعب، ثم تصبح قيادة الحزب، ويتضح أن اللعبة الحزبية لعبة هزلية خادعة تقوم على شكل صوري للديمقراطية…، فهي حقا دكتاتورية العصر الحديث“

ب ـ صراع الأحزاب مع بعضها من أجل الوصول إلى السلطة هو خراب للمجتمع وأداة للقضاء عليه في رأي القذافي حين قال: “مهما تعددت الأحزاب فالنظرية واحدة، بل يزيد عددها من حدة الصراع على السلطة، ويؤدي الصراع الحزبي على السلطة إلى تحطيم أسس أيّ إنجاز للشعب، ويخرب أي مخطط لخدمة المجتمع، لأن تحطيم الإنجازات وتخريب الخطط هو المبرر لمحاولة سحب البساط من تحت أرجل الحزب الحاكم ليحل محله المنافس له، والأحزاب في صراعها ضد بعضها، إن لم يكن بالسلاح ـ وهو النادر ـ فبشجب وتسفيه أعمال بعضها بعضا“

ج ـ الحزب مدمر للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في نظر القذافي، حيث يقول: “إن حزب المعارضة لكونه أداة حكم، ولكي يصل إلى السلطة، لابد له من إسقاط أداة الحكم التي في السلطة، ولكي يسقطها لابد أن يهدم أعمالها ويشكك في خططها، حتى ولو كانت صالحة للمجتمع، ليبرر عدم صلاحها كأداة حكم، وهكذا تكون مصالح المجتمع وبرامجه ضحية صراع الأحزاب على السلطة، وهكذا، برغم ما يثيره تعدد الأحزاب من نشاط سياسي، إلا أنه مدمّر سياسيا واجتماعيا واقتصاديا لحياة المجتمع من ناحية، ومن ناحية أخرى فنتيجة الصراع هي انتصار أداة حكم أخرى كسابقتها، أي سقوط حزب وفوز حزب ولكن هزيمة الشعب“.

د – يرى القذافي في الأحزاب أيضا التدجيل والتزييف والبطلان: “إن المجلس النيابي للحزب الفائز هو مجلس الحزب، والسلطة التنفيذية التي يكونها ذلك المجلس هي سلطة الحزب على الشعب، وإن السلطة الحزبية التي يفترض أنها لمصلحة كل الشعب، هي في واقع الأمر عدو لدود لجزء من الشعب، وهو حزب أو أحزاب المعارضة وأنصارها من الشعب، والمعارضة ليست رقيبا شعبيا على سلطة الحزب الحاكم، بل هي متربصة لمصلحة نفسها لكس تحل محله في السلطة، أما الرقيب الشرعي وفق هذه الديمقراطية الحديثة فهو المجلس النيابي الذي غالبيته هم أعضاء الحزب الحاكم، أي الرقابة من حزب السلطة، والسلطة من حزب الرقابة، هكذا يتضح التدجيل والتزييف وبطلان النظريات السياسية السائدة في العالم اليوم والتي تنبثق منها الديمقراطية التقليدية الحالية” وبذلك فإن:

ـ الحزب يمثل جزء من الشعب، وسيادة الشعب لا تتجزأ.

ـ الحزب يحكم نيابة عن الشعب، والصحيح لا نيابة عن الشعب.

هـ ـ الحزب هو الطائفة وهو القبيلة، فهو ظاهرة مرفوضة في الكتاب الأخضر لأنها تجسد نفس العملة، وهي المصالح حيث ورد في الكتاب الأخضر: “الحزب هو قبيلة العصر الحديث هو الطائفة، إن المجتمع الذي يحكمه حزب واحد هو تماما مثل المجتمع الذي تحكمه قبيلة واحدة أو طائفة واحدة، ذلك أن الحزب يمثل، كما سبق رؤية مجموعة واحدة من الناس، أو مصالح مجموعة واحدة من المجتمع، أو عقيدة واحدة، أو مكانا واحدا، وهو بالتالي أقلية إذا ما قورن بعدد الشعب، وهكذا القبيلة والطائفة فهي أقلية إذا ما قورنت بعدد الشعب، وهي ذات مصالح واحدة أو عقيدة طائفية واحدة، ومن تلك المصالح أو العقيدة تتكون الرؤية الواحدة، ولا فرق بين الحزب أو القبيلة إلا رابطة الدم، والتي ربما وجدت عند منشأ الحزب“.

5 ـ الأحزاب السياسية من منظور سلطة الشعب:

يعرف الحزب في النظرية الجماهيرية على أنه “تحزب أشخاص تربطهم العقيدة الواحدة أو المصلحة الواحدة أو الرؤية الواحدة، فهو تنظيم يعبّر عن مصلحة هذه المجموعة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مواجهة سائر أفراد الشعب الذين هم خارج الحزب“.

أما الحزبية فينظر إليها على أنها “كل تجمع أو تنظيم أو تشكيل أيا كانت صورته أو عدد أعضائه يقوم على فكر سياسي مضاد لمبادئ ثورة الفاتح من سبتمبر 1969 في الغاية أو الوسيلة، ويرمي إلى المساس بمؤسساتها سواء أكان سريا أم علنيا، أو كان الفكر الذي يقوم عليه مكتوبا أو غير مكتوب أو استعمل دعاته ومؤيدون وسائل مادية أو غير مادية“، وفقا للمادة الثانية من قانون رقم 17 تجريم الحزبية لسنة 1972”.

وعلى أساس ذلك، يتم النظر إلى الحزبية بوصفها جريمة تشكل أساسا بالسيادة الوطنية وخيانة لها، لأنها تنال من مبادئ ثورة الفاتح من سبتمبر في غايتها المتمثلة في تمكين جميع أفراد المجتمع من المشاركة في السياسة والحكم، ووسيلتها المتجسدة في الأخذ بمؤسسات الديمقراطية الشعبية المباشرة التي تعد الأحزاب أي كانت أفكارها وغاياتها اختراقا لها، ومصدرا خطيرا يهدد مؤسساتها الدستورية في المؤتمرات واللجان الشعبية“.

جاء إعلان قيام سلطة الشعب، الذي تم فيه وضع أسلوب الحكم الجديد في ليبيا في 2 مارس 1977، مؤكدا على أنه: “يجسد الحكم الشعبي على أرض الفاتح العظيم إقرارا لسلطة الشعب الذي لا سلطة لسواه، يعلن تمسكه بالحرية واستعداده للدفاع عنها فوق أرضه وفي أي مكان من العالم، وحمايته للمضطهدين من أجلها. ويعلن تمسكه بالاشتراكية تحقيقا لملكية الشعب، ويعلن التزامه بتحقيق الوحدة العربية الشاملة، ويعلن تمسكه بالقيم الروحية ضمانا للأخلاق والسلوك والآداب الانسانية، ويؤكد سير الثورة الزاحفة بقيادة القذافي نحو السلطة الشعبية الكاملة، وتثبيت مجتمع الشعب القائد والسيد الذي بيده السلطة والثروة والسلاح، مجتمع الحرية، وقطع الطريق نهائيا على أنواع أدوات الحكم التقليدية كافة، من الفرد والعائلة والقبيلة والطائفة والطبقة والنيابة والحزب ومجموعة الأحزاب، “ويعلن استعداده لسحق أي محاولة مضادة لسلطة الشعب سحقا تاماً.

ما يميز إعلان قيام سلطة الشعب من غيره في ليبيا خلال حقبة النظام السابق هو تبنيه فكرة الديمقراطية المباشرة وتطبيقها خلال الفترة 1977ـ2010، فالديمقراطية المباشرة يمكن تطبيقها وفقا لهذه الرؤية من خلال المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية كبنى أساسية للنظام السياسي الليبي، والتي جاءت في الكتاب الأخضر في جزئه الأول الذي تناول المشكلات السياسية ذات العلاقة بأداة الحكم، كما انتقدت الأيديولوجيا النظام الحزبي وأصدرت مجموعة من القوانين التي وضعت قيوداً قانونية صارمة على النشاط السياسي لعل أهمها قطعا قانون حماية الثورة.

لا شك أن مبررات رفض الحزبية تتماشى أساساً مع طبيعة وأسلوب الديمقراطية المباشرة التي جاء بها الكتاب الأخضر، وهو ما حدا بالنظام السابق إلى تجريم أي نشاط أو تنظيم سري أو علني كونه يتناقض مع أهداف وطبيعة نظام الحكم المستند إلى مبدأ سلطة الشعب التي تعني أن جميع أفراد المجتمع يتقاسمون السلطة، وبذلك أصبحت الحزبية ظاهرة يتناقض وجودها مع التطبيق السليم لممارسة الحكم من دون أي وسيط أو وصاية، ومن هنا حرص المشرع الليبي على تجريم الحزبية في الإطار العام للنظام السياسي الليبي.

وفي خطاب للقذافي بمناسبة الذكرى الثالثة لإعلان سلطة الشعب عام 1980 أكد رفضه تأسيس الأحزاب السياسية في ليبيا حيث قال: “إن الإمكانات والمقدرات التي هي اليوم بيد الحكومات التي تعبر عن وجودها في حزب واحد أو في مجموعة أحزاب أو طبقة أو في طائفة أو عائلة أو في قبيلة أو في فرد أو في لجنة أو في مجلس، كل أشكال الحكومات التي تعبر عن نفسها بكيفية أو بأخرى في سيطرتها على الجماهير، هذه الإمكانات التي لدى هذه الحكومات توظفها هذه الحكومات للتنكيل بالجماهير.

وتحت عنوان “هذه ديمقراطية مزيفة” في لقاء وحوار فكري مع أساتذة الجامعات اللبنانية في 9 فبراير 1983 “ما يسمى الآن بالديمقراطية التقليدية، هذا تزييف للديمقراطية، ديمقراطية معناها أن الشعب على الكراسي، نفتش إذا وجدنا الشعب جالسا على الكراسي، وليس نواباً عن الشعب، وليست حكومة الشعب، ولا مجلس الشعب ولا حزب الشعب ولا الجبهة الشعبية، هذا كله تزييف ودجل، ولا هناك حزب ديمقراطي ولا رئيس ديمقارطي، الحزب يتكون لكي يصل إلى السلطة نيابة عن الشعب، أما الديمقراطية فتعني المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية“.

وفي 2 مارس 1988، بادر القذافي أمام المؤتمر الشعبي العام بالتأكيد على أنه سوف يتخذ العديد من إجراءات الأنفراج السياسي في ليبيا، إلا أن الواقع أثبت بقاء الأسس التي قام عليها النظام الليبي ومنها استمرار العداء للديمقراطية الليبرالية واستمرار تجريم الحزبية.

وفي عام 2009، ألقى القذافي كلمة للإيطاليين في ميدان كامبيدو جليو الشهير بروما بقوله إنه لو كان الأمر بيده لألغيت الأحزاب السياسية ومُنح الشعب الإيطالي السلطة المباشرة، وأنه لن يكون هناك يمين ولا يسار ولا وسط فالنظام الحزبي يجهض الديمقراطية.

يتوافق ذلك مع أقوال القذافي في كتيبه الأخضر بأن المجلس النيابي تمثيل خادع للشعب، والنظم النيابة حل تلفيقي لمشكلة الديمقراطية، والحزب آخر الدكتاتوريات حتى الآن، لقد أدت هذه الآراء المعادية للأحزاب إلى غياب العمل والتنظيم الحزبي في ليبيا.

6 ـ حملات الاعتقالات والإعدامات الممنهجة

تمثلت التوجهات المناهضة للأحزاب السياسية في عدد من التشريعات والقرارات والقوانين من بينها: “قرار حماية الثورة” الصادر في 11 ديسمبر 1969، والمادة (18) الواردة بالإعلان الدستوري المؤقت الصادر يوم 12 ديسمبر 1969، والقرارات المتعلقة بتجريم الحزبية بمقولة “من تحزب خان“، يمكن القول إن الاعتداء على الحقوق والحريات العامة للإنسان في ليبيا جاء مبكرا، أي بعد ثورة سبتمبر 1969 مباشرة، بحيث كان العمل في البداية من أجل السيطرة على جميع مقومات الثورة والقضاء على معارضيها.

لقد تعرض المساجين في سجن “الحصان الأسود“، إلى الضرب المبرح خلال الفترة التي تلت 1970. وكانت التهم الموجهة لبعضهم: توزيع منشورات، والبعض الآخر الاتصالات مع الأعداء والتخابر مع جهات أجنبية لقلب نظام الحكم، وكان هذا السجن يثير الرعب بمجرد ذكر اسمه، ومن بين الذين تعرضوا للتعذيب الاستاذ عبدالمولى دغمان رئيس الجامعة الليبية، وموسى الشلوي، وأحمد عبدالرحيم، كما تعرض الشاعر راشد الزبير السنوسي، وصلاح الغزال، وعمر عبدالرحيم، ومحمد المهدي، وأحمد الزبير السنوسي أيضا للتعذيب، وقد اعتقلت هذه المجموعة في شهر أغسطس 1970 بتهمة تدبير محاولة انقلابية على نظام الحكم والانتماء إلى أحزاب سياسية، ومن الأساليب التي استخدمت لمحاربة الأحزاب السياسية أو أي فكر معارض:

أ ـ الاعتقال التعسفي: انتشرت سجون في مناطق عديدة واكتسبت دعاية مرعبة يضيق زنزاناتها، حيث مارست اللجان الثورية سلطات استثنائية باعتقال المشتبهين في معاداة النظام السياسي، وهكذا أصبح أمر الاعتقال روتينا يوميا.

ب ـ الاعتداء بالضرب: وهو من الأساليب المألوفة والمعتمدة لتخويف وإذلال المعتقلين من الحزبيين، وذلك بواسطة مجموعة من الملثمين يقومون بضرب المعتقلين مع وضع حاجز يمنع رؤية من يقوم بهذه العملية.

ج ـ هدم البيوت واتلاف الممتلكات: من بين الأعمال التي استخدمت خلال حقبة النظام السابق تعريض ممتلكات المناوئين للهدم للإتلاف، وذلك بغرض الضغط عليهم وثنيهم من الانخراط في التنظيمات الحزبية المحظورة.

د ـ الطرد من العمل: من بين الإجراءات التعسفية قيام النظام السابق بفصل العشرات من الطلاب والأساتذة من الجامعة، إلى جانب طرد عدد من الموظفين بسبب توجهاتهم وانتماءاتهم الحزبية.

وعقب إعلان الثورة الثقافية في 15 أبريل 1973، اعتقل عدد كبير من المنتمين للأحزاب السياسية منهم أساتذة جماعيون، معلمون، وصحفيون، وإعلاميون، قارب عددهم المائة.

وكان أسلوب العقاب المتبع هو السجن الجماعي، وكانت التهم التي وجهت إلى أغلبهم ـ التأسيس والانتماء إلى أحزاب سياسية ـ وتهريب الكتب الممنوعة، وفي التاسع من أكتوبر عام 1974، تقدمت النيابة العامة إلى غرفة الاتهام بمحكمة طرابلس الابتدائية باتهام أكثر من 31 شخصا، ومن أبرزهم الشاعر عبدالعاطي خنفر الذي قبض عليه بعد الثورة الثقافية مباشرة، وتم نقل هؤلاء في بادئ الأمر إلى المباحث العامة، ثم إلى السجن العسكري بمنطقة البركة في بنغازي، وبعد ذلك إلى سجن الكويفية، حتى استقر بهم المقام في سجن الحصان الأسود بطرابلس، وأغلب المعتقلين من عناصر جماعة الإخوان المسلمين وحزب التحرير الإسلامي، ووجهت إليهم تهماً مختلفة لعل أهمها الإنتماء إلى تنظيمات حزبية محظورة، ونصت هذه التهم على الآتي:

1ـ المتهمون أقاموا تنظيما سياسيا محظورا بموجب القانون، يتخذ من الشيوعية الماركسية اللينينية عقيدة ومنهاج عمل لقلب نظام الحكم ونظموا أنفسهم في خلايا، ويعملون على استقطاب أعضاء.

2ـ اتهم هؤلاء بحيازة كتب ماركسية جلبوها من مصر والاردن كجزء من مكتبة التنظيم التي كانت تستعمل للتثقيف العقائدي.

3ـ إن المتهمين تلقوا بمدرسة الكوادر التابعة لإحدى المنظمات الماركسية في الأردن تدريبات عسكرية ومحاضرات في الثقافة الماركسية.

4ـ حضور اجتماعات للماركسية في بيت أحد المتهمين في بنغازي، طرح فيها منهجا للعمل الحزبي.

5ـ عمل أحدهم على أن يكون حلقة وصل بين التنظيم الماركسي وتنظيم التروتسكيين في محافظة الزاوية، وحاول أخرون تكوين جبهة يسارية وشارك في اجتماعات متعددة.

وينطبق على التهم السابقة نصوص المواد 3،2،1 من قانون تجريم الحزبية رقم 71\1972 وبالمادة 2\أ من قرار مجلس قيادة الثورة بشأن حماية الثورة الصادرة في 2 شوال 1389هـ الموافق 11 ديسمبر 1969، وبالمادتين 444 و 336 بند 2،1 من الفقرة الأولى، وبند 3 من الفقرة الثانية، وبالمادة 447\2، وبالمادة 77 من قانون العقوبات.

لذلك تطلب النيابة العامة من غرفة الإتهام إحالة القضية إلى محكمة الجنايات بطرابلس لمحاكمة المتهمين طبقا لنص المواد سالفة الذكر، وحكم على هؤلاء بعقوبات تتراوح بين الحبس أربع سنوات إلى خمس عشر سنة، وفي 24 فبراير 1977، عدلت هذه الأحكام بقرار من مجلس قيادة الثورة إلى السجن المؤبد والإعدام.

لقد شهدت الفترة (1973ـ1977) بداية الصراع الذي صنع أسبابه وعجل به القذافي ضد الأحزاب التي لم تستجب لسياساته، ولم تذعن لقراراته، واتخذت من السلبية موقفا رافضا لمشروعه الفكري وفق ما تسمى “النظرية العالمية الثالثة“، الذي بدأ يسوّق لعل بمقولاته “من تحزب خان“، و “التمثيل تدجيل“.

ورغم قمع نظام القذافي المتواصل للأحزاب السياسية، لم تتوقف محاولات تكوين بعض الليبيين للأحزاب السياسية سراً في ليبيا أو خارجها، ومن أهم هذه المحاولات تشكيل عمر المحيشي الحزب الوطني الليبي بعد الإنقلاب الفاشل ضد النظام السياسي القائم في 1975.

وفي عام 1976، استهدفت الثورة الطلابية شريحة الطلاب من الحزبيين، وتم اعتقال قياداتهم وفصل العشرات من الدراسة الجامعية، وأعيد تشكيل الجهاز الإدراي للكليات والجامعات. وحدثت المواجهة المباشرة مع اتحاد الطلبة من قبل القوى الثورجية داخل جامعة بنغازي، حيث اعتقل عدد منهم، وفي يوم 6 أبريل 1977 أعدم كل من عمر دبوب، ومحمد بن سعود أمام كنيسة بنغازي بتهمة الإنتماء إلى حركة القوميين العرب.

لقد حاول بعض الحزبيين عقد عدة لقاءات سرية، بهدف تفعيل العمل السياسي، إلا أن الأمر لم يدم طويلا، حيث تمكنت عناصر الأمن الداخلي من كشف تحركاتهم والقبض عليهم جميعا، ووجهت لهم عدة تهم منها: محاولة قلب نظام الحكم، والتأسيس والإنتماء إلى حزب سياسي، والعمالة للخارج، ولقد شملت الحملة التي استُهدِف بها الحزبيون اعتقال نحو 60 طالباً ومعلماً في مناطق شرق ليبيا ينحدر أغلبهم من مدن بنغازي والبيضاء وشحات.

وممن شملتهم الاعتقالات الإذاعي بالقاسم بن دادو، ومحمد حمّي أحد رجالات الحركة الوطنية وأحد قيادات حزب البعث، والاستاذ طالب الرويعي الصحفي والنقابي التقدمي، واستاذ الفلسفة المصري الدكتور عبدالرحمن بدوي، وغيرهم كثيرون، ووجهت لهم تهم تشكيل تنظيم يساري مناوئ لنظام الحكم القائم في ليبيا.

ومن بين أهم الحركات السياسية المعارضة الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا التي تأسست عام 1981 وكان هدفها الإطاحة بنظام القذافي بكل الوسائل، ولتحقيق ذلك قامت بعدة محاولات انقلابية مسلحة، أشهرها الهجوم المسلح في مايو 1984 على معسكر باب العزيزية في طرابلس، حيث تمكّن ثمانية من عناصر الجبهة المعروفين بـ “مجموعة بدر” من دخول معسكر باب العزيزية والاشتباك مع عناصر الحراسة، وتلا ذلك قيام الأجهزة الأمنية واللجان الثورية بحملة اعتقالات واسعة في صفوف المنتمين لهذه الجبهة، وقامت السلطات بمحاكمة ثمانية من عناصر الجبهة وصدرت أحكام بالإعدام منهم: محمد الشيباني، ساسي زكري، أحمد سليمان، عثمان زرتي، الصادق الشويهدي، عبدالباري فنوش، فرحات عمار، والمهدي لياس.

***

د. أحمد الزروق أمحمد الرشيد ـ استاذ العلوم السياسية المساعد، كلية الاقتصاد، جامعة بنغازي

أ. عماد مفتاح فرج دخيل ـ استاذ العلوم السياسية المساعد، كلية الاقتصاد، جامعة بنغازي

أ. حكمت أحمد رجب صبرة ـ استاذ العلوم السياسية المساعد، كلية الاقتصاد، جامعة بنغازي

***

المصدر: مجلة العلوم السياسية والقانون : العدد الثالث عشر يناير – كانون الثاني 2019 – المجلد الثالث. وهي مجلة دولية محكمة تصدر عن المركز الديمقراطي العربي المانيا– برلين، تُعنى بالدراسات والبحوث والأوراق البحثية في مجالات العلوم السياسية والعلاقات الدولية، والقانون والسياسات المقارنة، والنظم المؤسسية الوطنية أو الإقليمية والدولية.

______________

مقالات مشابهة