من المفيد عند محاولتنا لتعريف مصطلح  اعادة بناء الدولة  ومفهومه ينبغى الاشاره الى الدلالات اللغويه له، فمصطلح اعادة بناء الدلة  يعنى ضمناً أن هناك خللاً ما أو قصور او تقصير فى الوضع المراد اعادة إصلاحه، وفى هذا السياق قد يشير الى إحدى معانى التطوير او التنميه او التعديل غير الجذرى.

فاءذا قلنا الاصلاح السياسى فاءننا نعترف بوجود خلل فى الوضع السياسى القائم، والحالة الليبية ليست استثناء،   الامر الذى يتوجب معه إحداث تعديل او تطوير غير جذرى فى شكل ممارسة السلطه او العلاقات القائمه, ولكن بدون المساس بأسس المنظومة المجتمعية القائمة, بمعنى أخر, إحداث التحسين فى أداء النظام السياسى القائم، حتي يصل الي الوضع الطبيعي للدولة الوطنية المفقودة في الحالة الليبية. . وليبيا بعد احداث 2011 تحتاج الي اعادة صياغة مقاهيمها للاصرح والتحول والبناء.

وإذا قلنا الاصلاح الاقتصادى فاءننا نعترف أيضاً بوجود خلل فى الوضع الاقتصادى القائم الذى يتوجب معه إحداث  تعديل او تطوير أيضاً غير جذرى فى شكل النظام الاقتصادى  وبدون المساس بهوية النظام الاقتصادى, فقط إحداث التحسين للنشاط وأداء النظام الاقتصادى ودون تغيير أسسه. بهذا التعليل الاستدلالى اللغوى يكون الاصلاح بعيد كل البعد عن التغيير بمعنى  إستدعاء البعد الثورى للتغيير بديلاً للاصلاح .

وهنا وجبت الاشاره الى أن مصطلح الثوره ليس مصطلحاً سياسياً بقدر ما هو مصطلح علمى .

فالرساله الثقافيه الموجهه عبر الاصلاح الاقتصادى تصب لصالح تلك التحولات الاقتصادية المطلوب إحداثها وهى لا تؤسس لممارسه ديموقراطيه فعليه, وإن تؤكد على ضرورة إحداث  الاصلاح الثقافى او تبنى التغيير, كما يرى البعض, فإن ذلك  لا يعنى بالضرورة خلق مناخ ثقافى يدفع نحو ممارسه إصلاحيه سياسيه حقيقيه بقدر ما يعنى تذويب الثوابت الثقافيه والقيميه والمؤسساتيه التى قد تعمل كمواقع وموانع ثقافيه إعتراضيه فى وجه عولمة الاقتصاد والسياسه والثقافه والتى عادة ما تتخذ الاخيره من الاصلاح اختياراً وشعاراً وطريقاً.

فالاقتصاد فى الحاله الليبيه هو إقتصاد ريعى، ممثلا في الدولة الابوية ،  وينبغى أن يكون  كذلك . لماذا؟ فاقتصادنا لا يزال يعتمد على إيرادات الطاقه وريعها والدوله لا تزال مستمره فى حالة عدم التمييز بين المال العام والخاص فى تخليها التدريجى عن مسؤلياتها التنمويه تجاه العديد من القطاعات متذرعة بأهميه دور القطاع الخاص  ومنظمات المجتمع المدنى فى ضرورة الشراكه فى التنميه وبرامجها كما تطالب النخب المثقفه المرتبطه بالاصلاح والقادره فى أحيان كثيره على التنظير لكل مثل هذه التحولات المتوقع حدوثها باعتبارها تحولات إيجابيه قد يعززها الواقع!!

فالاصلاح التدريجى في ظل اعادة بناء الدولة والجذرى نقيضان لا يلتقيان وكذلك الاصلاح الجزئى نقيض للاصلاح  الكلى الشمولى .

وهنا يجب علينا توفير  مظهر او جانب من جوانب الاصلاح حتى تتضح صور التحليل لدينا.  مفهوم الاصلاح السياسى فى ليبيا في ظل ازمة بناء الدولة  مثلاً أخذ يتطور فى الأونه الاخيره بكثرة الحديث عنه، والبحث فيه من زوايا مختلفه دونما العنايه بأركانه المفاهيميه . فأدخل هذا المصطلح  على مستوى الممارسه السياسيه والجدل الثقافى فى ليبيا فجاءةً , ومحاولة الاخذ به على  مستوى التنظير وأصبح  من الاتساع بحيث شمل كل أشكال التحول المختلفه لكل القطاعات الامر الذى قد  يؤثر على كل أنماط التحول على مستوى الاهداف او النظام البنيوى او التحولات المجتمعيه فى ليبيا، هذا الاختلال في الحالة الليبية يحتاج الي إعادة نظر.

ليس معروفاً الى هذه اللحظه ما إذا كان  لعادة بناء الدولة  قد يشمل كل القطاعات البنيويه للمجتمع فى ليبيا وبالتالى يقود الى التغيير غير الجذرى ؟ او بلوغه حدود ما وراء الاصلاح ونطاقه ؟ عموماً مصطلح بناء الدولة ا إذا أخذ به فاءن مداه ونطاقه قد يضيق او يتسع وفق حاجة كل قطاع إن كان سياسياً و ثقافياً او اقتصادياً ووفق حالة كل قطاع  والغرض من إعادة بنائه.

فالحيّل الاكاديميه لا ينبغى أن تنطلى على أحد بأن الاصلاح الاقتصادى  يؤدى الى الاصلاح السياسى , لأن الخيار الاقتصادى هو ملك للخيار السياسى  وإرادته. فمن هذا التعريف يتضح مدى الربط بين مفهوم  اعادة بناء الدولة والتحول والانتقال نحو الديموقراطيه من خلال الاصلاح الاقتصادى , وكأن الاصلاح الاقتصادى بهذا المعنى يمثل المدخل نحو إحداث الديموقراطيه وخلق المناخ الملائم لممارستها  !!!

نتصور أن الربط بين اعادة بناء الدولة  والتحول السياسى نحو الديموقراطيه إنما يضيف لمفهوم الاصلاح  جملة من التعقيدات والتشويش المفاهيمى . بمعنى أن المسافه الديموقراطيه تحتاج الى المسافه الزمنيه والمسافه الزمنيه مرتبطه بمسافة ثقافية التنميه والنمو. فالتحولات الديموقراطيه تعنى بالاساس, وبدون الدوران حول الثقب, التحول من أنظمة التسلط الى أنظمة الديموقراطيه وهذه العمليات معقدة وتطال كل الاساس البنيوى والمؤسساتى والاهداف وممارسة الحقوق والواجبات وتوزيع السلطه فى أى  مجتمع من المجتمعات.

وينبغى الانتباه الى أن ربط مفهوم اعادة بناء الدولة بالتحول الديموقراطى  يتضمن مراحل كثيره وإشتراطات ليس لكل المجتمعات  القدره على توفيرها . فهذه المراحل تبدأ عادة بزوال القائم من الانظمه السياسيه  وقيام نظام ديموقراطى مستحدث فى الوقت الذى فيه عدم إتفاق بين بحاث الديموقراطيه وتجاربها على نوع وعدد والزمن  المقدر لهذه المراحل.

صموئيل هنتنجون مرجعية الليبراليجيّين العرب  هو فى حد  ذاته لم يرسو على بر فى هذه المسأله. يقدم لنا عدة مراحل : مرحلة التحول, ومرحلة التحول الاحلالى ، ومرحلة الاحلال , ومرحلة التدخل الاجنبى.

فالمرحله التى تحدث عنها عندما تحصل  يصفها هنتنجون هى “عملية التحول نحو الديموقراطيه”. بتقديرنا ان هذه الاطروحات لا تنطبق على الغرب ولكن صياغتها موجهه الى” ديموقراطيات” العالم الثالث , وهناك أراء أخرى ترى بأن تلك المرحله هى نحو التحول الليبرالى او نحو الدمقرطه او مرحلة ترسيخ الديموقراطيه !!!

إذاً هذه هى دعوات الاصلاح من خلال اعادة بناء الدولة والتى وجب الانتباه إليها والى خيوطها التى قد ترهق كاهل التحولات الموعوده  خصوصاً فى المجتمعات التقليديه القائمه على  روابط النسب والتصاهر بين النخب وتركيباتها الاجتماعيه المختلفه وليبيا ليست استثناءً.!

ولعلنا هنا فى ليبيا نحتاج الى منظور أخر لأحداث التحول والانتقال نحو مجتمع السلم الاهلي بشتى أنواعه، وحتى كما تريد النخب المثقفه, إنه البحث عن مشروع نهضوى وهو قد يعنى مرادفاً للاصلاح, إلا إنه يتجاوز مفهوم  حدود الاصلاح الكلاسيكى  والوافد فى أحيان كثيره.

فركائز النهوض كتعبير عن النهضه تستهدف تحقيق التقدم والتحديث والحداثه وإحراز التحرر والحريه , بأعتبار أن النهضه وركائزها تعبير واسع وشامل للحراك المجتمعى يسعى دوماً الى إكساب التحولات بُعد التكافؤ فى التعامل مع حضارة الأخر خصوصاً فى إنتاج المعارف والمهارات والقيم والعلوم  والتمدن والتحضر, فى المقابل يظل الاصلاح ممارسه إستثنائيه  إستنساخيه للأخر من خلال إقصاء بقية الفئات غير النخبويه . ويظل مقصدنا فى هذا الجدل هو كيفية البحث عن آليات تخليق التقدم لتحقيق فلسفة قيام الاصلاح من خلال  اعادة بناء الدولة .

لعلنا نشير أيضاً,  وهو أمر غنى عن القول, أن أى دعوة نهضويه عموماً لأبد لها أن تستند على عناصر الأراده  والفكر والعمل والتمكين  والتى تجلت فى المشروع  النهضوى الاوروبى , وفى ظل هذه التلازميه الرباعيه للنهضه وعدم وجود موانع تعترضها يمكن للحالة الليبيه أن تكون مختبراً لصنع التقدم والنهوض . وتأتى الاستثنائيه والخصوصيه كمتلازمتان لعربة اعادة بناء الدولة للاصلاح والنهوض والتقدم ، فالأستثنائيه مشروطيه للأصلاح  والنهضه والتقدم مرهون بالخصوصيه وتوفرها!!؟؟

فالمجتمعات الغربيه لم تمر بمراحل الأصلاح بفعل الاستثنائيه بقدر توفر الخصوصيه ولم تصنع لنفسها مراحل إصلاحيه بقدر محاولاتها المستمره نحو تخليق  التقدم وهى لم تعمل فى يوم من الايام على تخليق الاصلاح لديها. فمرحلة التحول الديمقراطى من خلال مرحلة اعادة  بناء الدولة   هى مرحله غير مؤكده  كما يؤكد هنتنجون بنفسه عند حديثه عن “حالات الارتداد والعوده الى النظم السلطويه وعودة الفوضى وعدم الاستقرار السياسى” .

ولكن فى مرحلة صنع التقدم  الامر ليس كذلك , خصوصاً فى الحاله الليبيه, حيث لا وجود للاقطاع السياسى او الاقتصادى ولاوجود للملكيه الاقطاعية وهو كما كان متعارف عليه فى أوروبا فى عصر صنع نهضتها مثلاً، فأختيار مسالك  ودروب التقدم  سوف تكون ميسره وشروط قيامه أفضل من إشتراطات  المدارس الكلاسيكية للبناء واعادة البناء من خلال الاصلاح. وهذا هو حال الاصلاح فى ليبيا وكيف تكون  علاقته بثقافية تخليق التقدم في الحالة الليبية لاعادة بناء الدولة الوطنية؟؟؟

***

د. ميلاد مفتاح الحراثي ـ استاذ السياسة الدولية في الجامعات الليبية

__________