بقلم أحمد الرشيد، وعماد دخيل، وحكمت صبرة
تعد التعددية الحزبية ظاهرة حديثة العهد في الأنظمة السياسية المعاصرة، وقد أضحت ـ أحد مقومات العملية الديمقراطية في العالم اليوم، إذ لا تستقيم الديمقراطية النيابية إلا بوجود تعددية حزبية.
الجزء الاول
الملخص:
تهدف هذه الدراسة إلى البحث في أسباب تشوّه الثقافة السياسية عند الليبيين تجاه الظاهرة الحزبية، وانعكس ذلك على انخفاض العضوية في الأحزاب السياسية عند الليبيين وعدم ثقتهم فيها، وربما رجع هذا إلى حظر الأحزاب السياسية في ليبيا خلال تاريخها الحديث والمعاصر.
قبل الاستقلال بسنوات قليلة؛ لم تلق التنظيمات والحركات السياسية قبولَ ورضا الأمير محمد إدريس السنوسي، وهو ما دفعه إلى محاولة دمجها ثم حظرها كلياً. وبعد الاستقلال؛ أوضحت الدراسة اتفاق رؤية كلا النظامين: النظام الملكي ونظام القذافي في رفض الأحزاب السياسية، إلا أنهما يختلفان في سُبل مواجهتها وطريقة التعامل معها.
ففي حين استخدم النظام الملكي القوة الناعمة في التعامل مع التنظيمات والأحزاب السياسية السرية المناوئة له، استخدم نظام القذافي كافة الوسائل المتاحة حتى وصل في ذلك إلى فرض عقوبة الإعدام على كل من ينتمي إلى الأحزاب السياسية المحظورة.
المقدمة:
تعد التعددية الحزبية ظاهرة حديثة العهد في الأنظمة السياسية المعاصرة، وقد أضحت ـ أحد مقومات العملية الديمقراطية في العالم اليوم، إذ لا تستقيم الديمقراطية النيابية إلا بوجود تعددية حزبية، وذلك لقيامها بعدة وظائف أساسية كالتجنيد السياسي، وتجميع المصالح، والتحديث والتنمية السياسية، والمشاركة السياسية.
فالاحزاب السياسية وسيلة اتصال أساسية بين السلطة والمواطنين، وتعمل على تقديم المرشحين للمناصب العامة، برلمانية أو تنفيذية، كما تقوم الأحزاب السياسية بمراقبة أعمال الحكومة ومتابعتها، سواء أكانت هذه الأحزاب في السلطة أو في المعارضة، ولذلك يعود نجاح الظاهرة الحزبية إلى تطورها ونشأتها في كنف الأنظمة النيابية الغربية، وهو ما مكّنها من التكيف وفقا لطبيعة هذه الأنظمة وتطورها عبر الوقت.
تشكل الأحزاب السياسية في أغلب الدول النامية نماذج مستوردة جعلتها مجرد أنماطٍِ شكلية تمثل انعكاساً لواقع اجتماعي تسيطر فيه العلاقات الأولية، وبالتالي تأثرت هذه الأحزاب بالظروف التي أوجدتها، فاكتسبت في بادئ الأمر نوعا من الشرعية بقبول المواطنين وتأييدهم لدورها القيادي في مقاومة القوى الإستعمارية والتدخل والهيمنة الأجنبية، ولكن بعد الاستقلال، سرعان ما حدث تعارض واضح فيما بينها في محاولة إثبات وجودها لممارسة وظائفها وتخوّف السلطة الحاكمة التي تعدّ ذلك تهديداً لوجودها وسلطاتها، فكيف لأحزاب أن تعمل في ظل دولة تسلطية لا تقبل أصلا المشاركة الشعبية، بل تسعى جاهدة إلى استبعاد كل القوى السياسية المنافسة لها، فلا يوجد تمثيل انتخابي حقيقي، بل سلطة سياسية متحكمة يسعى الجميع إلى استرضائها وكسب ثقتها بشتى الوسائل.
وفي ظل دولة تقوم على قاعدة مزدوجة من علاقات الهيمنة والتسلط وترسيخ الاستحواذ والإقصاء، فإن العلاقة بين الأحزاب السياسية والسلطة لا يمكن أن تكون طبيعية ذات توجهات ديمقراطية، فالأحزاب من جهتها ترى في غيرها قوى معادية، وفي هذه الحالة ليس ثمة مجال للممارسة والمنافسة الحزبية، وإنما مؤامرات واتهامات متبادلة.
وهذا ربما يعكس التجربة الحزبية في ليبيا، إذ لم يعهد الليبيون الأحزاب إلا خلال فترة محدودة سبقت الاستقلال بسنوات قليلة، وتبلور ذلك في شكل هيئات وجمعيات وحركات سياسية من أجل النضال والضغط الشعبي في سبيل الحرية والتخلص من الهيمنة الأجنبية، ولم تلق هذه الأحزاب قبولا من السلطة السياسية، لأنها ليست الجهة المسؤولة عن وجود هذه السطلة، كما هو الحال في الديمقراطية الراسخة، بل لجأت السلطة السياسية إلى التخلص منها، واستخدام كافة الوسائل بما فيها الخوين لإقصاء العناصر الحزبية، ولهذه الأسباب وغيرها جاء موضوع هذه الدراسة قيد البحث.
المحور الأول : الحركات والتنظيمات السياسية في ليبيا قبل الاستقلال
ما إن اتضح لليبيين عدم إلتزام الإدارة العسكرية البريطانية بالوفاء بوعدها للأمير محمد إدريس السنوسي بمنح ليبيا الاستقلال ـ الإتفاق الذي تأسس بموجبه الجيش السنوسي في 9 أغسطس 1940 بالقاهرة، وحارب الليبيون إلى جانب الحلفاء الوجود الإيطالي في ليبيا خلال الحرب العالمية الثانية ـ حتى برزت إلى الوجود حركات وطنية في شكل تنظيمات سياسية في بنغازي وطرابلس وبشكل محدود في فزان، وكان يمكن اعتبار هذه الحركات والتنظيمات نواة للأحزاب السياسية فيما بعد، لو سمح لها بالبقاء وممارسة نشاطها بعد الإستقلال بحرية.
لقد تزامن هذا النشاط السياسي مع عودة عدد كبير من المهاجرين الليبيين إلى البلاد، وكان هدفهم من خلال هذه الحركات والتنظيمات، العمل والضغط على المجتمع الدولي من أجل الحصول على استقلال البلاد وإنهاء الهيمنة الأجنبية.
أولا: الحركات والتنظيمات السياسية في برقة
ما ميّز إقليم برقة عن غيره من أقاليم ليبيا الأخرى هو وجود قيادة جامعة تمثلت في شخصية الأمير محمد إدريس السنوسي سليل وزعيم الحركة السنوسية، الذي استمد سلطته وشرعيته من ولاء القبائل التقليدي لهذه الحركة، إلى جانب نشاطاته الدبلوماسية خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية التي نتج عنها الاعتراف به كأمير على برقة، ودخول الحرب العالمية الثانية إلى جانب الحلفاء على أمل أن تمنح بريطانيا بلاده الإستقلال، وتأسس في برقة الكثير من التنظيمات والحركات السياسية لعل أهمها:
أـ جمعية عمر المختار:
تأسست هذه الجمعية في القاهرة عام 1940، وضمت بعض أبناء الجالية الليبية في مصر، وأعيد تأسيسها في 4 أبريل 1943 في بنغازي تزامناً مع تولي الإدارة العسكرية البريطانية إدارة وحكم إقليم برقة.
وما ميّز هذه الجمعية عن غيرها من الحركات والتنظيمات الحزبية في برقة، أنها كانت تمثل جيل الشباب والنخبة المثقفة، فأغلب أعضائها من الشباب المثقف الذي تلقى تعليمه في مصر، وبذلك تأثروا بأفكار وقضايا التحرر القومي العربي، حيث يرون في برقة جزءً لا يتجزأ من مملكة دستورية يرأسها السيد محمد إدريس السنوسي، ويحكمها حكما دستورياً بحكومة ديمقراطية مسؤولة أمام برلمان منتخب.
لقد اتخذت جمعية عمر المختار موقفاً متشدداً من الإدارة العسكرية البريطانية في ليبيا ووحدة أراضيها، وعبّرت عن ذلك من خلال نشراتها ومطبوعاتها المناهضة للوجود الأجنبي في البلاد، وعدم تنازلهم عن استقلال ليبيا ووحدة أراضيها، وانتقدت بذلك موقف الجبهة الوطنية البرقاوية التي ترى في استقلال برقة أهم أولوياتها.
وحول طبيعة الخلاف بين جمعية عمر المختار والجبهة الوطنية البرقاوية التي تمثل الجيل الأكبر سنا، يؤكد سكرتير عام الجمعية في تقريره إلى الجمعية العمومية بقوله: “إن المسألة ليست مسألة اختلاف في أساليب العمل لهدف معين فحسب حتى يكون من السهل الوصول فيه إلى تفاهم مع الجبهة المذكورة، وإنما هو اختلاف في جوهر الأهداف أو اختلاف في الأسس السليمة التي ترتكز عليها آمالنا القومية والوطنية، لذلك أن الجبهة الموقرة تنادي باستقلال برقة دون سواها، وتسجل على نفسها مسؤولية العمل على تجزئة ليبيا، في حين تنادي هذه الجمعية بوحدة ليبيا واستقلالها“.
ب ـ الجبهة الوطنية البرقاوية:
جاء تأسيس هذه الجبهة في بنغازي عام 1946 كإستجابة لخطاب الأمير محمد إدريس السنوسي الذي ألقاه في ميدان البلدية ببنغازي، وضمت بين أعضائها بعض أبناء العائلة السنوسية، وزعماء القبائل، وعددا من زعماء المدن التقليديين.
لقد كان تركيز هذا التنظيم المعارض جلّه، هو الاهتمام بشؤون برقو وخلق اتجاه مناهض لجمعية عمر المختار، بحيث كان هدفها المعلن الدعوة إلى استقلال برقة ودعم النفوذ السنوسي، وأفسحت بذلك المجال أمام العناصر التقليدية التي طالبت باستقلال برقة في مواجهة جمعية عمر المختار، أما الهدف غير المعلن فهو محاولة سحب البساط من تحت جمعية عمر المختار التي يدافع أعضاؤها عن استقلال ووحدة ليبيا بالكامل.
ج ـ المؤتمر الوطني:
تأسس هذا التنظيم عام 1948 بهدف توحيد جميع الحركات والتنظيمات السياسية تحت مظلة واحدة، وتزامن ذلك مع سماح الإدارة العسكرية البريطانية بتمكين الأمير محمد إدريس السنوسي من ممارسة بعض الإختصاصات الإدارية في إقليم برقة، والذي قام بحل جميع الحركات والتشكيلات الحزبية ودمجها في تنظيم واحد باسم المؤتمر الوطني. وجاءت فكرة تأسيس هذا المؤتمر من شعور الأمير بأن التيار السياسي الذي تدعمه جمعية عمر المختار يتعارض مع برنامجه السياسي، وأن تعدد الهيئات والجمعيات يؤدي إلى نزاع وتشرذم سياسي مما يتسبب في عدم الاستقرار، على اعتبار أن المرحلة تتطلب توحيد الجهود الوطنية كافة لمنع الخلافات بين الأطراف الوطنية، ورغم ذلك فلم يتمكن من القضاء بشكل نهائي على المناوئ لسياسته، فاستمرت جمعية عمر المختار تنتقد مطالب استقلال برقة دون غيرها من أقاليم ليبيا الأخرى.
ثانيا: الحركات والتنظيمات السياسية في إقليم طربلس الغرب
ما يميّز إقليم طرابلس هو تباين مكوناته وعدم توافقها على مستوى المناطق والقبائل والمكونات الاجتماعية المختلفة، وذلك بفعل أسلوب الحكم الذي خضع له هذا الإقليم عبر الوقت، فحدثت خلافات عميقة بين القيادات الدينية والاجتماعية، حيث سيطر الفكر الصوفي القديم على معظم مراكز التعليم الديني، وبرزت عائلات متنفذة بحسب علاقاتها التاريخية بالخارج وتعاونها مع الأقليات الأجنبية في الداخل.
لكل هذه الأسباب وغيرها، لم تتمكن أيِّ من الزعامات السياسية أن تبرز في طرابلس بحيث تلتف حولها زعامات المناطق والقبائل الأخرى، وهو ما أحدث نوعاً من تشرذم الحركات السياسية، فظهر في إقليم طرابلس عددُ كبير من الحركات والتنظيمات السياسية الحزبية، أهمها:
أ ـ الجبهة الوطنية المتحدة:
تأسست هذه الجبهة في 10 مايو 1946 لتجمع الاتجاهات الوطنية على اختلاف توجهاتها، وضمت عدداً كبيرا من الشخصيات والأعيان المعروفين، مثل محمد أبوالأسعاد العالم، ومحمود المنتصر، ومصطفى ميزران، وأحمد الفقيه، وسالم المنتصر.
وكان هدف الجبهة العمل على تحقيق الاستقلال، والاتصال بجميع الجهات والمنظمات والشخصيات السياسية الدولية لتحقيق هذا الهدف فتواصلت مع الجبهة الوطنية البرقاوية بوفد ضم الشيخ الطاهر المريّض والسيد محمود المنتصر اللذين التقيا الأمير محمد إدريس السنوسي في القاهرة، وعرضوا عليه مقترحهم بضرورة وحدة ليبيا واستقلالها ضمن حدودها بأقاليمها الثلاثة، والإعتراف بزعامته.
وفي يناير 1947 وصل وفد الجبهة إلى بنغازي، التقى فيها بوفد الجبهة الوطنية البرقاوية لبحث القضايا التي تهم الطرفين، ولكن وبسبب خلافات بين زعماء الجبهة أدت إلى انشقاق سالم المنتصر، مما أضعفت قوة وتأثير هذا التنظيم.
ب ـ هيئة تحرير ليبيا:
بعد أن تعثرت جهود المفاوضات بين الجبهة الوطنية المتحدة الطرابلسية والجبهة الوطنية البرقاوية في بنغازي، تأسست هذه الهيئة في القاهرة في مارس 1947 بزعامة السيد بشير السعداوي بتأييد من الجامعة العربية، ودعت إلى استقلال ليبيا دون الإعتراف في بادئ الأمر بزعامة محمد إدريس السنوسي مما أدى إلى عدم تجاوب أبناء برقة معها، ولكن بمرور الوقت اقتنع السيد بشير السعداوي بأهمية دور الأمير محمد أدريس السنوسي والحركة السنوسية في مستقبل ليبيا، فدعا إلى استقلال ليبيا موحدة تحت زعامة الأمير محمد أدريس السنوسي.
ضمت هيئة تحرير ليبيا كلاً من الطاهر المريّض، أحمد السويحلي، منصور بن قدارة، محمود المنتصر، على العنيزي، وجواد بن زكري. وكانت مهمة الهيئة معالجة القضية الوطنية والتوفيق بين وجهات النظر بين الليبيين والمطالبة بالوحدة والاستقلال، ويعدّ تأسيس هذه الهيئة نقطة تحول في النضال من أجل وحدة ليبيا واستقلالها، حيث كانت قناعة الزعيم بشير السعداوي بأن الاستقلال الحقيقي لا يتأتي إلا بوحدة البلاد.
ج ـ حزب المؤتمر الوطني:
تأسس هذا الحزب في عام 1948 كرد فعل على إعلان بيفن سفورزا الذي يهدف إلى وضع إقليم طرابلس تحت وصاية وإدارة السلطات الإيطالية وبمباركة بريطانيا وفرنسا، ونتيجة لذلك ساد استياء عام في عموم إقليم طرابلس ضد السياسة البريطانية لتأييدها الوصاية الإيطالية، وأعلن زعماء حزب المؤتمر الوطني إضراباً عاماً في عموم الإقليم وعزموا على القيام بمظاهرة سلمية احتجاجا على هذا المخطط الذي عدّوه بمنزلة مؤامرة ضد طموحاتهم بالحرية والاستقلال، وقدم زعماء الحزب مذكرة إلى الدول الأربع الكبرى (الولايات المتحدة، والاتحاد السوفييتي، وبريطانيا، وفرنسا) باسم الأمة الليبية يطالبون فيها بتنفيذ وعودها بمنح ليبيا استقلالها.
ثالثا: الحركات والتنظيمات السياسية في إقليم فزان
لقد حاولت الإدارة الفرنسية عزل إقليم فزان عن باقي أقاليم ليبيا الأخرى، وساعدها في ذلك جغرافية هذا الإقليم، فمنعت السكان المحليين من تكوين أحزاب وهيئات سياسية، ومن حرية التعبير، وصدور صحف يومية، حيث كان هدفها ضم هذا الإقليم إلى مستعمرات فرنسا في أفريقيا الإستوائية.
ورغم ذلك، فقد أنشئت جمعية سرية في فزان عام 1946، تضم بين أعضائها شخصيات وطنية معروفة اجتماعيا، وانتخبت من بين أعضائها الشيخ عبدالرحمن البركولي رئيسا لها، والسيد محمد عبدالرحمن الصيد نائبا للرئيس الذي فُوِّض بتعزيز العلاقات السرية مع الأمير محمد إدريس السنوسي، وبعض زعماء إقليم طرابلس.
لقد تمكنت هذه الجمعية من عقد لقاءات سرية مع زعماء طرابلس من بينهم السيد أحمد الفقيه حسن رئيس الحزب الوطني، والاستفادة منهم في تنظيم الكفاح ضد الإدارة الفرنسية التي تحاول فصل إقليم فزان بعدم الاتصال بالتيارات السياسية السائدة في كل من طرابلس وبرقة.
وبعد زيارة لجنة التحقيق الرباعية إقليم فزان في عام 1948، وتجوالها في جميع المتصرفيات وبعض القوى، التقى أعضاء اللجنة بعض ممثلي الجمعية السرية، الذين تحدثوا عن مطالب سكان الإقليم ـ رغم إدراكهم عاقبة الجهر بآرائهم ـ وهي استقلال ليبيا ووحدة أراضيها تحت قيادة الأمير محمد بن علي السنوسي، والإنضمام إلى جامعة الدول العربية.
وبذلك استطاعت الجمعية أن تبلور موقفا موحداً عبّر عنه ممثلو الجمعية السرية أمام أعضاء لجنة التحقيق الرباعية، وما إن غادرت اللجنة الأممية إقليم فزان، حتى بدأت السلطات الفرنسية باعتقال جميع قيادات الجمعية السرية الذين التقوا لجنة التحقيق الأممية وعلى رأسهم السيد محمد عبدالرحمن الصيد، ووجهت إليهم تهمة تأسيس تنظيم سري وبتحريض السكان المحليين ضد الإدارة الفرنسية.
المحور الثاني: العمل والتنظيم الحزبي في ليبيا خلال العهد الملكي
لم يكن الملك إدريس السنوسي راغباً في السماح للأحزاب بممارسة نشاطاتها السياسية، وربما يرجع ذلك إلى معاصرته تجرب الأحزاب خلال إقامته في مصر قبل استقلال ليبيا، وما نتج عن عمل الأحزاب السياسية من صراع وتناحر فيما بينها دون المصلحة الوطنية، إلى جانب ما شاهده من علاقة تلك الأحزاب بالسفارات الأجنبية.
وهذا ربما يفسر عدم ترحيبه بالعمل والتنظيم الحزبي في ليبيا، فحاول توحيد التنظيمات والحركات السياسية في برقة في تنظيم سياسي واحد باسم المؤتمر الوطني في عام 1948، وعندما لم يفلح، قام بحل جمعية عمر المختار، والنادي الأهلي الرياضي التابع لها، وأغلق مركزها في بنغازي ودرنة في 20 يوليو 1950، بحجة تنظيمها لمظاهرة دون إذن وترخيص رسمي، والقيام بأعمال شغب.
وجاء حلُّ جمعية عمر المختار من خلال رسالة وجهها الأمير محمد إدريس السنوسي إلى رئيس الجمعية جاء فيها: “بناء على ما اتضح لنا من مخالفة جمعية عمر المختار التي ترأسونها لمنشورنا الذي نهينا فيه عن السياسة وتركها للجبهة التي تمثل الشعب من جميع القبائل .. وإني ألآن أعلن حلها وحل الجبهة ورابطة الشباب حرصا على وحدة الأمة“.
لقد نص دستور استقلال البلاد في عام 1951 على أن الأحزاب السياسية ينظمها قانون، ولم ير هذا القانون النور إبداً، حيث نصت المادة 26 من الدستور: “حق تكوين الجمعيات السلمية وكفول، وكيفية استعمال هذا الحق ينظمها القانون، أما الجمعيات السرية والجمعيات التي ترمي إلى تحقيق أهداف سياسية بواسطة منظمات ذات صبغة عسكرية فتكوينها محظور“.
وبسبب القلاقل والإضطرابات التي صاحبت أول انتخابات نيابية بعد الاستقلال، قام أنصار حزب المؤتمر الوطني الطرابلسي بمهاجة بعض مراكز الإقتراع في المناطق المحيطة بمدينة طرابلس، عندما شعروا أن سير الإنتخابات ليس في صالحهم، وحالوا احتلالها بالقوة، اضطرت على إثرها الحكومة إلى الإستعانة بقوات الأمن لتهدئة الوضع، وحدثت مواجهات بين الطرفين نتج عنها قتلى وجرحى من الجانبين.
وبعد وقوع هذه الأحداث، قام رئيس الوزراء محمود المنتصر، أول رئيس وزراء ليبيا بعد الاستقلال، وبعد التشاور مع الملك محمد إدريس السنوسي، باتخاذ إجراءات صارمة ضد المتورطين، وأصدر قرارا إداريا ألغيت بموجبه الأحزاب السياسية ومنع قيامها على أساس أنها تأسست خلال حقبة الإدارة البريطانية، ولها صلة بدول أجنبية، وتتلقى الدعم والتمويل من الخارج، وتعمل على زعزعة استقرار البلاد، ونُفي على أثرها السيد بشير السعداوي زعيم حزب المؤتمر الوطني الطرابلسي وأحمد زارم رئيس تحرير جريدة الشعلة إلى خارج البلاد على اعتبار أنهما يحملان جنسية غير ليبية.
ورغم الحظر الحكومي الذي صدر بشأن تكوين الأحزاب والتنظيمات السياسية في ليبيا، لم يمنع ذلك من وجودها وممارسة نشاطها بشكل سري تأثراً بالتطورات السياسية الداخلية والإقليمية، ومن أن يكون لها دور بارز في الحياة السياسية الليبية، ولعل أبرز التيارات السياسية في العهد الملكي الآتي:
1:ـ التيار الإسلامي
يعود الوجود المبكر لحركة الإخوان المسلمين في ليبيا إلى أواخر أربعينيات القرن الماضي، عندما تمكن ثلاثة من الشبان المصريين التابعين لحركة الإخوان المسلمين الفرار من مصر، ودخلوا البلاد بعد اتهماهم بالمشاركة في اغتيال رئيس وزراء مصر الأسبق محمد فهمي النقراشي باشا، حيث منحهم الأمير محمد إدريس السنوسي ـ أمير برقة في ذلك الحين ـ حقّ اللجوء السياسي.
لقد تأثر العديد من شباب مدينة بنغازي بأفكار وأراء الإخوان التي كانوا يدعون إليها من خلال مواعظهم ودروسهم الدينية في المساجد وعبر المحاضرات العامة. ومنذ ذلك الوقت أصبح لفكر الإخوان المسلمين حضور واضح في المشهد الديني والثقافي والسياسي في البلاد دون أن يظهر للعلن، وذلك بسبب الخطر الذي فرضته السلطات الليبية على الجمعيات والحركات السياسية في البلاد.
2 ـ التيار القومي:
لقد ساعدت مناهضة القوميين العرب للإمبريالية والاستعمار والوجود الأجنبي في المنطقة العربية خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي على انتشار الفكر الناصري والبعثي، وفي عام 1960، ألقت السلطات الليبية القبض على مجموعة من الحزبيين من عدة مدن ليبية بتهمة تشكيل تنظيم سري محظور، وهو حزب البعث العربي السوري. وحكمت السلطات القضائية على المتهمين بأحكام تراوحت ما بين السجن لعدة اشهر إلى بعض سنوات.
كما قامت الحكومة الليبية عام 1967 باكتشاف تنظيم سري آخر تابع لحركة القوميين العرب، وحوكم أعضاؤه أيضاً، وصدرت ضدهم أحكام مماثلة للأحكام التي طالت البعثيين من قبل، وكان من بين المتهمين في الحالتين سوريون وفلسطينيون وأردنيون ممن كانوا يشتغلون في ليبيا في مجالات مختلفة.
3 ـ التيار اليساري:
يضم هذا التيار اليساريين الذين تأثروا بالفكر الماركسي خلال دراستهم خارج البلاد أو عبر اطلاعهم على أدبيات الفكر الماركسي داخل ليبيا، من خلال الصحف والمجلات والإذاعات المسموعة الموجهة، كما يضم أنصار حركة القوميين العربي الذين تبنوا الفكر المركسي واليساري بعد حرب يوليو 1967.
لقد تمكن التيار اليساري من الانتشار بين فئات الطلاب والمدرسين ونقابات العمال، واستغلت العناصر اليسارية في دعوتها سوء الأوضاع المعيشية والإقتصادية في البلاد.
ورغم ذلك لم تفلح الأحزاب الشيوعية من خلق قواعد شعبية في ليبيا لتعارضها مع النزعة الدينية لأغلب المواطنين، وحاولت هذه العناصر استغلال المظاهرات في أحداث يناير 1961 لصالحها عن طريق الخطب وتوسيع نطاق الإضطرابات وأعمال الشغب، ورغم ذلك ظل دورها محدودا.
***
د. أحمد الزروق أمحمد الرشيد ـ استاذ العلوم السياسية المساعد، كلية الاقتصاد، جامعة بنغازي
أ. عماد مفتاح فرج دخيل ـ استاذ العلوم السياسية المساعد، كلية الاقتصاد، جامعة بنغازي
أ. حكمت أحمد رجب صبرة ـ استاذ العلوم السياسية المساعد، كلية الاقتصاد، جامعة بنغازي
***
المصدر: مجلة العلوم السياسية والقانون : العدد الثالث عشر يناير – كانون الثاني 2019 – المجلد الثالث. وهي مجلة دولية محكمة تصدر عن المركز الديمقراطي العربي المانيا– برلين، تُعنى بالدراسات والبحوث والأوراق البحثية في مجالات العلوم السياسية والعلاقات الدولية، والقانون والسياسات المقارنة، والنظم المؤسسية الوطنية أو الإقليمية والدولية.
______________