استراتيجية بناء الدولة لا بد ان تبدأ وتتحرك في أكثر من مسار في آن واحد:
المسار الأول هو بناء الإنسان وهي من الضروريات والمستلزمات المهمة، وأن يكون البناء صحيحا أسسه قوية متماسكة، بهدف خلق قاعدة الدولة البشرية وقياداتها، ووفق مفاهيم استراتيجية تمكن الإنسان الليبي من مواجهة تحديات الحياة الحديثة على أسس علمية. والدولة الوطنية القوية هي التي تضمن ازدهار المجتمع ورقيه، واستراتيجية بناء الإنسان هي الرابط الجدلي بين المواطن والمجتمع والدولة.
وأول لبنة لهذا البناء هو وضع خطة استراتيجية للتعليم الأساسي بحيث تتضمن أسس قوية توفر المعرفة والعلوم إلى النشء، وتكون خطة شاملة لكل مناحي الحياة، وكل ما له علاقة بالمجتمع والدولة والعالم، وذلك ما يضمن بناء مجتمع متعلم متقدم يكون القاعدة القوية للدولة وعنوان تقدمها وتطورها، ويجعل من الفرد الليبي مواطنا واعيا متسلحا بالعلم والمعرفة وفاعلا في إدارة مفاصل الدولة في مختلف المجالات.
وحيث أن مشروع بناء الدولة يمثل الأساس لبناء الامة، مما يتطلب بإعادة صياغة هويتها الوطنية الجامعة، إذ تعتبر أساس وجود الدولة ومحركها ورمزها، فهي بمثابة الانتماء الوطني للدولة، التي تتجاوز الولاءات الفرعية، وتشير الهوية الوطنية الجامعة بشكل دقيق إلى مفهوم المواطنة في المجتمع، وأن ضعف الهوية الوطنية، يعني بروز الهويات أو الولاءات الفرعية.
إن فشل الدولة في الحفاظ على هويتها الوطنية، سيزيد من حالة التقلبات السياسية وعدم الاستقرار، كما ان الحفاظ على هوية الدولة، يقترن بعملية بناء الأمة الليبية.
من المسارات الضرورية لبناء الدولة المدنية، “المسار التأسيسي” الذي يجعل من الشــرعية الدســتورية وسيادة القانــون أســاس نظــام الحكــم فــي الدولــة، لكي نضمن ألا يتم تغييــر النظــام بــأي وسيـلة أخــرى مخالفة لأحكام الدستور، كما نشاهد الآن فيما يقوم به مجلس النواب في طبرق، الذي ينفذ انقلابا مدنيا بعد أن فشل في الانقلاب العسكري المسلح، فهو يصر على المحاصصة في اعتماد المؤسسات السيادية والتنفيذية، ويمارس التضليل والغش والمخاتلة والتزوير والتزييف والغدر والمكر والمراوغة والمناورة لتحقيق أهدافه في غياب الدستور وعجز القضاء الدستوري.
إن «شرعية» السلطة في الدول الوطنية المعاصرة متصلة بمؤسسات شرعية شعبية تعتمد على حكم الأغلبية من خلال التنافس على صناديق الاقتراع عبر انتخابات رئاسية وتشريعية وأيضا انتخابات على مستوى مؤسسات الحكم المحلي .
إن الدولة المدنية المنشوذة عليها أن تؤسس هيكلتها بالاعتماد على وحدة الشعب الليبي، وتوحيد مؤسساتها السيادية والمركزية، لأن في ظل التشتت السياسي وحالة اللاانتماء الموجودة لدى النخبة قبل العامة من الناس تعرقل أي إصلاح استراتيجي يهدف إلى بناء الدولة المدنية، وهذه الجهود تحتاج إلى سنوات من العمل الدؤوب بغية إبقاء الاستقرار الأمني والسياسي للحفاظ على بقاء الدولة على المدى الطويل.
المسار الآخر لبناء الدولة الليبية يشمل الجوانب الأمنية والسياسية والاقتصادية، ولعل أهمها بناء السلم المجتمعي، لأن بناء الدولة المدنية لا يتحقق في غياب الاستقرار الأمني، فبدونه لن يتحقق الاستقرار السياسي ولن يتمكن المواطن من المشاركة السياسية، أما اقتصاديا، فإن الاستقرار الأمني والسياسي يمثلان الضرورة القصوى لإقامة التنمية الاقتصادية وتحقيق الرفاهية للفرد والمجتمع.
الوطن (ليبيا) يعاني منذ عقود من حالة صراع واضح بين قوى تعيش على الفوضى والانفلات، وأخرى ترغب في بناء دولة حقيقة، هذا الصراع لا يمكن ان ينتهي بالأمنيات الطيبة والنوايا الحسنة، بل يحتاج إلى إلى جهود فكرية وثقافية لدراسة جذور هذا الصراع وفهم أبعاده وآثاره جيدا في سبيل الوصول الى حلول حقيقية، وهي بالتأكيد حلول ضرورية لن تتحقق بدون تضحيات من مختلف الأطراف المتصارعة.
أما المسار الإداري والسياسي الذي يتطلب إحداث اصلاح إداري وسياسي جذري يؤمن للدولة الانتصار في معركة التحول الديمقراطي، ويكون إصلاحا شاملا على مستوى الرؤى والبرامج والبرامج، فإشكاليات الدولة الليبية تكمن في ضعف مؤسسات الحكم والإدارة والتنظيم وقصورها على المستوى المحلي والجهوي والوطني.
ثم أن بناء الدولة بحاجة ماسة إلى بناء المجتمع أولاً، ورأب التصَّدع الحاصل بين السلطة والمجتمع من خلال التنمية البشرية والسياسية الصحيحة وتقوية المؤسسات القائمة وبناء مؤسسات جديدة فاعلة وقادرة على البقاء والاكتفاء الذاتي، فقوة الدولة تكمن في قوة قدراتها المؤسساتية والإدارية على تصميم السياسات وسن الأنظمة والقوانين ووضعها موضع التنفيذ؛ فمعايير قوة الدولة تقاس بمدى كفاءة وفعالية وقدرة مؤسسات الدولة على أداء وظائفها والأهداف المختلفة التي تضطلع بها.
لنسأل أنفسنا عن سر نجاح الدول المتقدمة، وكيف وصلت إلى مرحلة متقدمة جداً من الازدهار والنمو في شتى المجالات والمناحي الحياتية الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والثقافية ، وكيف استطاعت هذه الدول المتقدمة أن تسير بكافة هذه المجالات والنواحي بخطى ثابتة وواحدة بحيث لا نجد هناك جانبا متقدما ومتطورا وآخر متأخرا ومتخلفا وإنما نجد أن كافة هذه الجوانب والمناحي جميعها متقدمة ومتطورة في آن واحد.
علينا دراسة واستيعاب تجارب كثيرة لمجتمعات استطاعت إعادة بناء دولها بعد مرورها بحروب أهلية مدمرة، لعلنا نتمكن من وضع رؤية استراتيجية لإعادة بناء دولتنا.
_______________