عمر محمد حميدان
تقديم:
بالرغم من حداثة الحياة الحزبية في ليبيا وقصرها، إلا أنها تظل من أهم ملامح وسمات مرحلة الثورة، وشاهدا حقيقيا على التغيير الديمقراطي والانتقال السلمي للسلطة عبر الانتخابات النزيهة، كما تعتبر هذه التجربة الحزبية – بحق- التغييرالأكبر لمشروع ثورة 17 فبراير، وبالتالي فهي جديرة بالدراسة والبحث، وبالعناية والتحليل.
ابتدأت هذه التجربة بصدور القانون رقم 29 لسنة 2012 بشأن تنظيم الأحزاب السياسية ، لتخوض ليبيا ثالث تجارب انتخابية هي انتخابات المؤتمر الوطني العام، وانتخابات الهيئة التأسيسية للدستور، وكان آخرها انتخابات مجلس النواب الليبي التي أجريت في 25 يونيو62014م.
وقد شاركت الأحزاب السياسية في هذه التجارب التي كانت اختبارا عمليا حقيقيا لتقييم الحياة الحزبية خلال النظام الجديد في ليبيا.
وسنحاول في هذه الورقة أن نتعرف بإيجاز عن هذه التجربة، عبر تتبع الدور السياسي للأحزاب، والذي هو مقسم الى قسمين: دور سياسي مباشر، يتمثل في الدور الانتخابي في العملية السياسية لانتخابات المؤسسات السياسية، وهو ما سنتناوله في المطلب الثاني فنخصصه لدور غيرمباشر لها بخصوص المساهمة في الحياة السياسية العامة.
أولا: الدورالانتخابي للأحزاب في العملية السياسية
إن الدور الانتخابي للأحزاب السياسية في دولة ما رهين بالنظام الانتخابي فيها، وفي ليبيا لحد الآن ليس هناك نظام انتخابي موحد وثابت، فخلال هذه الفترة البسيطة التي أعقبت ثورة 17 فبراير إلى الآن شهدت ليبيا ثلاث عمليات انتخابية مختلفة، استقلت كل عملية منها بنظام انتخابي خاص ومغاير عن سابقتها، فكان من الطبيعي أن يتأثر دور الأحزاب- زيادة ونقصانا- في كل عملية منها تبعا لتغير نظامها الانتخابي، ففيما سمح القانون الانتخابي للمؤتمر الوطني العام بالمشاركة المباشرة للأحزاب السياسية، اقتصر دور الأحزاب على المشاركة غير المباشرة في انتخابات الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور وانتخابات مجلس النواب.
1ـ المشاركة المباشرة للأحزاب السياسية في انتخابات المؤتمر الوطني العام
تم تنظيم انتخابات المؤتمر الوطني العام بموجب القانون رقم 4 لسنة 2012 بشأن انتخابات المؤتمر الوطني العام الصادر في 28 /1 /2012م، والذي اعتمد النظام الانتخابي المتوازي الذي تضمن نظام الأغلبية ونظام التمثيل النسبي ذا القائمة المغلقة لانتخاب 200 عضو للمؤتمر الوطني العام. بحيث يتم انتخاب 120 عضوا على أساس نظام الأغلبية والفائز الأول في الدوائر الفردية، ويتم انتخاب 80 عضوا على أساس التمثيل النسبي في القوائم الانتخابية في الدوائر المتعددة المقاع، وقد قسمت البلاد إلى ثلاث عشرة دائرة رئيسية سمح للأحزاب بالترشح في اثني عشر دائرة منها.
وقد أجريت انتخابات المؤتمر الوطني العام بتاريخ 7/7/2012، وقد بلغ عدد الكيانات السياسية المشاركة في الانتخابات 374 كيانا وحزبا سياسيا. وقام أكثر من مليونين و700 ألف ليبي بتسجيل أسمائهم كناخبين.
وقد شهدت فترة الانتخابات تنافسا كبيرا بين الأحزاب السياسية، لاسيما بين الأحزاب الأربعة الكبرى وهي تحالف القوى الوطنية، وحزب العدالة والبناء، وحزب الجبهة الوطنية، وحزب الوطن، حيث شاركت هذه الأحزاب عن طريق قوائمها في أغلب الدوائر، كما شاركت في قوائم الأفراد فدفعت بمرشحيها وقامت بتمويل حملتهم الانتخابية وتولت التعبئة الأعلامية لهم والتصويت لصالحهم.
وقد كانت نتيجة الكيانات السياسية الفائزة كالاتي: تحالف القوى الوطنية 39 مقعدا؛ حزب العدالة والبناء 17 مقعدا؛ حزب الجبهة الوطنية إلنقاذ ليبيا 3 مقاعد؛ حزب التيار الوطني الوسطي مقعدان؛ وحزب الاتحاد من أجل الوطن مقعدان؛ بينما فاز بمقعد واحد كل من حزب الحكمـة، الرسالة، الوطن، الوطن للتنمية والرفاه، تيار شباب الوسط، لبيك وطني، الحزب الوطني الليبي، الركيزة، الوطن والنماء، التجمع الوطني بوادي الشاطئ، تحالف وادي الحياة، القائمة الليبية للحرية والتنمية، كتلة الأحزاب الوطنية، تجمع الأمة الوسط، ليبيا الأمل .
تعتبر التجربة الحزبية في انتخابات المؤتمر الوطني العام انطلاقة مشجعة وتجربة حزبية ناجحة لما شهدته من حضور كبير للأحزاب، ولما حققته هذه الأحزاب من مستويات أداء وتنظيم ومنافسة ولما حققته من نتائج، أما الملاحظات التي قد تسجل عليها فهي كالتالي:
أ. إن المشاركة الحزبية في ظل هذا القانون كانت جزئية ولم تكن كاملة.
اعتُبرت الأحزاب وسيلة ثانوية لا أساسية واقتصرت مشاركتها في المنافسة على 80 مقعدا من إجمالي 200 مقعد، أي بما نسبته 40 % تقريبا من إجمالي المقاعد، كما أنها كانت محدودة مكانيا إذ لم يُسمح للأحزاب بالمنافسة في كافة الدوائر الانتخابية وبالتالي لم تشمل مشاركتها كامل القطر الليبي، عدا أنها مُنعت من المنافسة في الدائرة الثامنة التي اقتصر الانتخاب فيها على الأفراد.
ب. تقويض نظام القوائم المخصص للأحزاب بابتداع فكرة الكيانات السياسية.
قام القانون رقم 4/2012 بشأن انتخابات المؤتمر الوطني العام بإنشاء الكيانات السياسية لتنافس الأحزاب السياسية في المقاعد الثمانين المخصصة لها، وعرّفها في مادته الأولى بأنها “مجموعة من الأشخاص أو تجمع سياسي أو ائتلاف سياسي يقدمون قائمة ترشح وفق اتفاق سياسي”. وبالتالي فقد انشأت العديد من الكيانات السياسية من تجمع مجموعة من الأشخاص قد لا يزيد عددهم عن ثلاثة أشخاص لتشارك في هذه الانتخابات وتنافس الأحزاب السياسية في المقاعد الثمانين المخصصة لها، الأمر الذي ترتب معه دخول الأفراد في منافسة الأحزاب في نصابها المخصص لها، ما يمكن اعتباره إفراغ لهذه الفكرة من محتواها، وتضييق لنظام القوائم على حساب النظام الفردي.
ت. التضييق من فرص فوز الأحزاب وتغليب حظوظ فوز الكيانات المحلية.
اعتمد هذا القانون نظام التمثل النسبي في توزيع المقاعد، والذي بمقتضاه توزع المقاعد بنسبة ثابتة على الأحزاب الفائزة ولا تذهب جميعها للحزب الفائز، وهذا النظام يعطي حظوظا كبيرة للكيانات السياسية لانتزاع مقاعد من الأحزاب الكبيرة بمشاركة متواضعة وبأصوات قليلة تأسيسا على فكرة بواقي الأصوات.
ج. تشجيع الولاءات المحلية والجهوية على حساب البرامج الوطنية.
إن هذا القانون شجّع على ظهور الكيانات السياسية المبنية على ولاءات محلية ومناطقية ضيقة على حساب الأحزاب السياسية الملبنية على برامج وطنية، فجميع الكيانات السياسية الخمسة عشر التي فازت بمقعد واحد من مقاعد المؤتمر الوطني العام هي كيانات سياسية محلية لم تدخل المنافسة الا في مناطقها، وكانت حملتها الدعائية تتعلق بالتنمية الملكانية لمناطقها وبمعالجة المشاكل المحلية فيها، ولم يكن لها أي برامج وطنية، كما أنها تعتمد على الزعامات المحلية والقبلية، ولا يمكن اعتبارها بأي حال أحزابا سياسية، ومع ذلك فقد تحصلت على 25 % تقريبا من المقاعد المخصصة للأحزاب، ما يمكن القول معه أن ما أخذتها الأحزاب من مقاعد هو 63 مقعدا تقريبا من 200 مقعد أي بما نسبته 31 % فقط.
د. صعوبة وتعقيد النظام الانتخابي وعدم تناسبه مع المرحلة.
فالنظام الانتخابي للمؤتمر الوطني العام كان معقدا للغاية ويضم ثالثة نماذج مختلفة بما في ذلك نظام الفائز الأول، والصوت الواحد غيرالمتحول، والتمثيل النسبي، وقد كان صعبا على الناخبين تفهمه، مما جعل البعض يرى أنه قد فشل في تلبية الالتزامات بشكل كاف من أجل المساواة في حق الاقتراع .
2ـ المشاركة الحزبية غيرالمباشرة
بعد التجربة اامباشرة للأحزاب في انتخابات المؤتمر الوطني العام، شهدت ليبيا تجربتين انتخابيتين، كان نظام الانتخاب فيهما مختلفا، فلم يسمح للأحزاب بالمشاركة المباشرة فيهما، واعتمدا النظام الفردي للانتخاب، مما ضيّق من فرص مشاركة الأحزاب واضطرها أن تدفع بمرشحيها في القوائم الفردية وتتولى دعمهم، وهاتان التجربتان هما: انتخابات الهيئة التأسيسية، وانتخابات مجلس النواب.
أـ تنظيم دورالحزاب في انتخابات الهيئة التأسيسية للدستورالليبي
أصدر المؤتمر الوطني العام القانون رقم 17 لسنة 2013 بشأن انتخاب الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور في ليبيا بتاريخ 20/7/2013، ليتم وفقا له انتخاب 60 عضوا من الليبيين يتولون كتابة مسودة الدستور الليبي ليتم عرضها للإستفتاء العام، وقد اعتمد هذا القانون نظام الترشح الفردي في انتخابات الهيئة.
وبالتالي لم يفتح المجال أمام الكيانات السياسية للمشاركة المباشرة بحجة أن طبيعة هذه المؤسسة وما تتطلبه عضويتها من كفاءة ومهنية أمر يقتضي إخراجها من الصراع والتنافس السياسي بين الأحزاب، لا سيما أن الصراع السياسي بين الأحزاب كان على أشده حينها، وقد تعدّى الأمر أكثر من ذلك حين ناقش المؤتمر الوطني العام مقترحا بمنع ذوي الإنتماءات الحزبية من الترشح لعضوية هذه الهيئة.
وقد شهد هذا الإقتراح ترحيبا من الرأي وكاد أن يضم هذا الشرط لولا تدخل البعد القانوني والدستوري القاضي ببطلان هذا التوجه. ولا شك أن هذا الاقتراح لو وجد طريقه للتطبيق لكان صدمة للحياة الحزبية في ليبيا، وضربة قاسمة لعمل الأحزاب فيها.
ولقد شاركت الأحزاب السياسية مشاركة غير مباشرة في انتخابات هذه الهيئة، حيث دفعت بمرشحيها كمرشحين مستقلين وتولّت دعمهم والتصويت لهم، كما قامت أحيانا بالوقوف وراء مرشحين مستقلين في دوائرهم وتولّت دعمهم ووجهت جماهيرها لهم، وقد وصلت العديد من الأحزاب لعضوية هذه الهيئة، إلا أن طبيعة هذه الهيئة وطبيعة عملها القانوني والفني قد حجب في كثيرمن الأحيان الدورالحزبي داخلها.
ب ـ تنظيم دورالأحزاب في انتخابات مجلس النواب
صدر القانون رقم 10 لسنة 2014 بشأن انتخاب مجلس النواب ليتم انتخاب مجلس للنواب يتكون من 200 عضوا يعتبر السلطة التشريعة المؤقتة للدولة في المرحلة الانتقالية، وقد نصت المادة 18 من هذا القانون على أنه “يعتمد النظام الانتخابي الفردي في انتخاب أعضاء مجلس النواب وفقا لنظام الصوت الواحد غيرالمتحول”، وبالتالي وعلى غرار انتخابات الهيئة التأسيسية فقد مُنعت الأحزاب من المشاركة المباشرة في انتخابات مجلس النواب، واضطرت إلى المشاركة غير المباشرة عبر النزول بمرشحين فرديين ينتمون إلى تلك الأحزاب، وتمويل دعايتهم الانتخابية ودعمهم أودعم مستقلين توافقهم في توجهاتهم الإيديولوجية، وقد بدا هذا الدورعلنيا وملحوظا، ولعل أبرز شواهده هو الدعاية الإعلامية واللقاءات الإذاعية التي تكفلت بها القنوات الإذاعية التابعة لتلك الأحزاب للمرشحين الأفراد المنتمين إليهم.
وعليه، وبالرغم من أن التجربة الانتخابية لمجلس النواب كانت بمثابة الرجوع للخلف وصدمة قاسية للعمل الحزبي، إلا أنها لم تمنع الأحزاب من المشاركة السياسية والمحافظة على شيء من دورها في العمل السياسي، فدفعت بمرشحيها في قوائم الأفراد، وعقدت تحالفات مع آخرين لدعمهم ووجهت جمهورها للتصويت لهم. وأسفر الأمر عن وصول الأحزاب لعضوية هذه الم ؤسسة فتشكلت كتلة حزبية داخل مجلس النواب تابعة لحزب تحالف القوى الوطني وصل عددها الى 30 عضوا تقريبا، كما تشكّلت كتلة مقاطعة لمجلس النواب يقودها أعضاء من حزب العدالة والبناء.
ت ـ تقييم المشاركة غير المباشرة للأحزاب
– عدم قانونية منع الأحزاب من المشاركة المباشرة، إذ إن منع الأحزاب من الملشاركة في انتخابات الهيئات السياسية يتعارض مع المبادئ الدستورية المتعلقة بالمشاركة السياسية والحزبية وضمان عمل الأحزاب الواردة في المواد (4 ،14، 15) من الإعلان الدستوري .
ـ إن هذه التجربة كانت بمثابة الرجوع للخلف، وصدمة للعمل الحزبي، وقد أدت الى إضعافه وشل نشاطه حيث لم تستطع الأحزابُ السياسية الصغيرة تمويل الحملات الالنتخابية الكبيرة المشاركة في هذه الانتخابات. واعتبر الأمر بمثابة تجميد لنشاطها وإنهاء للتعددية الحزبية. كما أن الأحزاب الكبيرة بدورها تضررت، بالنظر إلى أن دعم المستقلين سيضعف من سيطرتها عليهم عند فوزهم، ويؤثر على نجاعة العمل الحزبي برمته.
…
يتبع في الجزء الثاني
____________