إبراهيم رمضان الديب
الدولة الحديثة هي دولة المواطنة التي يعيش فيها الجميع بتساو في الحقوق والواجبات، وهي دولة المؤسسات والفصل بين السلطات، وهي الدولة الديمقراطية التي يتم تداول السلطة فيها بسلمية مطلقة بقوة وملكية الإرادة الحرة للجماهير عبر الصناديق الانتخابية.
وهي الدولة التي تمثل جزءا فاعلا من محيطها الإقليمي والدولي، وتقيم علاقات مع جميع دول العالم على أساس المصالح المشتركة لشعوبها، وتشارك بفاعلية في حفظ الأمن والسلم والاستقرار العالمي كما هي جزء من العالم يسعد وينعم بما يسعد به العالم، وتتألم لما يتألم له العالم، وشريك فاعل في اهتماماته وأولوياته وحاجاته.
هذه هي الدولة المدنية الحديثة التي تعد خلاصة الفكر البشري الاجتماعي والإداري والسياسي الحديث، والتي يحلم بها الجميع كموطن قومي خاص ضمن مكون إقليمي وعالمي عام في تجانس وتناغم عام يحقق الصالح الإنساني المشترك.
ومن أهم وأخطر المراحل التي يمر بها بناء الدولة الحديثة هي مراحل التحول الأولى من النظم غير الديمقراطية إلى نظام ديمقراطي حديث يتم فيها رسم وبناء وتمكين البنية الأساسية لهذه الدولة الناشئة.
وحين تتعرض الدولة الوليدة الجديدة إلى عملية المخاض الكبرى تواجهها العديد من التحديات الجسام التي تعترض طريقها بشكل طبيعي وتلقائي بحكم طبيعة المخاض والتحول، يأتي في مقدمتها تحدي التفكك العرقي والمذهبي والذي يفكك ويقسم الدولة إلى طوائف دينية وسياسية تجعل من المجتمع مجموعة من الجزر المنعزلة متعددة “البواصل” الثقافية والدينية والاجتماعية والسياسية والتي تتقاطع في أهدافها وتطلعاتها وطموحاتها السياسية.
|
كما أن نشوء الدولة وبداية عهدها يرفع من سقف طموحات كل فئة في نيل أكبر قدر من الكعكة الثقافية والاجتماعية والسياسية، هذا إن لم يكن حلم السيطرة على الدولة من بدايتها هو الشاغل الأساسي لها كما أن حقوق الأداء والتضحية الثورية كانت حاضرة بقوة للمطالبة بمكاسب سياسية واضحة.
في مقابل ما تم تقديمه أثناء الحراك التحولي، مما يجعل حدة الصراع الداخلي عالية وساخنة جدا، خاصة عندما يكون الاستقطاب الداخلي والخارجي تحت تأثير التمويل الخارجي، ما يلهب حالة الصراع وربما يصل به إلى الاقتتال الداخلي والذي يبدأ ناعما وينتهي صلبا ليدمر مقدرات المجتمع فتضيع فرصة ولادة وبناء الدولة الجديدة الحديثة.
وبطبيعة الحال تعد هذه المرحلة هي الحلقة الأضعف في سلسلة ومحطات بناء الدولة الحديثة مما يتطلب وضوحا وجلاء كبيرا لاستحقاقات هذه المرحلة والتي يؤكدها علم تخطيط وبناء القيم والهوية، بحتمية إنجاز مشروع لبناء الهوية الوطنية الواحدة والجامعة لكافة مكونات المجتمع كأساس وخطوة أولى في بناء الدولة الحديثة.
ويقصد بالهوية الوطنية الواحدة ذلك الوعاء الوطني الكبير الذي يعترف ويوثق ويستوعب كل طوائف ومكونات المجتمع، ويخلق منه وبه كيانا كبيرا وقويا يمثل الجميع ولا يقصي أو يلغي أحدا، بل يقويه وينميه داخل الإطار الوطني العام الذي يقوي كل مكوناته.
كما يصنع نقطة تلاق وارتكاز وانطلاق واحدة للمجتمع لينطلق منها لتحقيق أهدافه العليا.
الهوية الوطنية هي أيضا الدستور الضمني غير المكتوب وغير المعلن، ولكنه كائن ومتجسد في نفوس أبناء الوطن الواحد فليعتنقوه ويطبقوه ويحافظوا عليه كجزء من تكوينهم الوجداني والذهني والنفسي قبل أن يكون مكونا ثقافيا وقانونيا يرجع إليه.
وتؤكد حقائق التاريخ الإنساني الحديث حقيقة ضرورة البدء بتصميم وتمكين الهوية الوطنية الواحدة الجامعة للمجتمع الواحد كبنية تأسيسه لباقي مراحل وعمليات بناء الدولة الحديثة، ذلك ما أكدته تجارب الولايات المتحدة الأميركية حين بادرت وبكرت بصناعة الهوية القومية الأميركية التي استوعبت أضخم تعدد وتنوع بشري عرفته البشرية ومزجته في كيان واحد موحد ومنظم وموجه لتحقيق المصالح الأميركية العليا، كذلك الأمة اليابانية والبريطانية والفرنسية، فالماليزية وأخيرا التركية.
إن عبقرية الهوية الوطنية الواحدة الجامعة تتمثل أيضا في:
ــ قدرتها الكامنة على تحويل التعدد والتنوع الطبيعي للمجتمع إلى ثروة وطنية لتنمية ونهضة المجتمع، وتحويل التقاطع والصراع الطائفي إلى احتشاد منظم نحو بوصلة وطنية واحدة.
ــ نزع فتيل المفجر النفسي والذهني الخاص بالخوف لدى كل فصيل على حاضره ومستقبله خشية الإقصاء والحرمان من حقوقه الخاصة والعامة، والذي يدفع الإنسان والتجمع البشري بفطرته نحو التقوقع حول ذاته، ثم محاولات تحصينها وتقويتها تمهيدا للصراع مع الآخر، مما يحول المجتمع إلى جزر منعزلة متقاطعة المصالح جاهزة للصراع الناعم ثم الصلب المدمر لمقومات المجتمع، وتحويل هذه الطاقة والقوة النفسية السلبية المشحونة داخل النفوس القلقة الخائفة التي تعد نفسها وتحشد مواردها وطاقتها للصراع المحتوم المقبل في أي لحظة، تحوله إلى طاقة إيجابية من الحب والتعاون والتكامل لبناء وتنمية الوطن.
|
ــ كذلك ترشيد وتنظيم لرغبات نفوس الأكثرية والتي غالبا ما تدفعها إلى الطموح الجامح الخاص لنفسها ولو على حساب باقي مكونات المجتمع فتفتح الآفاق للفردية والأنا والاستبداد المهلك للعلاقات بين مكونات المجتمع ثم للصراع المهلك لموارد ومقدرات المجتمع، تحوله عبقرية الهوية الوطنية الواحدة للمجتمع إلى طموح مرشد وموجه بدقة لتحقيق الأهداف العليا للوطن، والذي سيدفعها إلى تسخير كل مقدراتها لتقديم أفضل ما لديها لتحقيق أهداف الوطن، والذي ستتحقق معه أهداف كل الفصائل بغض النظر عن حجمها.
تستند عملية بناء وتمكين الهوية الوطنية الواحدة الجامعة لمكونات المجتمع إلى منظومة متكاملة من المبادئ والمرتكزات يأتي في مقدمتها:
– الهوية الوطنية للمجتمع تتشكل من جزء صلب وهو اللغة والتراث التاريخي للمجتمع، وآخر مرن وهو القيم الحاكمة لهذا المجتمع بالإضافة إلى رؤيته وأهدافه المستقبلية.
– الاعتراف الكامل بكل المكونات الطائفية الموجودة في المجتمع وحقها الكامل من المواطنة الحقيقة متساوية الحقوق والواجبات مع الجميع.
– الاستناد إلى الوجود التاريخي كأحد المكونات التاريخية لهذا المجتمع، وليس الأكثرية العددية.
– الاستناد إلى منظومة القيم الإنسانية العالمية المتعارف عليها عالميا بالحرية والتسامح والإخاء الإنساني والعدل والمساواة والتراحم والتي تعزز احترام وحماية حقوق الإنسان والتعايش السلمي وصيانة وتعزيز الحريات الخاصة والعامة وإعلاء وتمكين وتطبيق القانون بما يضمن الأمن والاستقرار المجتمعي.
– القيم المشتركة لكافة مكونات المجتمع الواحد والتي تمثل نقطة الارتكاز الصلبة في بناء المجتمع الواحد، وذلك ما ذهب إليه مالك بن نبي حين تحدث عن فكرة التركيب النفسي للثقافة وتكوينها من تركيب جزئي وتركيب عام من مكونات متنوعة ومختلفة.
– منظومة القيم الفرعية التفصيلية لقيمة المواطنة (الاحترام, والعدل، والمساواة، والالتزام والانضباط، والمؤسسية) كقيمة عامة حاكمة لسلوك وأداء المجتمعات الحرة الحديثة.
– مجموعة قيم الرقابة الشعبية وفى مقدمتها الإيجابية، والتطوع، والمبادرة، والحكمة، والوعي, واليقظة، وتقديم الهم والمصلحة العامة على الخاصة، والتي تعزز تمكين الإرادة الشعبية، خاصة عندما يتم وضعها في أطر مؤسسية متنوعة لمؤسسات ومجالات عمل المجتمع المدني كمكمل وداعم لأدوار ومهام الحكومة، ومراقب لها، ومعزز لأدائها ولخدمة مصالح الجماهير.
وتتجلى مظاهر بناء وتمكين الهوية الوطنية في عدد من المؤشرات:
– ممارسة جميع أبناء المجتمع لكافة شعائرهم الدينية واحتفالاتهم الخاصة بحرية كاملة، مع الاعتراف الكامل للدولة بهذه الشعائر والاحتفالات، ومع إنشاء مؤسساتهم الدينية والثقافية بحرية كاملة ودون أية معوقات من الدولة، وقدرتهم الكاملة على تعليم أبنائهم قيمهم الدينية الخاصة بهم لمن يرغب في تعلمها، كما الحرية الكاملة في تقلد كافة الوظائف والمراكز القيادية المختلفة في كافة مجالات الحياة المدنية والعسكرية والقضائية بحرية تامة وفق قواعد الكفاءة المهنية المتعارف عليها دوليا، وكافة حقوق المشاركة في الحياة العامة والتعبير عن الرأي بحرية كاملة، وإنشاء مؤسسات المجتمع المدني بمجالاتها المختلفة.
|
بما يمنح مواطني الطوائف المختلفة كافة حقوقهم التي تقنعهم عمليا بأن قيمة ومكانة الوطن أعلى وأهم من الطائفة الخاصة وأن قيمة الطائفة الخاصة لن تتحقق إلا في سياق قيمة الوطن الواحد مما يزيل نهائيا من داخل نفوسهم فكرة الطائفية والحاجة إلى إنشاء دولة طائفية خاصة تمثلهم وتحفظ حقوقهم حاضرهم ومستقبلهم، وهنا تكمن عبقرية الهوية الوطنية الواحدة الجامعة في تحقيق القناعة الداخلية بضرورة تقديم الوطن على الطائفة عبر معادلة تناغم قوة الطائفة داخل قوة الوطن، فلا طائفة إلا بوطن قوي وموحد.
وعند الوصول إلى هذه الدرجة من الفهم والممارسة العملية لمفاهيم الهوية الوطنية ستتجلى عبقرية الهوية الوطنية في التأسيس الحقيقي لمجتمع الديمقراطية الحديثة الذي سيجد مجتمعا إيجابيا يشارك بقوة وفاعلية في الحياة العامة، ويقبل التداول السلمي للسلطة، ويقدس العمل الوطني، ويجعل من الطائفة مكونا مرنا لخدمة المصالح العليا للوطن.
كما أن عبقرية الهوية الوطنية تتجلى أيضا في غايتها العليا بضمان تحقيق المقاصد العليا للإسلام في حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال والإرادة الشعبية، وبناء جسور قوية بين الوطن الواحد القوي والمجسد في الدولة القومية الحديثة وبين المجتمع العالمي الساعي لإقرار مبادئ الحرية، والعدل، والمساواة، تحقيقا للسلام والاستقرار والأمن العالمي.
وإضافة إلى كل ذلك تبني الهوية الوطنية الواحدة للمجتمع جدارا صلبا ومنيعا لصد أية محاولات خارجية للنيل من وحدة وتماسك وقوة المجتمع عبر بوابة الأقليات.
***
إبراهيم رمضان الديب ـ خبير في التنمية البشرية
__________