أحمد علي حسن
بعد “انتفاضة 17 فبراير 2011، التي أدت إلى الإطاحة بنظام القذافي، شهدت ليبيا طفرة في لجوء الأفراد والمجموعات إلى تأسيس الأحزاب السياسية، بعد منع امتد لأكثر من 4 عقود.
وخلال نحو 11 عاماً، جرى إشهار ما لا يقل عن 110 أحزاب، اعتمدت لجنة شؤون الأحزاب السياسية التابعة للمجلس الأعلى للقضاء الليبي، العام الماضي، أوراق تأسيس عدد منها لممارسة العمل السياسي.
لكن العديد من المنعطفات السياسية التي مرت بها البلاد خلال العقد الأخير، أظهرت غياب دور تلك الأحزاب وضعف تأثيرها، إذ اكتفت بإصدار البيانات، سواء المؤيدة لحدث ما أم المنددة بحصوله، فيما اكتفى بعضها الآخر بحضوره على صفحات التواصل الاجتماعي، ولا يُعرف على وجه الدقة ما إن كانت هذه الأحزاب لا تزال قائمة أم حلت نفسها.
غياب التأثير الحزبي
غياب دور الأحزاب في المشهد الليبي، يعود إلى أسباب عدة، بعضها مرتبط بالانقسامات التي شهدتها بعض الأحزاب المدنية نفسها، والبعض الآخر يعود إلى تركيبة المجتمع الليبي الذي يسيطر عليه تاريخياً التنافس القبلي والجهوي، وهو ما ظهر جلياً في منح الأحزاب حصة قوامها نحو 40 في المئة من المقاعد فقط (80 مقعداً) في انتخابات المؤتمر الوطني التي جرت عام 2012 (أول انتخابات برلمانية تجرى في البلاد ما بعد القذافي)، فيما حصل الأفراد المستقلون المدعومون من القبائل والعائلات الكبيرة على 60 في المئة (120 مقعداً).
بل إن تظاهرات خرجت عام 2013 داعية إلى حل الأحزاب شجعت “المؤتمر الوطني العام“، الذي سيطر عليه المستقلون، على إصدار قانون قوّضت نصوصه من مشاركة الأحزاب في انتخابات مجلس النواب التي جرت في يونيو عام 2014.
ومن بين أبرز الأحزاب الليبية، “تحالف القوى الوطنية” الذي كان أسسه محمود جبريل، رئيس المكتب التنفيذي للمجلس الوطني الانتقالي، وحقق نتائج لافتة في انتخابات المؤتمر الوطني عام 2012، إلا أن دوره ظل يتراجع إلى أن تلاشى بعد وفاة مؤسسه متأثراً بإصابته بفيروس كورونا عام 2020.
وهناك أيضاً حزب “العدالة والبناء” الذراع السياسية لجماعة “الإخوان المسلمين” في ليبيا، والذي تأسس عام 2011. وإلى جانبهما أحزاب أخرى استمدت شهرتها من قادتها، مثل “الجبهة الوطنية” والذي كانت “الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا” التي تأسست في الخارج ضد القذافي. بالإضافة إلى حزب “الاتحاد من أجل الوطن” الذي أسسه عبد الرحمن السويحلي، و“التجمع الليبي الديموقراطي” لرجل الأعمال حسن طاطاناكي، وحزب “الوطن” بقيادة عبد الحكيم بلحاج، و“الائتلاف الدستوري” الذي يقوده عبد الحميد النعمي.
سطوة الميليشيات
ومن ناحية أخرى، فإن تداعيات تحول الصراع السياسي إلى عسكري منذ عام 2014، ألقت بانعكاساتها على المشهد برمّته وفي القلب منه دور الأحزاب السياسية، ففي بلد يحكمه صراع القوة، ينسحب الاهتمام الشعبي بالمشاركة السياسية المدنية، فيما تصاعدت سطوة قوى الإسلام السياسي الراديكالي، وارتباطها بالميليشيات المسلحة، من جهة، وبمشاريع إقليمية من جهة أخرى.
ووفقاً لتقارير دولية ومحلية، فإن ليبيا تضم أكبر مخزون في العالم من الأسلحة غير الخاضعة للرقابة، إذ تحتوي على نحو 30 مليون قطعة سلاح بين خفيفة ومتوسطة وثقيلة بأيدي الميليشيات وعصابات التهريب والجريمة أو العشائر.
يرفض الباحث السياسي في الشأن الليبي محمد فتحي الشريف، تحميل التركيبة المجتمعية القبلية في ليبيا مسؤولية ضعف التجربة الحزبية، لافتاً في تصريح لـ“النهار العربي” إلى أن “ليبيا بعد حوادث شباط عام 2011 غير قبلها، وهناك بعض المتطلعين لتشكيل كيانات في ليبيا تساهم في استقرار البلاد وترسيخ العملية الديموقراطية“، لكنه يتوقع أنه إذا جرت انتخابات تشريعية، وفقاً للنظام الدستوري والقانوني الحالي “سيكون الأفراد المستقلون الأكثر حظاً في الفوز بالانتخابات“، قبل أن يُرجح تغيير هذا المشهد في المستقبل عندما يكون لليبيا سلطة منتخبة ودستور دائم.
ويوضح الشريف أنه بعد عام 2011، بدأت تنشط الحياة الحزبية في ليبيا مع تسهيل إجراءات تأسيس الأحزاب، لكن الملاحظ أنه بعد عام 2014 بدأت الأحزاب الانحياز إلى المعسكرات الفاعلة على الأرض، فهناك عدد من الأحزاب أغلب أعضائه من قيادات النظام السابق، أبرزهم حزب “الحركة الوطنية الليبية الشعبية“، وهؤلاء يتركز نشاطهم في المنطقتين الشرقية والجنوبية، ويدعمون الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، فيما هناك أحزاب أخرى على رأسها حزب “العدالة والبناء” (الذراع السياسية للإخوان) وهؤلاء ينشطون في الغرب الليبي ولهم ظهير موال للميليشيات.
“لم تنضج بعد“
ويرى الشريف أن “التجربة الحزبية لم تنضج بعد، نظراً إلى أن الفاعل على الأرض هي القوة العسكرية… كما أن النشاط الحزبي في البلاد جاء بعد حرمان لعقود، بالإضافة إلى أن الأجواء ملبدة والعملية السياسية متعثرة“، مشدداً على أن “التجربة الحزبية تحتاج إلى دولة مستقرة“.
ورأى أن هذا العدد “المهول” من الأحزاب، يفوق التمثيل السكاني في ليبيا. و“كثرة الأحزاب دلالة واضحة على عدم التوافق في الرؤى وكذلك على الانقسام، ونهم البعض وشغفهم برئاسة حزب وتصدر المشهد إعلامياً“، متوقعاً أنه إذا جرى انتخاب سلطة دائمة في البلاد فسنتدمج أغلب هذه الأحزاب.
لكن المحلل السياسي الليبي سليمان البيوضي، كان أكثر تشاؤماً حيال مستقبل التجربة الحزبية، إذ شكك في قدرة الأحزاب على تنظيم صفوفها، استعداداً للتنافس في الانتخابات التشريعية إذا أجريت. وتساءل: “هل لدى هؤلاء قدرة على التواصل مع المواطنين والتعامل معهم وفهم ديناميكية الوعي الجمعي؟ وهل في ليبيا حياة حزبية أصلاً؟“. وأضاف: “شكل النظام الانتخابي لم يتحدد بعد، وما إن كانت ستُجرى وفقاً للنظام الفردي أو القوائم أو الجمع بين النظامين، لكن في كل الأحوال فإن الأحزاب والكيانات السياسية غير موجودة، وإن وجدت، فهي لا تعبّر عن الديموقراطية بوجهها الحديث“.
______________