د. محمد بالروين

لقد أصبح مصطلح ” المجتمع المدني” اليوم من أكثر المصطلحات الساخنة والشائعة في حديث الكثير من السياسيين والاكاديميين والناشطين سياسيا وخصوصا في المجتمعات التي تعاني من انعدام الحرية وتحكمها أنظمة دكتاتورية وشمولية.وهنا يحق للمرء أن يسأل:

أولا: ماهو المجتمع المدني؟؟

في محاولة لتقديم تعريفا شاملا لهذا المصطلح قامت المكتبة البريطانية بتلخيص ما اعتبرته أهم التعريفات التي قدمها الباحثون والمتخصصون في هذا المجال.وكان تلخيصها كالأتي:

“أتفق الجميع على أن المجتمع المدني هو: المشاركة التطوعية للمواطنين العادين وهي لا تشمل أى عمل تفرضه الدولة..”ماذا يعني هذا؟ في تصوري هذا يعني أن المجتمع المدني يشمل كل المنظمات والمؤسسات الأهلية تطوعية التي يؤسسها المواطنين والتي يمكن أن تأخذ أشكال وأحجام متعددة.وهي تتكون من كل النشطاء العاملين في الدولة والذين يعبرون عن نظراتهم وآرائهم في بناء المجتمع وكيف يجب أن يكون …وهو أيضا يشمل كل المنظمات, والمؤسسات, والاتحادات, والنقابات, وكل قوى الشعب العاملة الموجودة  في المجتمع ما عدا الحكومة.”

ثانيا:  من أين أتي هذا المصطلح؟

من أين أتي؟  وكيف أصبح شائعا لدرجة أن البعض يعتبره شرط أساسي من شروط الحكم الناجح فيما يلي نبذه تاريخية مختصرة عن هذا المصطلح ودوره في الدولة.  في الحقيقة يمكننا القول بأن مفهوم “المجتمع المدني” بالصورة والكيفية التي نعرفها اليوم هو مصطلح سياسي جديد في الفكر المعاصر وخصوصا الفكر الراسمالي الليبرالي.  وبالتالي فهذا المصطلح لم يعتبره الكثير من المفكرين السياسين

 شرط من شروط الحكم الناجح والعادل . فعلى سبيل المثال لا الحصر  نجد أن الاغريق والرومان وهما البداية الطبيعية لكل مفكرى الغرب لم يعترفوا بهذا المصطلح ولم ينظروا إلى الدولة الا على أنها تتكون من حكام ومحكومين وعبيد.

وحتي عندما أصبح مصطلح “المدينة” مصطلحا متعارف عليه في علم السياسة لم يكن لمصطلح “المجتمع المدني” دورا سياسيا يذكر. فمثلا عندما ادخل الفيلسوف الاماني (هيغل) مصطلح المجتمع المدني واعتبره أحد معالم “المدينة”  لم يكن يقصد بذلك بعده السياسي وانما بعده الاقتصادي والتجاري. لقد ربط (هيغل) ظاهرة ظهور”المجتمع المدني”  بتطورالسوق.  ففي كتابه ” فلسفة الحق” يعرف المجتمع المدني كمجموعة من الممارسات الاجتماعية التي صنعها الاقتصاد الراسمالي والتي تعكس تصرفات السوق … فهو بالتالي أداة لانجاح القطاع الخاص في الدولة ليس الا ؟ أما في الفكراليساري فقد كان الماركسيون على سبيل المثال يعتقدون بأن المجتمع المدني  وخصوصا الثقافة المدنية  هما أدواتان للهدم والعرقلة من أجل تحقيق المجتمع الاشتراكي  العادل! يقول ماركس في تعليق له على الحرية السياسية في مقال له بعنوان “في السوأل اليهودي:” بأن ما يعرف بحقوق الانسان ما هي الا حقوق الفرد في المجتمع المدني الانسان الاناني الانسان المعزول من مجتمعه ومن الناس الآخرين …”  ولم يتغير هذا الرأي عند اليساريين الا حديثا.

فلقد أقتنع اليسار وخصوصا في امريكا اللاتينية أخيرا بان دور الجتمع المدني ضرورة من ضرورات تحقيق النظام الأشتراكي المنشود ,النظام الذي سيحقق لهم لعب دور ريادي ومؤثر في المجتمع .  بدأ اليساريون في أمريكا الاتنية في اوآخر السبيعنيات وبداية الثمانينات باعادة النظر في أستراتيجيتهم خصوصا بعد الانقلاب الليميني الذي أطاح بالحكومة اليسارية بقيادة “السلفادور اللندي”  في تشيلي عام (1973) هذا الحدث الي جانب شعور اليساريين بالخوف من الانظمة العسكرية والارهاب الحكومي شجعهم على التفكير في ايجاد وسائل أخرى للعمل السياسي من خارج أطر الحكومة، ومن هنا أنبتقت فكرة “المجتمع المدني”  ودوره في اتاحت الفرصة لهم للعب أدوار في المجال السياسي وتمكينهم من الاتصال بالناس .. يقول عالم الاجتماع الاستاذ فرانسيسكو ويقورت  بأن الاكتشاف

من جانب اليسار وخصوصا في أمريكا الاتينية أن هناك مجالات أخرى غير المجالات الحكومية للمشاركة في النشاطات السياسية ان هذا الادراك بدأ ميأخرا في الثقافة السياسية اليسارية وكان ذلك نتاج للظروف الصعبة التي مّر بها اليسار في أمريكا اللاتينية.  وبالتالي فيمكن القول بأن مصطلح “المجتمع المدني” في الفكر اليساري كان نتاج لمرحلة الارهاب الحكومي وغياب التعديدة السياسية وأنعدام استقلالية القضاء ولم يجد أمامه الا الكنيسة الكاثوليكية اليبرالية التي حمتهم وآوتهم من الارهاب الحكومي … ثم يستطرد الاستاذ ويقورت في وصف دور الكنيسة في امريكا الاتينية فيقول”.. لقد كانت هذه الكنيسة في طليعة مؤسسات المجتمع المدني حيث دافعت وحمت الكثير من المواطنين من الارهاب الحكومي في امريكا الجنوبية.

ثالثا:  لماذا المجتمع المدني أصبح ضرورة؟

بغض النظر عن الكيفية التي وصلنا فيها الي هذا الوضع الذي أصبح فيها “المجتمع المدني” ضرورة من ضرورات الحكم الناجح خصوصا عند الكثيرين من أبناء شعبي.  فالسؤال هنا هو ما هي أسباب ذلك وهل هذا يعني أننا نسير في الاتجاه الصحيح؟ وفي نظري ان ظاهرة المجتمع المدني أصبحت ضرورية في عصرنا هذا لأسباب عديدة لعل من أهمها:

  • أن “حق التجمع” هو حق مشروع وأساسي من أجل النهوض بأي مجتمع. بالتالي فأن حق أي شعب من الشعوب في اختيار الوسائل التي تمكنه من التعبير عن نفسه هو حق مشروع لكل مواطن في المجتمع.
  • أن حق أي فرد من أفراد المجتمع في الاشتراك في أي مؤسسة غير حكومية – سواء أن كانت هذه المؤسسة هي قبيلة ,أوعشيرة, أونقابة مهنية, أوأي مؤسسة أخري طالما أنها من أجل خدمة الدولة  وفي ظل الدستور هو حق طبيعي ومصان لكل مواطن.
  • المجتمع المدني هو الاداة التي ستجبر (أو تفرض على) الحكومة أن تكون فاعلة ومؤثرة… وستقوم بمحاسبة الحكومة على ما تقوم به… والمجتمع المدني يشجع التفاعلات المدنية والمشاعرالسياسية ما بين أعضاء المجتمع حول الشئون الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمشاركة فيها.
  • المجتمع المدني يساعد على تحقيق الاستقرار والتعامل مع القضايا غير العادلة في المجتمع وسوف يساعد على تقوية قضية الولاء في الدولة… والمجتمع المدني سيساعد المواطنين في لعب دورا  هاما في أتخاد القرارات التي تعينهم,  وتتيح لهم الفرص للمشاركة في اعطاء الحلول لامجرد التعامل مع  المشاكل التي تواجه الدولة.
  • وباختصار شديد- يمكن القول بأن المجتمع المدني لا يمكن تحقيقه الآ اذا أتيح للمواطن فرصة المشاركة في شئون الدولة وحق الاختيار في اتخاد القرارات.  وعند ذلك يكون المجتمع المدني ضمانة من الضمانات التي تحمي كل المواطنين-وخصوص االاقليات منه- ضّد قيام الحكومة الديكتاتورية ومنعها من التفرد بالسلطة.
  • لعل من الاسباب التي شجعت على تبني هذه الفكرة – فكرة المجتمع المدني – هوالفشل الذريع  لمفهوم فكرة ” الدولة القومية”  وخصوصا في العالم الثالث. هذه الفكرة التي سادت وأنتشرت بسرعة فائقة وبدون دراسة لامكنية تطبيقها في بعض
  • المناطق التي لا تسود فيها قومية واحدة. وهذا قاد الي أن القومية التي سيطرة حاولت تسخير أدوات الدولة في السيطرة على القوميات الآخرى واضطهادها.
  • وأخيرا فانه من المتعارف- عند كل من لديه خبرة بالعملية السياسية أن دور الانتخابات- حتي  ولو كانت عادلة وحرة-  محدود في تحقيق المشاركة الكاملة لكل أنباء الشعب.  فبرغم من أن الانتخابات الحرة ضرورة الا  أنها غير كافية في كثير من الاحيان. الانتخابات تقرر في العادة من الذي سيحكم ولكنها لا يمكن ان تكون اداة الاتصال الوحيدة بين الحاكم والمحكومين.  وهنا يأتي دور الجماعات والمؤسسات الآخرى من أجل الدفاع والتعبير عن مصالحها بكل الطرق والوسائل المشروعة والمتاحة… من هذا المنظور يمكن أعتبار المجتمع المدني-  بكل مؤسساته ومنظماته  أداة أضافية لتمكين شرائح الشعب من التعبير عن ارآئهم والمشاركة في القرارات المتعلقة  بمصالحهم..

رابعا:  ماهي علاقة المجتمع المدني بالحكومة؟

اذا سلمنا-  كما قلت أعلاه- بأن المجتمع المدني هو المجتمع الذي تتاح فيه الفرص لكل أبناء الشعب في المشاركة الحرة في كل المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ودون مراقبة الحكومة وتدخلها في شئون هذه المؤسسات.

اذا سلمنا بهذا فيمكن لعنا ان يتسأل عن طبيعة وكيفية هذه العلاقة بين المجتمع المدني والحكومة؟  بمعنى: هل هي علاقة هيمنهة أم هي علاقة فصل؟  واذا كانت هي علاقة فصل:  فهل هي علاقة فصل كامل بينهما- بمعنى ان الحكومة شيء والمجتمع المدني شيء آخر-  وهل لابد من فصل أو(أستقلالية) المجتمع المدني عن الحكومة؟  وهنا لابد من البدأ بالاشارة الي أن علماء السياسة قد أنقسموا-  في الاجـابة على هذه الاسئلة الي ثلاث فرق- فريق ينادي بنظرية هيمنه أو سيطرة الحكومة على المجتمع المدني وخصوصا فيما يتعلق بالشئؤون السياسية.  وهذا الفريق يؤمن بنظرية الّدمج بين الحكومة والمجتمع المدني في تحالف وأحد أطلق عليه البعض – مثل الناصريون في الوطن العربي –” بتحالف قوى الشعب العامة.”  وهذا ما آمن به كل الاشتراكيون عندما كانوا في سدّة الحكم في الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية,  وما أمن به الاشتراكيون العرب عندما كانوا في قيادة المعترك السياسي في الستينات والسبعينيات وعند بعضهم حتي الان كما هو حادث اليوم في ليبيا.

أما الفريق الثاني فهو الذي يؤمن بأن الفصل بين الحكومة والمجتمع المدني لابد ان يكون كـاملا – بمعنى الحكومة شيء والمجتمع المدني  شيء آخر.  فالمجتمع المدني في نظر هؤلاء هو المجال الذي لا تتدخل فيه الحكومة ولا تسيطر عليه و لمؤسسات المجتمع المدني ان تفعل ما تشاء متي شاءت … وهناك فريـق ثـالث  – وأنا منه-  ينظر الي هذه العلاقة على أنها علاقة تقوم على التكامل والتعاون والتنسيق بين الطرفين. وهذه العلاقة تقوم على مجموعة من الحقائق المعطيات لعل من أهمها الآتي:

  • فالحقيقة يمكن القول بأنه من الصعب على الحكومة- التي تقوم على حق الاختيار والساعية من أجل تحقيق العدل- أن تنشئ وتطور المجتمع المدني, وذك لان الحكومة بطبيعتها- هي أداة قهر وإجبار. أو بمعني آخر أن علاقة الحكومة في المجتمع علاقة مبنية على درجة من  المتسلط… وبناء على هذه المعطية فان الفصل غير الكامل أمر ضروري ومهم بين الحكومة والمجتمع المدني.
  • الحقيقة الثانية التي لابد من التأكيد عليها- اذا أردنا ان نطبق مفهوم المجتمع المدني بنجاح هي الإدراك بأنه من الممكن للحكومة أن تقوم وتستمر بدون وجود مجتمع مدني فيها, ولكن ليس من الممكن للمجتمع  المدني أن ينجح ويزدهر بدون وجود حكومة تحميه وتناصره…. وذلك لن المجتمع المدني يستطيع تقديم العديد من الخدمات والحاجات العامة ولكنه لا يستطيع الحكم.
  • اذا أردنا لمجتمعنا المدني النجاح فلابد أن ينظر له على شكل مكمل  وليس نقيض أو مضاد للحكومة. فالحقيقة أن الحكومة والمجتمع المدني هما  شيئان مكملان  لبعضها البعض –  فيمكننا ان نقول بأن  المجتمع المدني هو الأداة التي تهتم بقضية المشاركة في  شئون المجتمع  والحكم وادارة شئون الدولة.
  • الحقيقة الرابعة- وهي مكملة للحقيقة الثالثة- هي ان الحكومة والمجتمع المدني أصبحتا في حاجة ماسة- أكثر من اي وقت مضى- الي بعضهم البعض, فلا الحكومة تسيطيع النهوض والتقدم  بدون مجتمع مدني  يقدم لها البدائل  والموارد والقدرات. وفي نفس الوقت لا  يستطيع تحقيق أهدافه بدون وجود حكومة  قوية  تحكم بالعدل وتسعى من أجل تحقيق الامن والامان  لكل أفراد المجتمع.

خامسا:  ماهي علاقة المجتمع المدني  بالسوق؟ 

باختصار شديد, اقصد بالسوق- هنا- القطاع الخاص – وخصوصا-  دور الشركات الكبرى الغرف التجارية في المشاركة في شئون الدولة عموما,  والشئون السياسية خصوصا.  والسؤال الأساسي هو ما هي علاقة السوق (اذا وجدت أصلا ) بالمجتمع المدني في الدولة؟  وبمعنى آخر يمكن ان نسأل:

أ‌) هل السوق منفصل عن الحكومة؟ ولا يمكن للحكومة التدخل فيه؟

ب‌) ان تتدخل فيمكن إعتبار السوق جزء من المجتمع المدني؟

ت‌) هل يمكن أعتبار السوق جزء من المجتمع المدنى؟  فعلى سبيل المثال: هل يمكن أعتبار الشركات الكبرى والغرف التجارية من مكونات المجتمع المدني- وكلنا يعلم بأنها منظمات غير ديمقراطية!

ث‌)  هل يحق لقوى السوق أن تلعب دورا  سياسيا؟

ج‌)  ان كانت الإجابة بنعم على السؤال (د)!!! فكيف سيتم ذلك والي أي مدى؟

هذه مجرد مجموعة من الأسئلة التي نرى ضرورة الاجابة عليها اذا أردنا أن  نؤسس دولة نموذجية, تسيطر فيها الحكومة,  ويزهر فيها المجتمع المدني,  وتسود فيها التجارة العادلة والحرة. بعد نهاية ما عرف”بالحرب الباردة” والتي أستمرت أكثر من أربعين عاما- وكان  نتيجتها انهيار الاتحاد السوفيتي- وكل الانظمة الاشتراكية في شرق أوروبا- وأعلان الغرب والدولة الراسمالية انتصارهم. منذ ذلك الحين أصبح الفكر الليبرالي  الراسمالي هو سيد الميدان رغم انه في الحقيقة لم ينتصر في تلك الحرب وكل الذي حدث-باختصار شديد – هو انهيارالمنظومة الاشتراكية  والهيكلية اليسارية  قبل انهيار  الراسمالية  ومنظمتها الليبرالية وهي أمر طبيعي –  لان هذه المعركة  كانت بين خصمين في سباق لانهاية له !!! فمن الحتمي ان ينهارأحدهما أو الاثنان معا.

ونتيجة لهذه النهاية تبنت قيادات الراسمالية والتيارالليبرالي- وفي مقدمتهم  الشركات متعددة الجنسيات-  فكرة “المجتمع المدني”  ليس حبا في هذا المصطلح وانما كسلاح لاتساع حرية رأس المال وحرية التجارة خصوصا في الدولة التي لا تزال تحكمها أنظمة دكتاتورية.  وهنا لابد من الاشارة الي حقيقتان هامتان:

الحقيقة الاولى هي ان الكثيرون لا يختلفون مع السلوك الرأسمالي في مواجهة الانظمة الدكتاتورية والقضاء عليها والسعي من أجل تمكين المجتمع المدني من لعب دوره الضروري والطبيعي في الدولة.  اما الحقيقة الثانية فلابد أن نعي بأن وقوف التيار الرأسمالي الليبرالي ضّد الانظمة الدكتاتورية ليس حبا في الحرية  والديمقراطية للشعوب الآحرى, وانما تحقيقا لمصالحهم الذاتية.

أما عن علاقة السوق بالمجتمع المدني-  واذا تركنا مفهوم التيار الرأسمالي الليبيرالي جانبا- فيمكن القول بان هناك مجموعة من الأمور التي لابد  من الأشارة اليها وأخذها في الأعتيبارعند الحديث عن العلاقة بين السوق والمجتمع المدني. ولعل من أهم هذه الامور الأتي:

أن دور السوق في الدولة هو دور متميز عن كل من الحكومة والمجتمع المدني. فدور السوق هو خلق وسائل  الانتاج والتبادل وزيادة رأس المال وترشيده  بما يخـدم العاملين فيه في أطـار دستـور البلد وقوانينها…  وهو قطاع يقوم على “عامل الربح” أصلا ولا شيء  غير ذلك .  بمعنى اذا غاب الربح انتهاء دور القطاع الخاص  وأصبح شيئا آخر.

في تصوري لابد ان يقوم المجتمع المدني لتحقيق الخدمات لكل ما لا ترغب أو( لا تريد) الحكومة أو السوق القيام به, ومن هذا فلابد ألاّ  يقوم هذا المجتمع على أساس الربح ولا يجب ان يسعى له.. فكل مؤسسات  ومنظمات المجتمع المدني يجب ان تكون خيرية و تطوعية,  شعبية, وايجابية من اجل بناء وتطوير المجتمع.

أما عن العلاقة بين السوق والمجتمع المدني فهي ليست علاقة أنفصال مطلق بمعنى لا يوجد تعامل ولا تداخل مع بعضهم البعض, ومن جهة آخرى ليست علاقة اندماج كلي كما يعتقد البعض  بأن الحديث عن السوق هو أيضا الحديث على المجتمع المدني,  وثقافة السوق هي ثقافة المجتمع المدني .. ان النظرة الصحيحة والسليمة- في تصوري- هي التي تنظر الي السوق والمجتمع المدني نظرة تعاون ومشاركة وهذا يعني ان يتعاون السوق مع المجتمع المدني في حل التحد يات المشتركة . فعلى سبيل المثال تعاون اداء الشركات الكبرى مع اتحادات العمال سيخدم الجميع وسيقود الي تقدم البلد وأستقرارها.  والمثال الثاني – الذي يمكن أن يوضح العلاقة بين السوق والمجتمع المدني هو مؤسسة(أوالمؤسسات) الاعلام المدني.  فبرغم من أن الاعلام يمكن اعتيباره من مكونات المجتمع المدني الاّ أن بعض مؤسسات الاعلام قد  تسعى لتحقيق الربح وبالتالي فهي جزء من السوق.

سادسا: ما هو الفرق بين المجتمع المدني وجماعات المصالح؟

يمكن تعريف جماعات المصالح ( أو الضغط) بأنها: ” كل جماعة منظمة من المواطنين الذين  تجمعهم مصلحة واحدة  يسعون جاهدين للضغط على الحكومة من أجل تحقيق هذه المصلحة أو حماتيها ….”  وبناءعلى هذا التعريف يمكن القول بأن جماعات المصالح هي جزء لا يتجزء  من المجتمع المدني …. ولكن لابد أن نعي بأن مفهوم  المجتمع المدني أشمل وأعم من جماعات المصالح.  فالمجتمع المدني يشمل كل قوى الشعب العاملة التي خارج أطر الحكومة ونفوذها.  فهو يشمل كل المؤسسات والمنظمات  والجماعات –  سواء ان  كانت  من أجل الضغط على الحكومةأولا  وسواء ان كان تأسيس هذه الجماعات على المصالح أو لأغراض أخرى.

سابعا: حدود وضوابط المجتمع المدني:                             

قد يسئل سأئل فيقول: اذا كانت  فكرة المجتمع  المدني تقوم على أساس  تنظيم الشعب في مؤسسات  ومنظمات مستقلة عن الحكومة,  فما هي حدود  وضوابط المجتمع المدني؟ وهنا يمكن أختصار الاجابة كالاتي:

 الضابط  الاول هو الدستور والقوانين, فهم الذين يحددوا ألاطر القانونية,  والمالية,  والهيكلية   للمجتمع المدني. فما يمنحه الدستور من حقوق وحريات للمواطنين وما يمليه من واجبات يعتبر  السقف الذي لا يمكن تجاوزه .. فالدستور هو المرجعية النهائية في الدولة… وهو الاداة التي تساعد على وجود مواطنين مسئولين يشعرون أنهم يكونون جماعة واحدة وتجمعهم مباديء  واهداف مشتركة.

أما الضابط الثاني فهو الالتزام الذاتي من كل الجماعات والافراد بمفهوم المجتمع المدني وإحترام مبادئ العمل الجماعي وممارسة التسامح والإحترام للجميع.

يجب على كل منظمات ومؤسسات المجتمع المدني ألاّ تستخدم العنف ولا أي وسيلة غير دستورية كوسيلة من وسائل التغيير.

لا يجب أن يكون لأي مؤسسة أو منظمة من منظمات المجتمع المدني أي ارتباط   (غير دستوري)  مع أي قوى أو جهة أجنبية أو خارجية.

ثامنا:  ماهي أم مكونات المجتمع المدني؟     

ينقسم  المحللون السياسيون –  في هذا الشأن- الي فريقين: فالفريق الاول: يعتبرأن المجتمع المدني هو كل المؤسسات غير الحكومية التي ترغب في بناء المجتمع وتطوره ..أما الفريق الثاني  فيشمل تعريفهم كل أشكال المشاركات التطوعية سواء كانت عامة أو خاصة , سياسية أو غير سياسية , اجتماعية ,أو ثقافية .  وهذا التعريف –  في تصوري-  هو أقرب للواقع خصوصا في مجتمعات نامية كمجتمعنا الليبي الذي هو في حاجة الي كل عمل جماعي بناء .

ولعل من أهم المؤسسات الاجتماعية في مجتمعنا الليبي والتي ستقوم بدور هام في ترشيد وتطوير المجتمع  المدني الآتية:

أ‌) النقابات المهنية كنقابات العمال,والطلاب,والأطباء,والمحامين,والمرأة الخ..)

ب‌)  النوادي الرياضية والاجتماعية.

ت‌)  القبائل: والقبيلة في ليبيا لها تعريفان .. في الشرق تعرف القبيلة- في العادة- على أساس القرابة والنسب كأن يقال ( قبيلة البراعصة) أ و (قبيلة العبيدات ) أما في أغلب المنطقة الغربية من ليبيا  فتعريف القبيلة يغلب عليه البعد الجغرافي, كأن يقال ” قبيلة قصر حمد” في مدينة مصراته.فهذه القبيلة هي نسبة الي المنطقة وليس للنسب اوالقرابة… وللقبيلة- مهم كان تعريفها- دورا  إجتماعي وسياسي مهم ومن الممكن أن تلعب دورا رائدا اذا ثم توظيفها التوظيف المناسب وثم  الاعتراف بها في داخل الاطار السياسي للدولة

ث‌)  أما المؤسسة الرابعة والتي سوف تلعب دورا هاما في بناء المجتمع المدني فهي “الجامع” وهنا أذكر مصطلح الجامع بدلا عن “المسجد”  وذلك لان الجامع هو المفهوم الاشمل والأعم ودوره اكثر من مجرد تادية الصلوات فيه فحسب بل فيه يلتقي الناس للصلاة  ولادارة شئونهم العامة والخاص. وفيه تتم الكثير من النشاطات الاجتماعية والسياسية وحتي الاقتصادية…. فلقد كان لدورالجوامع في ليبيا دورا رياديا يفتخر به كل ليبي منصف وعاقل. فمن الجوامع انطلق الجهاد وتخرجت القيادات,ومن الجوامع أعلن أول نظام جمهوري في الشرق الاوسط, “لجمهورية الطرابلسية” في بداية القرن العشرين وكانت أول جمهورية تعلن في تلك المنطقة. وهذا دليل علي وعي وسعة إطلاع النخبة الليبية والتي قادت الجهاد وأعلنت قدرتها على إدارة البلاد في ذلك الحين….هذا وقد قامت الجوامع بدور أجتماعي وثقافي رائد في تاريخ ليبيا المعاصر.

ج‌) أما المؤسسة الخامسة والاخيرة والتي يمكن أعتبارها من مؤسسات المجتمع المدني فهي مؤسسة   “الاعلام” وبالرغم من ان البعض قد يعتبرها من مؤسسات (أوشركات)لسوق- وذلك لان اغلبية  الاعلام في الدول الليبرالية-  يكون من شركات خاصة تسعى-بالدرجة الاولى- الي الربح الاّ ان الاعلام من المؤسسات والركائز الهامة التي لابد ان تلعب دورا ايجابيا في تطوير وبناء الدولة وفي نفس الوقت يجب ان يتم ذلك في أستقلالية كاملة عن الحكومة وعليه لابد من النظرالي الاعلام على أنه مؤسسة هامة من مؤسسات المجتمع  المدني  الذي يحقق للحكومة المشاركة  فيه ولكن لا يمكن أن يسمح لها بالسيطرة عليه.ومن جهة أخرى يمكن أعتبار الاعلام جزء من السوق ولكن لا يجب أن يكون الهدف الوحيد لأعلام هو”الربح.”إن الدورالاساسي للاعلام في أي دولة هو التثقيف,والتوعية,والترفية, وفوق كل ذلك التنوير ….

ثامنا: مخاطر المجتمع المدني

هل هناك سلبيات  لتطبيق هذه الظاهرة السياسية.يرى بعض علماء السياسة أن فكرة المجتمع المدني تحتوي على مجموعة من المخاطرالمبنية على العلاقات الغير متساوية بين جماعات المجتمع المختلفة . فعلى سبيل المثال قد تتوفر لبعض الجماعات- كالمحامين والاطباء- امكانية الوصول والسيطرة على مصالحها في  السلطة بينما لا تستطيع الجماعات الأخرى القيام بذلك …وبالتالي فوجود الأزدواجية بين

الحكومة والمجتمع المدني  قد يشكل خطرا يهدد  مصالح الشعب كلها .ولعل من الامور الهامة والتي لابد من التأكيد عليها-قبل تأسيس هذه الازدواجية وفتح الباب على مصراعيه- هو الاتي:

كما ذكرنا سابقا يجب التأكيد على الضوابط التي لابد لكل مؤسسات ومنظمات وشخصيات المجتمع المدني الالتزام بها. بمعني ما هي الخطوط الحمراء- ان جاز التعبير- الفاصلة بين الحكومة  والمجتمع المدني … يجب تحديد المؤسسات أو المنظمات التي لا يمكن السماح بها ولا يجب إعتبارها من مكونات المجتمع المدني.

اذا أردنا أن نفصل بين الحكومة والمجتمع المدني فلابد من تحديد نوع وطبيعة هذا الفصل .  فمثلا هل يمكن أعتبار الفصل بين الحكومة والمجتمع المدني كالفصل بين السلطات الحكومية الثلاث-بمعنى الفصل بين السلطة التشريعية,  والسلطة التنفدية, والسلطة القضائية.واذا كان كذلك فكيف يمكن للمجتمع المدني مراقبة ومحاسبة الحكومة العكس صحيح ..

لابد ان يدرك المواطنين بأن المجتمع المدني ليس بديلا عن الحكومة ولا يجب أن تسيطر الحكومة على لمجتمع المدني.وذلك لأنه من المعروف أن المجتمع الذي يفقد حكومته بصبح أقرب إلى حالة الفوضى منه الي حالة المدنية,وفي نفس الوقت ستصبح الحكومة دكتاتورية اذا  غاب المجتمع المدني عنها.

وأخيرا لابد ان نعي بأن من أكبر- وأخطر- عيوب تأسيس المجتمع المدني هو انتهاك “مبدأ  المساواة السياسية” بمعني ستكون طبقات وشرائح المجتمع غير متساوية وغير متوازية.وهذا الانتهاك لمبدأ المساواة بين أفراد المجتمع قد يكون نتيجة لعدة أسباب  مثل عدم تساوي المصادر المالية أو الموارد الطبيعية للمؤسسات أو الافراد.وعدم المساواة هذا في العادة يقود الي اقصاء بعض شرائح المجتمع عن العملية السياسية.

تاسعا: الخاتمة

لعل من المناسب أن أختم هذا المقال بالتأكيد على النقاط الاتية:

أولا:من الحقائق الهامة اليوم – ولعلها من أهم سلبيات هذا العصر- أن اغلبية الانظمة  الحاكمة اليوم- وخصوصا الدكتاتورية والعسكرية منها- قد أحكمت سيطرتها على كل من الحكومة والسوق والمجتمع المدني. وهذه السيطرة الظالمة دفعت بالقوى المعارضة لهذه الانظمة على الاصرارعلى فصل المجتمع المدني عن الحكومة

ثانيا: اما الحقيقة الثانية- وقد يختلف معي البعض في هذا الاستنتاج- هي أنه برغم من  شيوع استخدام هذا المصطلح – في السنوات الأخيرة- بين كل المثقفين والناشطين سياسيا ( سواء ان كانوا إسلاميين أو ماركسيين او ليبراليين  أو قوميين أو …. الخ) الا ان كل الجماعات لم تتفق على معني واحد لهذا المصطلح بعد كل الذي ثم الاتفاق عليه هو ضرورة وجود وفاعلية ” مجتمع مدني”في الدولة الحديثة.

ثالثا:أما النقطة التالثة والتي أريد التأكيد عليها-ونحن في مرحلة المطالبة بتأسيس مجتمع  مدني – هي اعادة النظر في العلاقة بين الحكومة والسوق والمجتمع المدني والتي أصبحت ضرورة في هذه المرحلة من تاريخنا  المعاصر. ان التعاون والتكامل بين هذه الابعاد الثلاث الحكومة,والسوق,والمجتمع المدني-قد أصبح شرط ضروري من أجل تقدم أي دولة وأزدهارها.

رابعا:ان تأسيس المجتمع المدني في ليبيا وعلى أسس صحيحة ودستورية ودون تجاهل لكل المؤسسات العريقة كالزوايا,والقبائل,والجوامع سيمكن بلادنا من التقدم والنمو وسيساعد الحكومة على القيام بواجباتها على الوجه المطلوب …..

وختاما فان المجتمع المدني الذي يجب ان نسعى إلي تحقيقه هو المجتمع الذي يضمن حق الاختيار لكل المواطنين في مناخ حر وعلى ان يكون الهدف الاساسي لهذا المجتمع هو تحقيق العدل للجميع …ففي المجتمع المدني المنشود يحق لكل مواطن ان يشترك في أي تنظيم  أو تأسيس أي منظمة بحرية وبدون تدخل الحكومة ولا مراقبتها طالما أن هذا العمل في حدود القانون ولا يخالف الدستور.

____________________

المصدر: كتيب “المجتمع المدني” الصادر عن منتدى ليبيا للتنمية البشرية والسياسية (2005)

مقالات مشابهة