نخبة من الكتاب
هذه الجولة على واقع حال الأحزاب العربية، تنطلق بها “اندبندنت عربية” إلى كل من، الأردن، والجزائر، وتونس، ولبنان، والعراق، وليبيا، والسودان، لتخلص منها إلى رسم خريطة ليست للأحزاب العربية، وإنما للبيئة التي ينشط فيها العمل الحزبي داخل البلدان المذكورة.
***
الجزء الثاني: الأحزاب الجزائرية والعراقية والليبية والسودانية
رابعا: الأحزاب الجزائرية تواصل الدوران في حلقة مفرغة من الديمقراطية
كذلك باتت الساحة السياسية الجزائرية مشبعة بالأحزاب، بعد أن فاق عددها الـ62 تشكيلة. ومع انتظار العشرات طلب الاعتماد لدى وزارة الداخلية، تعتبر جهات أن الوضع مؤشر للديمقراطية في حين ترى أخرى أن الأمر يتعلق بتعويم مقصود.
مع كل استحقاق تسارع شخصيات لتأسيس أحزاب سياسية في محاولة منها للتموقع أو استرضاء الوافد الجديد على قصر الرئاسة “المرادية“، أو من أجل التقرب من النظام وخلافة التشكيلات السياسية التي تجاوزها الزمن، أو أصبحت مرفوضة لدى الشارع.
وفي خضم الأحداث التي تشهدها الجزائر منذ استقلالها في 1962، كثرت الاستحقاقات الانتخابية، وارتفعت معها أعداد التشكيلات السياسية التي خلقت مناخاً سياسياً، تارة يكون متناقضاً، وأخرى متصادماً، ومنقلباً على نفسه في أحيان، ولم يعرف استقراراً في الولاء والمعارضة والتحالف والاختلاف.
بدأت الجزائر عهد التعددية الحزبية عام 1989، على أنقاض دستور أسس للجيل الأول من الأحزاب التي بلغ عددها 32، ليتم، وبتبرير حالة الطوارئ في فترة التسعينيات التي عرفت فيها البلاد أزمة أمنية، حظر اعتماد الأحزاب لغاية 2011، حيث أفرجت السلطة عن حزمة الجيل الثاني ومنح رخص النشاط السياسي لـ38 تشكيلة جديدة ليصل العدد إلى 70 حزباً سياسياً، غير أن عدداً غير معلوم لم يواصل مسيرته، وتم تجميد نشاطه مؤقتاً، أو حله، ومنها من انشطر إلى قسمين عبر حركات تصحيحية داخلية.
حزمة الجيل الثالث من الأحزاب
وجاء الحراك الشعبي الذي يضغط منذ اندلاع في 22 فبراير (شباط) 2019، ليتم الإفراج عن حزمة الجيل الثالث من الأحزاب، حيث أعلنت في العاشر من أبريل (نيسان)، وزارة الداخلية عن إصدارها تراخيص لعشرة أحزاب سياسية جديدة، من أجل عقد مؤتمراتها التأسيسية، بعد فترة خمس سنوات على الأقل، لم تعتمد فيها السلطة أي حزب جديد.
32 عاماً مرت على إقرار التعددية الحزبية في الجزائر عام 1989، وعلى الرغم من العدد الكبير من التشكيلات السياسية التي بلغ عددها نحو 80 حزباً، فإن تأثيرها داخل المجتمع وفي الشارع يبقى نسبياً، بل عدة أحزاب لم تعد قادرة على مواكبة الأحداث، بسبب مشكلاتها الداخلية وحرب الزعامة والبحث عن المصالح، وتحول عدد كبير منها إلى جمعيات مناسباتية.
صراعات داخلية بمناسبة كل استحقاق انتخابي، أدت في كثير الأحيان إلى خلق الفوضى داخل الأحزاب بلغت حد الانقسام إلى تشكيلتين، وأغلب هذه النزاعات سببها الزعامات أو المصالح، حيث يجدان المساعدة من مراكز القرار الرسمية والغرف المظلمة، تمنحها الغطاء القانوني والسياسي، وهي بذلك تصفي حساباتها مع قيادات سياسية تريد ترويضها.
الحزب السياسي عموماً في الجزائر، ما زال بعيداً عن التأثير في السياسات الحكومية وفي إثارة النقاشات حول قرارات أو خيارات تتخذها، وكل ما من شأنه الإضرار بالشأن أو المال العام، ما يعطي مؤشراً على أن السلطة باتت هي التي تتحكم في توقيت ومواعيد النشاط السياسي، وتحدد مواضيع النقاش، وبذلك فإن الأحزاب في البلاد باتت هي صانع لردة الفعل أكثر منها صاحب مبادرة سياسية.
سياسة الأحادية
في السياق ذاته، يرى الإعلامي المهتم بالشأن السياسي، أن فتح المجال السياسي في الدول العربية لكثير من الأحزاب تم في محاولة من هذه الأنظمة للظهور بأنها تخلت عن سياسة الأحادية، إلا أن “واقع الحريات في دولنا العربية مقارنة مع ما كانت عليه قبل التسعينيات ما زال هو نفسه لم يتغير“.
وقال إن التعددية صارت تمثلها أحزاب صورية أغلبها صنعت من قبل الأنظمة العربية نفسها، بينما حاولت أنظمة أخرى ممارسة التعددية الديمقراطية بصدق، لكنها وجدت نفسها في فوضى حقيقية أوصلتها إلى حرب أهلية مثلما هو الشأن بالنسبة إلى الجزائر التي دخلت في حرب دامت عقداً كاملاً بسبب التسرع في فتح المجال لمختلف التيارات السياسية التي اصطدمت بنظام أحادي أراد صناعة تعددية على مقاسه، وهو ما نجح فيه فعلاً.
وتابع دلومي، أن الإشكالية الكبيرة في هذه الأحزاب العربية نفسها التي لا تختلف عن الأنظمة الأحادية في ممارساتها، فكل هذه الأحزاب التي قادت حكومات أثبتت فشلها الذريع، والدليل هو وضع الشعوب العربية اجتماعياً وثقافياً وسياسياً، بل وتحولت هذه الأحزاب لمجرد أداة تختفي خلفها السلطة الفعلية والأنظمة.
وختم بأنه “لن نبالغ إذا قلنا إن هذه الأحزاب العربية منحت عمراً آخر للأنظمة العربية، بخاصة التي كانت تابعة للمعسكر الشرقي، بعد أن صدقت هذه التشكيلات السياسية أن أنظمة أحادية يمكنها فتح المجال لتعددية سياسية حقيقية وإطلاق الحريات“.
من جهته، يقول الناشط السياسي كمال ضيف الله، إن التعددية الحزبية في الجزائر كانت لها أدوار متعددة في تغيير حال البلاد والجزائريين، ولعل فضح ممارسات بعض المسؤولين أهم نجاح للأحزاب، كما أن الوعي الذي بات عليه الشعب حالياً يرجع إلى النشاط السياسي للأحزاب، التي أسهمت بشكل كبير في استقطاب المواطنين، مضيفاً أنه على الرغم من تعويم الساحة السياسية الممارس من قبل مختلف الحكومات المتعاقبة.
غير أن هناك تشكيلات تمسكت بمبادئها وخطها، وتواصل مسيرتها في إحراج السلطة عندما يتعلق الأمر بمشاريع فاشلة أو سياسات في غير محلها أو توجهات مخالفة لمواقف الجزائر والجزائريين، بدليل النقاشات الواسعة التي أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي والحراك الشعبي مسرحاً لها.
***
خامسا: في العراق شهية مفتوحة لتأسيس الأحزاب
أما في العراق وبعد تغيير النظام عام 2003، فتحت شهية الراغبين في العمل السياسي بعد عقود طويلة من حكم الحزب الواحد، إذ بدأ ظهور الأحزاب السياسية بشكل غير منضبط حتى باتت أعدادها تصل إلى المئات، خصوصاً مع اقتراب المواسم الانتخابية.
ويشير مراقبون إلى أن الإشكالية الرئيسة تتعلق بعدم نضوج تجربة الانتقال الديمقراطي، فضلاً عن استغلال الأحزاب التقليدية تلك الحالة لتشتيت الرأي العام.
ويبدو غياب الضابط القانوني لتأسيس الأحزاب عاملاً رئيساً في ظهور تلك الأعداد الكبيرة، إذ لا يزال الجدل دائراً حول قانون الأحزاب وعدم تفعيله بطريقة تحد من إمكانية تأسيس الأحزاب بشكل عشوائي.
وباتت ظاهرة تكاثر الأحزاب تثير قلق الباحثين في الشأن السياسي، إذ يشيرون إلى أنها أسهمت بشكل أو بآخر في تحفيز حالة من عدم الثقة عراقياً بالديمقراطية.
ومع اقتراب موعد الانتخابات المبكرة في العراق، في أكتوبر (تشرين الأول) 2021، بدأت أعداد الأحزاب الراغبة في التنافس بالتزايد.
وقالت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، في بيان صدر في مطلع مارس (آذار) الماضي، إن “عدد المتقدمين للمشاركة في الانتخابات لا يتناسب مع حجم الدوائر الانتخابية البالغ عددها 83 دائرة، كما لا يتناسب مع عدد المقاعد المخصصة لأعضاء مجلس النواب، البالغة 329 مقعداً“.
وأشارت إلى أن “عدد الأحزاب المجازة رسمياً بلغ 249 حزباً، أما عدد الأحزاب التي هي قيد التأسيس، فبلغ 59 حزباً، مشيرة إلى أن 106 أحزاب أبدت رغبتها في المشاركة بالانتخابات“.
أعراض مرضية
ويصف أستاذ العلوم السياسية، إياد العنبر، حالة تكاثر الأحزاب بشكل كبير بأنها “من الأعراض المرضية المصاحبة للانتقال من النظام الديكتاتوري الشمولي إلى نظام يتبنى الخيارات الديمقراطية“، مبيناً أن “انفتاح المجال السياسي من دون ضوابط أدى إلى تلك التعددية المفرطة“.
ويضيف “هذه التعددية ليست بالضرورة تعبيراً عن واقع اجتماعي وثقافي، إذ إنها في الغالب تجل واضح للبحث عن فرص للمشاركة في مغانم السلطة“.
ووفق العنبر، قد يسهم العدد الكبير للأحزاب “في تثبيت مبدأ عدم احتكار المجال السياسي“.
ويشير إلى أن الإشكالية في هذا العدد الكبير ترتبط بكون هذه الأحزاب “تسهم في تشتيت الرأي العام أكثر من إنضاجه سياسياً“، قائلاً إن “أداء غالبيتها يكاد يكون معدوماً“.
ويبدو أن انفتاح المجال السياسي في البلاد دفع عديداً من رجال الأعمال وشيوخ العشائر إلى محاولة اقتحام الوسط السياسي، إذ يبين العنبر أن “عديداً من الأحزاب الجديدة تمثل واجهات لفئات تحاول تقديم نفسها للعمل السياسي“، مردفاً أن “التعددية المفرطة تواجه غالبية الدول التي لا تقيد العمل الحزبي بضوابط“.
ولعل اللافت، بحسب العنبر، هو استمرار الحالة الانتقالية في العراق على الرغم من مرور 18 عاماً على نشوء نظامه السياسي الجديد، مبيناً أن هذا الأمر أسهم بشكل كبير في “تنمية الفوضى وواقع اللادولة المتحكم في المشهد العراقي“.
ويعتقد أن “التنافس السياسي المفتوح هو الذي سيضمن في النتيجة عملية الفرز بين تلك الجماعات والأحزاب الناشطة“.
وكانت تجربة انتخابات عام 2018 مثالاً على استغلال الأحزاب التقليدية عنوان “المدنية” الذي كان رائجاً بعد تظاهرات عام 2015، في تأسيس العشرات من “أحزاب الظل“، في محاولة لتشتيت الناخبين عن انتخاب أحزاب تمثلهم بالفعل.
ولعل هذا الأمر يزيد المخاوف من أن تستغل تلك الأحزاب عنوان “انتفاضة أكتوبر” العراقية في الانتخابات المقبلة.
فقدان ثقة العراقيين بالديمقراطية
يبدو أن تنامي الرفض الشعبي الذي تواجه به الأحزاب التقليدية، وعدم قدرتها على التوافق مع متطلبات الوضع السياسي الجديد، أديا إلى سعيها لإظهار عناوين جديدة في محاولة لكسب الشارع مرة أخرى.
وفي هذا السياق، يقول رئيس مركز التفكير السياسي، إحسان الشمري، إن “النظام السياسي لم يضع ضوابط أمام تشكيل الأحزاب، بل جاء ليثبت مبدأ التعددية الحزبية مقابل فكرة الحزب الواحد التي تحكمت بالبلاد لعقود طويلة“.
ويوضح أن تلك التعددية غير المنضبطة قادت من بين عوامل أخرى إلى “تشجيع وجود هذا العدد الكبير من الأحزاب لمجرد إثبات أن النظام الجديد يؤمن بحرية الانتماء السياسي“.
ويتحدث الشمري عن عوامل عدة قادت في النهاية إلى ظهور مئات الأحزاب، من بينها “عدم وجود نضج سياسي لدى مؤسسيها، حيث تم تقديم العناوين والمقار على الأيديولوجيا، ما أدى إلى استسهال إنشاء الأحزاب“.
ويبين أن الانشطارات التي شهدتها الأحزاب التقليدية بسبب الخلافات الداخلية، أسهمت هي الأخرى في نشوء عدد كبير منها، لكن العدد الأكبر من هذه الأحزاب، بحسب الشمري، يمثل أحزاب ظل للقوى التقليدية أو أحزاباً انتخابية تتكاثر قبل الاستحقاقات، لكنها سرعان ما تختفي، الأمر الذي يؤكد أن البلاد لا تزال تعيش “حالة من عدم نضج التجربة الديمقراطية والعبث السياسي“.
ويختم بأن “عدد الأحزاب الكبير أسهم، بشكل أو بآخر، في فقدان الثقة عراقياً بالديمقراطية، وأدى إلى ترسيخ قناعة لدى العراقيين بأن الديمقراطية لا تمثل مخرجاً للمأزق السياسي والاقتصادي والأمني الذي تعيشه البلاد“.
***
سادسا: في ليبيا تضارب الأحكام على عقد من التجربة الحزبية
مع إعلان رئيس الوزراء الليبي الأسبق عمر الحاسي عن تأسيس حزب جديد في ليبيا، تحت اسم حزب “الإصلاح الوطني“، عاد النقاش في البلاد حول التجربة الحزبية بعد الثورة، ودور الأحزاب في الحياة السياسية وأيضاً العامة، وحجم تأثيرها الحقيقي في الشارع المحلي، بعد مرور عقد على سقوط نظام القذافي الشمولي، الذي جمد الأحزاب لعقود أربعة.
وتعد الأحزاب السياسية في ليبيا إجمالاً قليلة العدد وصغيرة التجربة، وغالبيتها أنشئت من دون دراسة كافية وإعداد حقيقي لخوض غمار التنافس الديمقراطي، في بلد لم يعرف منذ استقلاله قبل 80 عاماً أحزاباً مؤثرة وأي مظهر للحياة الحزبية، بسبب حظر الأحزاب في العهدين اللذين حكم فيهما البلاد الملك إدريس السنوسي والقذافي.
في دائرة الشك الدائم
ابتدأت التجربة الحزبية في ليبيا بعد ثورة فبراير (شباط)، بصدور القانون رقم 29 لعام 2012 بشأن تنظيم الأحزاب السياسية، لتخوض ثلاث تجارب انتخابية، انتخابات المؤتمر الوطني العام، وانتخابات الهيئة التأسيسية للدستور، وآخرها انتخابات مجلس النواب التي نُظمت عام 2014، وكانت هذه التجارب اختباراً عملياً حقيقياً لتقييم الحياة الحزبية بعد الثورة في البلاد.
وأسهمت سنوات التصحر السياسي وانعدام التجربة الحزبية تماماً لـ80 عاماً كاملة، في عدم استغراب الشعب الليبي وجودها وتفهم دورها، والنظر الدائم إلى هذه الأحزاب بعين الشك والريبة، وتوجيه الاتهامات لها بالخضوع لإرادات خارجية والتمويل الخارجي، حتى وصل الأمر إلى خروج تظاهرات في بنغازي وطرابلس عام 2013، تطالب بتجميد الأحزاب ومنع تأسيس مزيد منها.
ويرى الصحافي الليبي عمر الجروشي أن “الظروف العامة في البلاد، والصراع السياسي الذي خلق حالة استقطاب حادة على مستوى النخبة والشارع، كلها أمور أسهمت في تعزيز هذه الحالة من الشك الدائم في الأحزاب“.
وأضاف “الدور الذي لعبته في صنع الأزمة في البلاد، وما تركته من آثار سيئة في حياة الناس، كانا عاملين إضافيين في نفور الناس من الأحزاب التي فشلت في استعادة ثقة الشارع فيها“.
تجربة مريرة
ويرى الكاتب والإعلامي الليبي محمد بزازة أن “أول تجربة لليبيين مع الأحزاب في فترة المؤتمر الوطني العام، أول برلمان ليبي بعد الثورة، والدور الذي لعبه الصراع الحزبي خلالها في زرع بذور الانقسام في فترات لاحقة، خلقت حاجزاً ليس من السهل إزالته بينها والرأي العام“.
وفي تقييمه للتجربة الحزبية في البلاد بعد الثورة، يعرب عن اعتقاده بأن “التجربة وعلى الرغم من حداثتها، إلا أنه يمكن اعتبارها في العموم فاشلة.
فهذه الأحزاب لم تلعب الدور المفترض أن تلعبه في التأسيس لحياة سياسية تخضع لشروط التنافس الديمقراطي وضوابطه في المرحلة الانتقالية، وخاضت صراعاً شرساً على السلطة، لجأت فيه إلى الأذرع المسلحة، وفقدت بالتالي قيمتها وتخلت عن طبيعة دورها“.
اعتراضات على الأحكام المستعجلة
في المقابل، هناك آراء أخرى في ليبيا، تعتبر أن الأحكام التي تصدر بفشل الأحزاب وتحملها المسؤولية الكاملة عن أزمة البلاد، هي أحكام مستعجلة تصدر عن قراءات قاصرة لواقع ولادة هذه الأحزاب.
ويعتبر الناشط السياسي الليبي محمد الكبير، أنه لا يمكن الحكم على التجربة الحزبية المحلية بالنظر إلى الظروف الاستثنائية التي ولدت فيها، “على الرغم من حداثة الحياة الحزبية في ليبيا وقصرها، إلا أنها تظل من أهم مكاسب الثورة، ومؤشراً حقيقياً إلى التغيير الديمقراطي، كما تُعد هذه التجربة الحزبية التغيير الأكبر لمشروع الثورة، بالتالي فهي حقيقة بالدراسة والبحث، وجديرة بالعناية والتحليل، قبل إصدار الأحكام القاصرة“.
ويشير الكبير إلى أن الأحكام التي تصدر بحق الأحزاب الليبية تفتقد للموضوعية، على الرغم من اعترافه بالأخطاء التي صاحبت تأسيسها وعطلت دورها في الحياة السياسية والعامة، والتي يرجعها إلى “تأسيسها بناء على توجهات أعضائها وتركيز خطابها على الخلفية العقائدية والفكرية والأيديولوجية لمؤسسيها. فهناك أحزاب التيارات الإسلامية والعلمانية والليبرالية، وكل هذه التنظيمات السياسية لا تزال في طور الإعداد وتنقصها عمليات المأسسة، لأن إنشاءها تم في ظروف غير مستقرة، ومن دون قانون ينظم حقوقها وواجباتها ونطاقاتها السياسية والاشتراطات الموضوعية لإنشاء أي حزب سياسي“.
وعلى الرغم من التخبط الذي صاحب تأسيس الأحزاب، وطبع دورها في الحياة السياسية الليبية طيلة العقد الماضي، إلا أن الكبير يؤكد ضرورة استمرار الحياة الحزبية وإصلاحها وليس إلغاءها، معتبراً أنها “السبيل الوحيد للتحول من دولة القبائل إلى الدولة المدنية الحديثة، التي ترفع مبدأ المواطنة وذلك من خلال بناء قانون جيد للأحزاب، يحدد وظيفتها الأساسية، وهو التنافس لتقديم سياسات تنموية، تتناسب والمرحلة، وترك قضايا الدين بعيداً من الجدل الحزبي، وتثبيت المفاهيم الوطنية في العقل الجمعي للمجتمع، ما يجعل الأحزاب فاعلة، بدلاً من استعمالها منابر للجدل غير المفيد لمجتمعنا“.
***
سابعا: الأحزاب السودانية … أكثر من 100 حزب
تعج الساحة السياسية السودانية بأكثر من 100 حزب، أغلبها لا وجود له ولا تأثير، باعتبار أن أحزاباً معينة تسيطر، برزت واستطاعت أن تثبت وجودها، ربما لأن بعضها ذو خلفية عقائدية ودينية تضمن للحزب قاعدة كبيرة في بلد يغلب على أهله طابع التدين مثل السودان.
وأخرى لسيطرتها على الحكم كحزب “المؤتمر الوطني” الذي حكم البلاد لأكثر من 30 عاماً. والبعض الآخر بولائه للنظام السابق، الذي ضيق على العمل السياسي وجعل الأمر حكراً على فئات معينة.
“وجود أحزاب ومنظومات سياسية ومجتمع مدني هو الوجه المعاكس للفوضى“، هذا ما قاله الصحافي والمحلل السياسي عباس محمد، وأضاف “الواقع الحزبي السوداني اليوم، يعكس تجليات فشل التجربة الوطنية منذ الاستقلال، لأن الأحزاب السياسية لا تعبر عن مصالح الناس كما هو مطلوب أو هو ما يبرر وجودها في الأساس“.
سنوات من الدكتاتورية
في فترة حكم النظام السابق، عانت الأحزاب من قبضة الدولة على السياسة. وكان العمل السياسي صعباً وذا أجندة تخدم مصالح الرئيس وحاشيته، ما جعل كثيراً من الأحزاب تلجأ للعمل مع الحكومة في الخفاء، حتى وإن كانت معارضة لها في العلن.
وتحدث عباس قائلاً “خلال سنوات حُكم الحركة الإسلامية الاستبدادي تردت الحركة السياسية في البلاد بشكل كبير، واختُرق أمنها وعانت من التضييق، الأمر الذي كان له أثر بالغ في تهدم بنيانها. هذه الأسباب مجتمعة خلقت واقعاً حزبياً فوضوياً يعاني من الأزمات فنجد انقسامات داخل الأحزاب وفروعها، وهو ما يوضح فشل آليات حسم الخلاف الداخلي وغياب الديمقراطية“.
عباس يرى أن هذا الأمر “يضعنا أمام تحد كبير، لأن الوصول إلى ديمقراطية حقيقية ومُستدامة يتطلب وجود أحزاب سياسية، راشدة وقادرة على معالجة خللها الداخلي. لذا فإن إصلاح العمل الحزبي في البلاد يجب أن يكون على رأس تحديات الفترة الانتقالية“.
جهوية وقبلية
وفي سياق متصل، تابع عباس “ما قبل سقوط نظام الحركة الإسلامية الذي حكم البلاد ثلاثة عقود بقبضة من حديد، ودكتاتورية توصف بأنها الأعتى في أفريقيا، كانت المجموعات التي تنفرد بالمواقع القيادية في الأحزاب السياسية تجد مبررات لبقائها متعللة بالقبضة الأمنية“.
وأضاف شارحاً “في سودان الثورة هذا الخلل يجب أن يُعالج، وتتم مراجعة سجلات الأحزاب والتأكد من تطابق نُظمها وقيام مؤتمراتها العامة، قبل قيام الانتخابات العامة في البلاد، هذا الأمر سوف يساعد في تنقيح الساحة من منظومات جاسوسية صُنعت بواسطة أجهزة استخبارات النظام البائد لتخريب الساحة السياسية“.
وعانت الأحزاب السودانية من الاستسلام لفكرة القبلية والجهوية والولاء الديني. ويرى عباس أن “دخول القبائل في المنظومات السياسية والأحزاب، هو أمر حميد ومطلوب، لكن حتى يحقق النتائج الجيدة يجب أن تعيد الأحزاب بناء نفسها لتكون أكثر قدرة على قيادة القبلية وتوحيد التباينات والاختلافات وفق رؤى، وإلا ستكون هي رهينة لأجندات القبيلة وهو أمر خطير للغاية“.
لا علاقة للحكومات السابقة
في المقابل، قال المستشار القانوني والقيادي في حزب “المؤتمر الوطني” إن “الانقسامات في الأحزاب السياسية قديمة وغير مرتبطة بالمؤتمر الوطني، فأول انشقاق سياسي حزبي كان في عام 1952 في الحزب الشيوعي جناح عبد الخالق وجناح عوض عبد الرازق، ثم انشقاق الحزب الوطني ثم حزب الأمه في عام 1966 جناح الصادق المهدي وجناح الهادي المهدي.
وهكذا استمرت الانشقاقات ومردها الأول هو غياب الديمقراطية داخل الأحزاب السياسية. فالأحزاب الطائفية (حزب الأمة والحزب الاتحادي الديمقراطي والحزب الجمهوري) كمثال، هي أحزاب مرتبطة بأشخاص وبأسر، ولا تستطيع الخروج من عباءة الفرد القائد، كما في الحزب الجمهوري أو الأسرة القائدة كحزب الأمة والحزب الاتحادي، ما جعل كثيراً من المستنيرين وأصحاب الرؤى داخل تلك الأحزاب يتململون جراء تلك السيطرة.
واستمرت تلك الململة وأضيف إليها جيل جديد في التسعينيات لم يجد طموحه ولا تمثيله داخل تلك الأحزاب، على الرغم من انتمائه بحكم الإرث لتلك الأحزاب، فظهرت تلك الانقسامات في عهد الإنقاذ وهذا ينطبق على الأحزاب العقائدية كالشيوعي والبعث والناصري والإسلاميين“.
وأضاف قائلاً “غياب الديمقراطية الحقيقية وغياب الرؤية الكلية التي تستوعب التغييرات وتتيح الفرص للأجيال الجديدة بتولي الأمور برؤى عصرية، كلها أسهمت في انشطارات الأحزاب السودانية بما فيها المؤتمر الوطني الذي انقسم لأكثر من ثلاثة أحزاب، ما يعني أن الحكومة السابقة ليس لها أي علاقة بالانقسامات في الأحزاب أو تخريب الساحة السياسية“.
من جهته، يعتقد حسن بكري أنه ما من أحزاب كثيرة في الوطن العربي عامة، وأن “هناك بعض الدول تفتقر للممارسة السياسية، ولو أخذنا الحالة السودانية فهي مختلفة باختلاف الواقع السوداني الرافض للظلم والقهر ابتداءً من رفض المستعمر مروراً بأول ثورة ضد نظام وطني عسكري في عام 1964 وصولاً لثورة ديسمبر“.
مليون حزب ولون
وأكد بكري أن “مشوار السودانيين نحو الديمقراطية مر، وما زال يمر بمحطات عدة، وأفرز الواقع الحالي مليون حزب ولون سياسي، وفي كل الأحوال فإن التعددية لا تُعد فوضى، ولن تكون بداية لفوضى أو محطة من محطات الفوضى، فهي في مجملها آراء مختلفة حول كيف يُحكم السودان، ولو توفرت إجابة لهذا السؤال في المؤتمر الدستوري المقبل سنجد كثيراً من الأحزاب تلاشت وذابت في أحزاب أخرى، وسنكتشف حقيقة أن الأجسام الحالية ليست جميعها أحزاباً بمعنى الكلمة، فهناك أبعاد أمنية وسياسية أكبر، كأن نرى مثلاً واجهات أمنية بغلاف سياسي أو أجسام تلعب دوراً استخباراتياً وتختفي باسم حزب مُعين“.
بكري يرى أن “الأحزاب المؤثرة فعلياً على المشهد لا تتجاوز خمسة أو ستة أحزاب يمكن تسميتهم باللاعبين الأساسيين، إضافة إلى حركات الكفاح المسلح التي سيتغير واقعها بتغيير حال البلد. بقية الأحزاب يمكن أن تصل إلى 200 حزب، ليس لها دور أو تأثير وثمة مفارقة غريبة في السودان، الجميع يلوم الأحزاب على كثرتها. وأول ما يفكر فيه الجميع هو إنشاء حزب“.
_____________