سالم الكبتي

(الوحدة التامة للبلاد هي الهدف النهائي للجميع) … الملك إدريس السنوسي

***

.. وفي عهد الرئيس الجديد للحكومة (محمد عثمان الصيد) أنجز تنفيذ الطريق الأزمة وصار سالكا إلى فزان. افتتحه ولي العهد في سبتمبر 1962بعد أربع سنوات من الشروع في إنجازه.

وكان السيد الصيد من الذين أسهموا في بدايات تكوين الدولة الليبية بعضويته مندوبا عن إقليم فزان ضمن الأعضاء الآخرين في لجنة الواحد والعشرين والجمعية الوطنية التأسيسية (الستين) التي وضعت الدستور ودارت خلالها نقاشات في جلساتها الطويلة حول شكل الحكم المنتظر لليبيا.. فيدرالي أم باتجاه الوحدة.

وكان السيد الصيد كما سبق القول من الدعاة إلى أن يكون النظام فيدراليا. وبعد عشر سنوات من مضي تلك الخطوات شاءت الصدف أن يكون في موقع رئاسة الحكومة الخامسة في المدة الواقعة بين 1960 إلى بدايات 1963 ويكلف بإجراءات التعديلات الدستورية التي ستلغي العمل بالنظام الفيدرالي.

خلال تلك البدايات المؤسسة لتشييد الدولة كان الملك إدريس استلم بيعة الجمعية الوطنية بكامل أعضائها، ومن بينهم السيد الصيد، واعتباره ملكا لليبيا في لقاء تاريخي تم في اليوم السابع عشر من ديسمبر 1950 بقصر المنار في بنغازي، وتولى تقديم البيعة له رئيس الجمعية الشيخ محمد أبو الأسعاد العالم.

في هذا اللقاء أكد الملك إدريس للأعضاء جميعا الذين مايزالون يناقشون وضع الدستور ومناقشة شكل الدولة ونظامها بأن: (الوحدة التامة للبلاد هي الهدف النهائي للجميع). ولعله بهذا كان يشير إلى أن على البلاد أن تتقدم بالتدريج وفقا للظروف والواقع نحو تلك الوحدة بعد أن تخوض فترة النظام الفيدرالي (الولايات).

كان الدستور الذي أقرته الجمعية الوطنية التأسيسية في اجتماعها في بنغازي بمقر مجلس نواب برقة يوم السابع من إكتوبر 1951، كما سلف في حلقات ماضيات، قد أجاز في المستقبل إجراء أية تعديلات تقتضيها الأحوال على شكل الدولة ونظامها الفيدرالي وفقا لنصوص مواده (197_198_199). هذه المواد المتقاربة أوضحت بأنه لايتم تعديل الأحكام الخاصة بشكل الحكم الاتحادي إلا بعد موافقة المجالس التشريعية في الولايات الثلاث ثم مجلسي الشيوخ والنواب قبل عرض ذلك كله على الملك للتصديق عليه بصورة نهائية.

وفي هذا الاتجاه للسير نحو الوحدة الإدارية الشاملة، الذي تزامن مع فترة حكومة السيد محمد عثمان الصيد، ثمة دلائل وإشارات قوية تؤكد من قبل المطلعين وذوي الصلة على أن الملك إدريس هو الذي اتخذ المبادرة لإنجازها على الأرض وفاء لوعده القديم أمام الجمعية الوطنية بتحقيق هذه الوحدة. وعلى ذلك طلب من رئيس الحكومة في شهر ديسمبر 1962 أن يقوم بعرض مشروع تعديل الدستور على مجلس الأمة شيوخا ونوابا وكان ذلك يقتضي إلغاء رئاسة المجلس التنفيذي في كل ولاية ويحل محله مجلس إداري يدير الشؤون داخل الولاية فيما يظل الوالي مسؤولا عن السلطات فيها أمام المجلس التشريعي.

في اليوم السابع من ديسمبر 1962 ورد طرح التعديل في خطاب العرش الذي ألقاه السيد الصيد أمام ولي العهد في مبنى البرلمان بالبيضاء أثناء افتتاح الدورة البرلمانية العادية. والواقع الذي ترتب على هذا الطرح أن البرلمان بمجلسيه أقر هذه التعديلات كخطوة أولى على طريق إنجاز الوحدة الكاملة في البلاد. كان الملك أيضا يتواجد في البيضاء وأصدر بقصر الروضة في مسه القريبة من المدينة مرسوما بتاريخ اليوم نفسه من ثلاث مواد أكد فيها إقرار مجلس الشيوخ ومجلس النواب للقانون الذي صدق عليه بدوره وفقا لذلك الإقرار.

ووفقا لهذا المرسوم بقانون تم تعديل المواد (36 . 172. 173. 182. 184.) من الدستور ونصت المواد الجديدة على التعديلات التي طرأت كما نص المرسوم في مادته الثانية على إلغاء المواد (38. 180. 181. 185.) من الدستور.

ثم فسر رئيس الحكومة القانون الذي صدر بمذكرة إيضاحية أشار فيها إلى الظروف التي استوجبت تلك التعديلات بناء على المعايشة بين الاتحاد والولايات ووجود الإشكالات والصعوبات من الناحية العملية المتصلة بتنازع الاختصاصات وأكد على: (أن التعديل المستحدث ليس بدعا فهو في شطر منه.. في حقيقته وجوهره تعديل شكلي فحسب يسترد به الاتحاد اختصاصه الأصلي وفي شطره الآخر فإنه من المباديء المسلم بها أن الدساتير في كافة الدول وضعت لتنظيم شؤون الجماعة وهي متطورة بطبيعتها.. الأمر الذي يقتضي تعديلا في الدساتير كلما دعت الحاجة إليه ليساير تطور الجماعة) ثم أشار إلى نقطة مهمة أوضحها بالقول الصريح: (ولا أدل على ذلك من أن واضعي الدستور الليبي بالذات توقعوا احتمال تعديله بما يناسب ظروف الدولة وأحوالها وهو أمر طبيعي فأوضحوا طريقة تعديل الدستور ورسم معالمه في المواد 196 ومابعدها.

في العاشر من ديسمبر 1962 أصدر الملك من مدينة البيضاء التي ظلت تشهد مداولة أمور الدولة كعاصمة ثالثة دون نص في الدستور مرسوما بالقانون رقم 32 يقضي بأن يستعاض في كافة التشريعات التي صدرت قبل التعديلات القريبة عن عبارات ناظر ونظارة والمجلس التنفيذي والولاية.. بعبارات وزير ووزارة ومجلس الوزراء والحكومة الاتحادية.

كانت هذه هي أولى الخطوات في التجربة البرلمانية الدستورية الجديدة في ليبيا التي شهدها شتاء مدينة البيضاء وشرع خلالها منذ عام (1961) في بناء المقر الجديد للبرلمان فوق أحد تلالها الذي سيفتتحه الملك إدريس لاحقا في إكتوبر 1964. ومع تلك الخطوات ستتسارع المزيد منها وتكتمل بتولي د. محي الدين فكيني رئيسا للحكومة في مارس 1963.

كان مندوبا لليبيا في الأمم المتحدة وخلف السيد محمد عثمان الصيد وسار في نفس الدرب الذي وصل إلى إلغاء النظام الفيدرالي في ليبيا بصدور المرسوم بقانون بتعديل بعض أحكام الدستور بعد إقرار مجلسي الشيوخ والنواب وموافقة المجالس التشريعية عليه. وقضى في مادته الأولى بإلغاء النظام الاتحادي بالمملكة الليبية ويستعاض عنه بنظام الدولة الموحدة على الوجه المبين بالدستور وهذا القانون. كان ذلك في طرابلس التي تواجد فيها الملك يوم الخميس الموافق للخامس والعشرين من إبريل 1963.

وفي اليوم التالي الجمعة السادس والعشرين من الشهر وجه الملك خطابا بإعلان الوحدة الشاملة أذيع بصوت المذيع الشهير ناصر عبدالسميع وصارت الوحدة حقيقة واقعة وأضحت البلاد تتكون من عشر محافظات بدلا من ثلاث ولايات.

وأيا ما كان الأمر ولحقه من التباسات وتأييد أو اعتراضات وأشيع عنه بأنه كان بتأثير أو ضغط من شركات البترول الأجنبية التي تود التعامل مع جهة إدارية واحدة في الدولة أو نتيجة طبيعية للحد من تناقض المصالح بعد تفجر البترول وتصديره للخارج.. فإن الأمر بات أمام الجميع ظاهرا وصارت ليبيا في وحدة إدارية وانتهى تنازع الاختصاص بين السلطات منذ إعلان الاستقلال ولوحظ في هذا التعديل إعطاء حق الانتخاب للمرأة الليبية لأول مرة في تاريخ تطورها المعاصر.

وعلى طريق التجربة البرلمانية الليبية كان قد صدر مرسوم ملكي بفض الدورة البرلمانية الرابعة اعتبارا من السابع عشر من إكتوبر 1963 وألحق بمرسوم آخر صدر في السابع من نوفمبر من العام نفسه بعد سنة كاملة من الشروع في التعديلات الدستورية يدعو الهيئة البرلمانية للانعقاد في البيضاء في دورة اعتبرت تكميلية وتم ذلك يوم السابع من ديسمبر 1963.

كان من المفترض أن تجرى في هذا السياق انتخابات جديدة ولكنها في الواقع تأجلت إلى عام آخر. كانت الدولة تستعد لإجراء ثاني تعداد عام للسكان. الأول كان عام 1954. والثاني شرعت فيه الدولة خلال صيف 1964 وهو الذي قرب من موعد الانتخابات القادمة وبموجبه لوحظ تزايد في عدد السكان في عموم ليبيا وتم تعديل قانون الانتخاب رقم 6 الذي صدر بمرسوم في السابع والعشرين من أغسطس 1964 في فترة رئاسة السيد محمود المنتصر للحكومة.

واشتمل على سبعة وستين مادة وبمقتضاه ألغي قانون الانتخاب رقم 5 وتعديلاته الصادر عام 1951 الذي أقرته الجمعية الوطنية التأسيسية بعد عرضه عليها من الحكومة المؤقتة برئاسة السيد المنتصر أيضا وقتها. ثم صدر القانون رقم 7 بمرسوم ملكي في الثلاثين من أغسطس 1964 بثلاث مواد قضت بتقسيم البلاد إلى مناطق انتخابية وتقسيم تلك المناطق إلى دوائر انتخابية التي صارت 103 دائرة في أنحاء المملكة وفقا لجدولين أول وثان ملحقين بالقانون المذكور وأَلغيا بذلك القانون الصادر سابقا بمرسوم ملكي عام 1959 بتحديد المناطق والدوائر الانتخابية السابقة.

وبناء على هذه القوانين ولوائحها شرعت الدولة في تنظيم أول انتخابات للبرلمان الجديد بعد الوحدة. كان ذلك في سبتمبر . إكتوبر 1964. التي لحقها الكثير من الالتباسات والمشاكل والأخطاء التي وصلت حد التزوير في كثير من الدوائر الانتخابية والمواجهة مع السلطة ومنع مجموعة من المرشحين من المشاركة في تلك الانتخابات وشراء وبيع الأصوات مع الناخبين. ذلك لم يرتق مع استمرار التجربة للأسف إلى الوعي بالدستور ومضمون الديمقراطية ونضج تلك التجربة الوطنية المنتظرة على الدوام. وأصاب التجربة في مقتل تماهى في حقيقته مع خيبة أمل كبيرة ظلت في صدور الكثيرين.

الانتخابات مصيدة

(الانتخابات مصيدة المغفلين) سارتر، في مقال له بمجلة الأزمنة الحديثة خلال ثورة الطلاب في باريس ـ  مايو 1968.

إطلالة العام 1964  في ليبيا بدأت مع الشتاء القادم لتشهد سلسلة متصلة من الأحداث. مظاهرات يناير. صدام الطلبة مع البوليس في بنغازي ومثله في الزاوية والجميل. ضحايا وجرحى وتعطل الدراسة فترة قاربت الشهرين. استقالة حكومة د. محي الدين فكيني. حكومة جديدة برئاسة السيد محمود المنتصر. ثم مفاوضات الجلاء بعد خطاب عبد الناصر يوم السبت 22 فبراير. تأثر بما يسود المنطقة.

الملك يلوح باستقالته. ناور بها وتراجع. لم يعجبه تسرع الحكومة في التداعي مع ما قاله عبد الناصر حول القواعد في المنطقة في ذلك الخطاب. رماد تحت الجمر أو جمر تحت الرماد. الصحف تصدر. تغلق ثنتان منها.. البلاغ والشعب. تعود الدراسة والقلق والفراغ والبرلمان في دورته الثالثة يناقش القضايا. الملك يشارك في مؤتمر القمة الثاني بالأسكندرية .

.. ثم الانتخابات معلنة انتهاء دورة البرلمان العادية لاختيار أخرى. والمشاكل التي فتحت أبوابها دون سابق إنذار أو تمهيد مع تلك الانتخابات. ودهاليز السياسة في كل الأحوال لاتعرف الأخلاق. هناك أولويات على الدوام تظل في مجريات الأمر والسياسة رغم كل ما يقال.

ذلك كله يحدث في العالم أيضا، وليبيا لم تكن استثناء. وفي الانتخابات تحدث الألاعيب وتطل التأثيرات القبلية والتحالفات والمصالح في أغلب الوجوه أكثر من الدافع الوطني الذي يظل يتأخر كثيرا وسط الحلبة والجري أو الصراع خلالها .

كالعادة يغادر الصيف بنسائمه ويقدم الخريف ومعه تشرع السلطات في الإعداد للانتخابات القادمة التي حدد لها يوم العاشر من شهر إكتوبر موعدا لإجرائها في كل الدوائر الانتخابية التي بلغ عددها (103) عبر مناطق البلاد طولا وعرضا.

وساد الحماس الجميع وتقدم الكثيرون للترشح وأعلنوا عن ذلك بمختلف الوسائل. كان من بين الاستعدادت لهذه الانتخابات حث النساء على المشاركة. وطلب منهن الحضور للتسجيل في مراكز الانتخاب (سافرات) حتى يتمكن مأمور التسجيل في كل مركز من التعرف على شخصياتهن. كانت تلك المرة الأولى التي يشاركن فيها في عملية الاقتراع .

الرأي العام ظل بدوره يتابع ما يدور بعد أن انتهى من متابعة الإعلان عن نتائج التعداد العام الثاني الذي أجري في البلاد ذلك الصيف وبناء عليه تم الإعداد للانتخابات. والصحف، خاصة المستقلة، تابعت في اللحظة نفسها تلك المسألة خطوة خطوة.

فعلى سبيل المثال، قامت صحيفة الحقيقة الصادرة في بنغازي في عددها الأسبوعي الصادر يوم السبت الموافق للسادس والعشرين من سبتمبر 1964 باستفتاء قامت بنشره على كامل صفحتين من العدد وقابلت من خلاله مختلف الناس من مرشحين وناخبين حول المستقبل المنتظر للانتخابات وبرامج كل مرشح ونواياه.

سألت المرشحين عن الأسباب التي دعتهم للترشيح وعن منهاج عملهم القادم وعن فكرتهم للمرحلة الآتية ورأيهم في درجة الوعي السياسي والانتخابي لدى المواطنين. وسألت الناخبين عن الشروط التي يودون توفرها في كل مرشح. وهل يفضلون في اختيارهم العلاقات الشخصية والقبلية أم مبدأ المرشح واستعداده لخدمة الوطن وهل يحسون بصدق المرشحين الذين سيختارونهم أم أنهم يشعرون بأن ما يعلنه كل مرشح هو مجرد دعاية انتخابية.

كانت أغلب إجابات المرشحين تتحدد في الحرص على خدمة الصالح العام وحماية ثروة الشعب من الضياع والعمل على تصفية القواعد الأجنبية وتحقيق حياة أفضل للشعب ومعالجة الفساد والقضاء عليه. والواقع أن أغلب هؤلاء المرشحين اتفقوا على أن المرحلة القادمة من أخطر المراحل التي تمر بالوطن وأن هناك ارتفاعا في درجة الوعي لدى الشعب.. في ما كانت ردود الناخبين تشترط في المرشح النزاهة والتصميم على العمل للمصلحة العامة والإخلاص وأن ماضي المرشح وسيرته النظيفة هي التي تجعل من الناخب يتحمس لاختياره.

وأشار بعضهم إلى أنه لو كان لدينا أحزاب سياسية لما حدث تردد لديه في اختيار المرشح المناسب الذي يعتقد أنه سيقدم خدمات جليلة للبلاد. ولاحظ البعض أيضا أن ما يقال من المرشحين هو مجرد دعاية انتخابية ووعود لا أكثر ولا أقل، ولقد سبق أن خدع في انتخابات مضت وفي هذه المرة سوف لن يعطي صوته إلا للشخص الذي يثق فيه.. وكلام كثير من هذا القبيل، ثم اتجاه الاستفتاء على صوت المرأة ورأيها فقد أشارت بعضهن إلى أن إجراءات التسجيل لاتعني إلا التعجيز للمرأة وعرقلتها في القيام بواجبها بالطريقة التي أعلن عنها وأكدن، من جهة أخرى، على أنه ينبغي أن لا ينتخب المرشح لماله أو لجاهه أو لنسبه أو لقرابته، وإنما لصلاحيته على ضوء ما قدمه من خدمات صادقة وماعرف عنه من نزاهة واستقامة وأن الناخب الواعي لايقيم أي اعتبار للعلاقات الشخصية أو القبلية.. ولكن، حسب تساؤلهن، أين الوعي الانتخابي الصحيح في مجتمعنا؟

حين اقترب الموعد المحدد ليوم الانتخاب غادر رئيس الحكومة البلاد إلى الخارج بغرض العلاج وأناب عنه أكبر أعضاء الوزارة سنا وأقدمهم السيد إبراهيم بن شعبان. تدخلت السياسة وضروراتها. أبعد ما يسمى بالاستحقاق الدستوري وحق المواطن وكان للحكومة بالطبع رأي آخر نفذته وأصاب الجميع بالصدمة.

وفي التاسع من إكتوبر أصدر المراقب العام للانتخابات السيد أبوبكر الزليطني إعلانا بأسماء المرشحين ورموزهم (ألوان صناديق الترشيح) ومواقع نقاط الاقتراع. وكان في الواقع قد سبق ذلك – تحديدا في السادس والعشرين من سبتمبر – اعتقال مجموعات من المرشحين وإجبار البعض منهم على الانسحاب.

الحكومة قادمة على مرحلة قد تكون صعبة وتريد الفوز لأغلب مرشحيها. لاتبغي التشويش أو المزيد من المعارضة داخل البرلمان بصريح العبارة. ولوحظ أن من بين المشاركين في الاستفتاء الذي قامت به الحقيقة قد أبعدوا ومنعوا من المشاركة!! وترددت على امتداد الرأي العام الكثير من الأقوال.. بشأن الانتخابات وبيعت الأصوات.

ففي إحدى المناطق شرق البلاد بلغ سعر الصوت خمسة وعشرين جنيها، وفي بنغازي وحدها قيل بأن أحد المرشحين يشتري الصوت باثني عشر جنيها. وفي غرب البلاد حدثت أشياء كثيرة من هذا الذي جرى. وتردد أيضا بأن الحكومة ساعدت مرشحيها ماليا.

ضاع بذلك الضمير والديمقراطية البرلمانية وفقد المضمون الوطني والاجتماعي للبرلمان بهذا الشكل الذي وصلت إليه انتخابات عام 1964.. وتبين للجميع حدوث عمليات تزوير واضحة ومؤسفة في سيرها ما كانت لتقع، وكان ينبغي أن تعالج أسبابها بالطريقة الدستورية الحقة التي تغطي أركان البلاد وفقا لدستورها الصادر عام 1951 ثم بتعديلاته التي تمت عام 1963.

إضافة إلى ما شهدته كثير من مراكز الاقتراع من مواجهات وصراعات ومعارك غذتها المصالح القبلية وتأثيراتها والتعصب لها دون مبرر واقتيد العديد من هؤلاء للتحقيق في مراكز الشرطة وتم سجنهم بضعة أيام وعولج عدد منهم في المستشفيات نتيجة لما لحقهم من جروح وإصابات .

عاد الرئيس من العلاج وعلم بما حدث في مسألة الانتخابات والتزوير المشين الذي صاحبها وغير نائبه واستبعده من الوزارة ثم افتتح الملك البرلمان بالنتائج التي أعلنت .

لم يقف المرشحون المبعدون أو الذين أضيروا من عمليات التزوير على الرصيف. بل وحدوا موقفهم الوطني ضد ما حدث اختراقا للدستور والحرية وتوجهت مجموعة منهم من طرابلس وبنغازي حاملين عريضة طويلة إلى الملك محاولين مقابلته في طبرق.

كان ذلك في أواخر إكتوبر 1964، غير أنهم منعوا عند الوصول إلى مفترق شحات من مواصلة السير عبر حافلاتهم التي حوصرت من قبل قوات الأمن وظلوا أياما ينتظرون ولم ينسوا خلالها كرم أهل شحات وشبابها الذين لم يبخلوا عليهم بالعناية والقيام بما يلزم من مساعدة.

وصل إليهم رئيس الديوان الملكي د. علي الساحلي مبعوثا من الملك. قابلته مجموعة مثلت القادمين وهم.. مصطفى بن عامر وعلي مصطفى المصراتي ومحمود صبحي. أبلغهم بحالة الملك الصحية وتسلم منهم العريضة التي نددت بالتزوير وإفساد الانتخابات وطالبت الملك بالإصلاح والتدخل وحددت مطالبها في ثلاث نقاط :
الأولى. حل مجلس النواب لأنه لايمثل الشعب فقد تم بالتزوير .
الثانية. إعادة الانتخابات في جو من الحرية .
الثالثة. محاكمة رجال البوليس الذين قاموا بالاعتداءات على المرشحين والناخبين .

وقرر بعضهم، بعد العودة من ذلك اللقاء، خوض المعركة الانتخابية القادمة إذا حصلت على المدى القريب أو البعيد. وبالفعل استجاب الملك لتلك المطالب ووصلت إلى سمعه العديد من المعلومات عن مجريات الانتخابات، فأصدر بعد ثلاثة أشهر مرسوما بحل البرلمان في اليوم الثاني عشر من فبراير 1965.

أعيدت الانتخابات من جديد في الثامن من مايو 1965 في (91 دائرة) بدلا من (103) في كافة المدن والمناطق والقرى وتردد أيضا بأن بعضها شهد عمليات تزوير وتفريغ لصناديق مجموعة من المرشحين لصالح أخرين !

كانت تلك آخر الانتخابات التي شهدتها ليبيا في فترة العهد الملكي. وقام الملك أيضا لآخر مرة بافتتاح هذه الدورة يوم الثاني والعشرين من مايو 1965 وتزامن ذلك مع وقائع وأحداث حرائق تفجر أبار البترول المشهورة. تلك الدورة ظلت في التاريخ الليبي المعاصر آخر دورة نيابية يفترض أنها تنتهي عام 1969. وهناك شد الكثير من المسؤولين على قلوبهم تهيبا من المسؤولية المنتظرة. الملك غادر البلاد. لم يعلن أي شيء عن المرحلة النيابية التالية وانتخاباتها. وتداعى الفراغ بلا انقطاع.

انتهت التجربة البرلمانية على مدى دورات فترة الاستقلال بضمها في مجملها على عدد بلغ حوالي (120) عضوا في مجلس الشيوخ ومايقارب.. (300)عضوا في مجلس النواب. تغير بعضهم بالوفاة أو الاستبدال. وشهدت تعاقب العديد من الرؤساء للمجلسين.. 1. عمر باشا الكيخيا 2. علي باشا العابدية 3. محمود بوهدمة 4. عبدالحميد العبار.. للشيوخ. وللنواب. 1. عبد المجيد كعبار 2. سالم لطفي القاضي 3. مفتاح عريقيب. والعديد من الموظفين والعاملين الليبيين الذين أداروا مرافق وشعب المجلسين طيلة هذه الفترة وتدوين المحاضر وإصدارها.

في التاسع والعشرين من مارس 1967 أصدر الملك قانونا بتعديل المادة 94 من الدستور وقضت بأن يؤلف مجلس الشيوخ من اثنين وأربعين عضوا يعينهم الملك وهؤلاء الأعضاء يعينون لهذا التعديل تنتهي عضوية نصفهم بطريقة القرعة في 24 مارس 1972. وتنتهي عضوية النصف الآخر في 24 مارس 1976. وذلك لم يحدث، فقد سبق التغيير في سبتمبر 1969، ذلك التعديل في المادة الدستورية.

تبدلت الأمور.

في ظهيرة اليوم الأول من ذلك الشهر أذيع من طرابلس بيان طويل تضمن في بنده الأول الإعلان عن سقوط المؤسسات الدستورية التابعة للعهد (البائد) من مجالس وزارية وتشريعية وتعتبر هذه المجالس مجردة من سلطانها وأن أية محاولة معادية من الساسة القدامى ستقابل برد عنيف لن يكون في حسبانهم وأن الأمر الآن يعود إلى سلطة مجلس قيادة الثورة وهو يمثل السلطة الوحيدة في هذا القطر. ثم جرت في الأنابيب مياه عديدة وتسربت منها غدران تحت الشمس وفي الظلام على مدار عقود قادمات .

من طرائف المرحلة النيابية أرسل أحد السجناء بسجن باب بن غشير المركزي يحمل الرقم 433 عريضة إلى الملك بتاريخ الثالث عشر من مارس 1962، شرح له فيها أسباب وضعه في السجن نتيجة لمشاكل حدثت في انتخابات البرلمان عام 1962 في غريان. وقع له صدام مع رجال البوليس ونشأ عن ذلك إصدار عقوبة في حقه بالسجن.

وشكى من سوء المعاملة له داخل السجن ومنها منع زوجته التي اصطحبت طفليهما لزيارته لسبب هو اسميهما.. فالأول عمره تسعة وثلاثين شهرا وأسمه أندريه جروميكو والثاني اسمه جمال نهرو وعمره مائة وعشرة شهرا !!

مرحلة مضت بتعقيداتها ومشاهدها وتجربتها التي كان ينتظر لها المزيد من النضج.. لكنها غادرت مصحوبة ببعض الطرائف إلى أطياف الماضي والتاريخ البعيد !!

النهاية

_________________

بوابة الوسط

مقالات مشابهة