عماد غليون
هناك عدة مفاهيم متباينة للحزب ووظيفته ومقوماته نشأت عبر تطور الفكر السياسي المعاصر، وهي تعكس في الغالب منطلقات عقائدية مختلفة وتنمو في نظم إجتماعية متباينة.
وعلى ذلك فإن التنظيم السياسي الذي يعتبر حزبا في وقت من الأوقات قد يأتي وقت لا يعتبر فيه كذلك.
إن الحزب السياسي جماعة لها حدودها مثل الجماعات الأخرى؛ لكنها تختلف عنها لأن الحزب السياسي يتجه إلى الإنسان بوصفه مواطنا بغية الارتقاء به بما يحقق الخير العام.
لذلك فإن دراسة جمعية من الجمعيات السياسية أو حزب من الأحزاب في مجتمع ما؛ في مرحلة ما، لا تقتصر على الناحية التنظيمية للجمعية أو الحزب أو تحديد تاريخ النشوء مثلا؛ ولكنها فوق ذلك تتطلب دراسة التفاعلات التي حققتها وقامت بها هذه الجمعية في نطاق الحياة السياسية لذلك المجتمع في تلك المرحلة؛ بكل ما ينطوي عليه هذا من بيان وتقييم للفعاليات والعلاقات بين هذه الجمعية أو الحزب والمجتمع، والسلطة.
تحولت الأحزاب السياسية إلى ضرورة مطلقة في كل مجتمع سياسي حرّ؛ إذ يثبت وجود الأحزاب حرية المجتمع وتطوره الفكري والمادي؛ ويكون ضامنا لاحترام مؤسساته الدستورية وحقوقه الاجتماعية والفردية.
إذا كانت الحياة الحزبية وصلت إلى مراحل متطورة في بعض الدول؛ فإن ذلك ثمرة من ثمرات تقدم الفكر السياسي والاجتماعي فيها؛ بينما عانت بلادنا من عدم تفهّم الحالة الحزبية تفهما ً صحيحا ُ بسبب الظروف التاريخية التي عانت منها وفُرضت عليها قرونا طويلة.
إن مهمة الحزب السياسي ودوره كما هو مفهومه لا بد من أن يكونا منبثقين عن واقع البلاد وظروفها التاريخية؛ ويرتبط نجاح الأحزاب أو إخفاقها في تأدية مهمتها بإدراك رسالتها التاريخية.
إن مفهوم الحزب يشير إلى جماعة تلتقي على هدف أو مصلحة؛ تقوم بين أعضائها روابط تتبلور في تبني الجماعة مفاهيم عقائدية خاصة أو أغراض سياسية معينة؛ وبالتالي تضطلع بنشاطات تعكس تعبيرا عن تلك المفاهيم أو الأهداف السياسية.
يحمل مفهوم الحزب في الفكر الإسلامي في طياته سمات سلبية تبدو معها الأحزاب قوى مناهضة للإجماع أو للشعب بصورة عامة؛ وتكون الحزبية والحال هذه وكأنها خروج على الإجماع؛ وربما هذا ما يفسر استخدام مصطلحات: (الجماعة – العصبة – الفرقة) والابتعاد عن استعمال مصطلح حزب قدر الإمكان.
حدثت تطورات وتحولات عميقة على الساحة السياسية الدولية بعد انهيار مجموعة الدول الاشتراكية إثر انهيار الاتحاد السوفييتي؛ وبالتالي تحولت دول الكتلة الشرقية أو الشيوعية إلى أنظمة رأسمالية أو شبه رأسمالية؛ كما تحول النظام الدولي من نظام القطبين إلى هيمنة القطب الواحد؛ وكل ذلك أدى إلى تغيرات عميقة في النظام العالمي.
دور الأحزاب السياسية
تقاس أهمية الأحزاب السياسية بحجم الدور الذي تلعبه في الحياة السياسية وفعاليته، ومدى تأثيرها في المجتمع؛ وكذلك بمدى تأثيرها في القرارات والإجراءات الحكومية التنفيذية؛ ومدى مراقبتها للسياسات الحكومية ودفعها وتوجيهها باتجاه أهداف الحزب.
تمثل الأحزاب شرائح وطبقات اجتماعية، وعليها أن تدافع عن مصالح الطبقات التي تمثلها لتكسب شرعيتها واستمرارها.
هناك أحزاب يقتصر نشاطها ودورها على فئة أو طبقة معينة مثل أحزاب العمال والفلاحين؛ وهناك أحزاب أخرى يتركز نشاطها على هدف محدد، مثل الأحزاب التي تهتم بالبيئة.
وينبغي للأحزاب التي يجري إنشاؤها وتكوينها حديثا أن ترسم سلفا الدور والهدف الذي ترغب في أن تقوم به على الساحة السياسية.
أما الأحزاب التي نشأت على خلفية تاريخية؛ مثل قيامها بدور ونشاط معين في مقاومة الاستعمار أو التصدي لظلم اجتماعي؛ فعليها أن تقوم بمراجعة أهدافها وبرامجها بعد تحقيقها أهدافها الأساسية؛ وإلا فإن دورها سيتراجع كثيرا؛ ولا تستطيع التطور والاستمرار بسبب عدم مجاراتها للتطورات الاجتماعية والاقتصادية الهائلة في المجتمع.
ولا يخفى أن للأحزاب السياسية دورا مهما في حياة المجتمعات؛ فهي تساهم في زيادة تماسك المجتمع وتدفع بالممارسات الديمقراطية السلمية إلى الأمام، في مواجهة العنف والتطرف.
لا غنى للحياة السياسية في أي دولة عن أحزاب سياسية وتيارات فكرية ترفد استمرارها؛ لأن الصراع في المجتمع إذا قام بين مشاريع وبرامج مختلفة يعطي ديناميكية وحيوية للعلاقات السياسية القائمة ويطورها.
وعلى الرغم من أهمية الأحزاب السياسية ودورها؛ إلا أن هناك من يعارض وجودها بذريعة أن الأحزاب تؤدي في ممارساتها إلى الفساد وتسميم العقول والأفكار؛ ويضيفون إلى ذلك دورها في تشجيع حالة عدم الاستقرار السياسي التي ربما تؤدي إلى انقسام المجتمع على نفسه وظهور الصراعات الدامية فيه.
وقد عبر جورج واشنطن عن الدور السلبي للأحزاب بقوله »يؤدي الحزب دائما إلى إلهاء المجالس العامة؛ وإلى إضعاف الإرادة العامة، ويحرض الجماعة على مظاهر غير ذات أساس ويوفر ذعرا زائفا ويلهب العداوات؛ ويثير الشغب والاضطراب؛ إنه يفتح الأبواب للنفوذ الخارجي والفساد؛ اللذين يصلان بسهولة إلى الحكومة نفسها من خلال القنوات التي تتيحها الأهواء الحزبية؛ ولذا فإن سياسة وإرادة البلاد تخضع لسياسة وإرادة بلد آخر«.
والقول السابق يبرز الجوانب السلبية في ظاهرة الأحزاب السياسية؛ وعليه يجري إيراد الاتهامات التالية للأحزاب السياسية:
1 –تفضيل المصلحة الحزبية على المصلحة الوطنية أو القومية:
إذ تجعل الأحزاب من المعيار الحزبي أساسا لتقييم ولاء الأشخاص والأعضاء وتقييم المصلحة الوطنية؛ وبالتالي فإن الأحزاب تعمل على تحقيق مصالحها بالدرجة الأولى.
2 –تفتيت وحدة البلاد والأمة:
إن قيام الأحزاب بتغليب مصالحها على مصلحة البلاد والأمة؛ يؤدي إلى اختلافات حادة في مواقفها؛ ما يجعل الأفراد والمجتمعات في حالة انقسام دائم تؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار؛ وخاصة عندما تلجأ بعض الأحزاب إلى العنف بدلا من المنطق والوسائل السلمية والديمقراطية لتحقيق مطامعها في الوصول إلى السلطة، أو الاحتفاظ بها، أو في مواجهة الأحزاب الأخرى.
3 –تضليل الرأي العام:
تعمد الأحزاب في سبيل تحقيق مصالحها الخاصة والانتخابية إلى تشويه الحقائق والأحداث، لتضليل الرأي العام وتجييره ودفعه إلى القبول ببرامجها.
4 –الارتباط مع الخارج:
هناك العديد من الأحزاب لها ارتباطات مختلفة مع دول أجنبية تقدم لها مختلف أشكال الدعم والمساندة؛ ومن الطبيعي في حالة كهذه أن تفضل تلك الأحزاب مصالح تلك الدول الداعمة لها على المصلحة الوطنية العليا، ويصبح ولاؤها خارجيا ً لا وطنيا.
5 –المساعدة في انتشار الفساد:
تلجأ بعض الأحزاب إلى كل الوسائل المتاحة أمامها للوصول إلى السلطة والحفاظ عليها؛ وتستخدم لذلك كل الوسائل، وبضمنها الوسائل غير المشروعة والتلاعب بالأموال العامة.
6 –عدم الاستقرار الإداري في البلاد:
تحتاج الإدارة العامة في البلاد إلى إداريين أكفاء؛ وإلى استمرارية وتواصل وعدم انقطاع في وتيرة العمل الإداري من أجل تحقيق وتنفيذ البرامج؛ لكن الأحزاب عندما تفوز بالانتخابات تقوم بوضع عناصر حزبية لا تحمل الكفاءات المناسبة أو الخبرات الضرورية، ما يؤدي إلى حالة من التخبّط وعدم الاستقرار الإداري.
7 –المخاطر على الديمقراطية:
تقوم بعض القيادات الحزبية بالسيطرة على سياسات الحزب وتحويل قراراته لصالحها والاستئثار بالمراكز القيادية؛ كما أن النواب الحزبيين في البرلمان يعملون لصالح أحزابهم وليس للصالح الوطني العام؛ كما أن ترسيخ سلطة الأحزاب وهيمنتها على الحياة السياسية تؤدي إلى إضعاف دور الفرد وكذلك الأحزاب الصغيرة في المشاركة السياسية.
من جانب آخر، يجب النظر إلى الدور المهم والإيجابي الذي تقوم به الأحزاب في انتظام الحياة الديمقراطية وتداول السلطة بشكل سلمي في البلاد.
يمكن إيراد النقاط الإيجابية التالية في دور الأحزاب السياسية وعملها:
1 –تكوين القيادات والكوادر السياسية وتطويرها:
تتيح الأحزاب للمواطنين ممارسة الديمقراطية ضمن نشاطاتها وفي المجال العام؛ وتساهم من خلالها في تكوين خبرات وعناصر قادرة على التعبير عن مختلف الآراء والأفكار السياسية؛ ومن خلال ذلك يبرز القادة الذين يسهمون في صنع السياسات العامة في البلاد.
2 – نشر الثقافة والتنشئة السياسية:
من خلال نشاطات الأحزاب ودورها تنتشر الثقافة السياسية في المجتمع؛ ويترسخ ذلك أكثر ويتعزز بين شرائح واسعة في المجتمع عبر الحراك السياسي والمشاركة الواسعة والفعالة في المسائل العامة.
3 –تكوين الاتجاهات والأفكار والرأي العام:
تقدم الأحزاب رؤيتها ومواقفها تجاه القضايا الوطنية العامة من خلال أدبياتها السياسية؛ ومن خلال مشاركتها في الحياة السياسية في البلاد.
تساهم الأحزاب في تكوين رأي عام ضاغط لدفع الحكومة إلى اتخاذ مواقف معينة استجابة لنبض الشارع ومطالبه الملحّة.
تقوم الأحزاب باستقراء توجهات الرأي العام؛ وتستمد مواقفها بناء على الرأي العام المتولّد من خلال أحداث وطنية عامة؛ وتسعى الأحزاب إلى التوصل إلى أفضل الصيغ للتعبير عن الرأي العام عبر اتخاذ مواقف واضحة ومحددة.
وتبقى العلاقة بين الأحزاب والرأي العام أو رغبات الجماهير علاقة تبادلية؛ لأن الأحزاب هي صلة الوصل بين الجماهير والرأي العام وآمال الجماهير وطموحاتها، والسلطة السياسية الممسكة بالقرار والسلطة في البلاد.
4 –ممارسة الرقابة والمحاسبة على السلطات:
تلعب الأحزاب دورا كبيرا خاصة عندما تكون في المعارضة؛ إذ تعمل على فرض رقابة شديدة على أعمال الحكومة، وإلزامها بالمصلحة الوطنية، وضمان عدم انحرافها باتجاه الاستبداد واستغلال السلطة والفساد.
ولا يكفي أن تقوم أحزاب المعارضة بالتوصيف وتبيين الأخطاء وتوجيه النقد فقط؛ وإنما عليها أن تقدم رؤيتها وخططها لكيفية معالجة الأخطاء وتصحيحها؛ وتساهم المراقبة المستمرة لأعمال الحكومة في تكوين رأي عام ضاغط على الحكومة؛ ما يجعلها تقدّر مخاطر الانحراف عن برامجها ووعودها الانتخابية؛ ويكون تأثير ذلك أكبر في ظل وجود آليات مساءلة ومحاسبة محددة وواضحة لمكافحة الفساد.
تلجأ بعض الأحزاب إلى إقامة حكومة موازية للحكومة القائمة في السلطة تسمّى (حكومة الظل)؛ كما هو الحال في بريطانيا؛ وذلك من أجل المتابعة الدقيقة لأعمال الحكومة ككل ولعمل كل وزارة على حدة؛ وتكون هذه الحكومة مهيأة لاستلام مقاليد السلطة في حال سقوط الحكومة القائمة لفشلها في نيل الثقة أمام البرلمان.
5 –ترسيخ الاستقرار والتضامن الاجتماعي:
تقوم الأحزاب بتنظيم الشعب وتوحيده وتعبئته على أهداف عامة تعزّز اللحمة الوطنية؛ إذ يتضامن أعضاء الأحزاب ويتوحدون في سبيل تحقيق تلك الأهداف، بما يحقق وحدة النسيج الاجتماعي واستقراره، بمختلف ألوانه وأطيافه.
تسهم الأحزاب في توحيد المجتمعات التي تعاني من انقسامات على أسس دينية أو مذهبية أو عرقية؛ وذلك عبر ما تقدمه من نشاطات وبرامج هادفة تتجاوز الانقسامات وتعزز التقارب بين مختلف المكونات المجتمعية وتكرس الوحدة الوطنية.
وفي النتيجة فإنه، على الرغم من كل السلبيات الناتجة عن الحالة الحزبية والممارسات غير الوطنية لبعض الأحزاب وسعيها إلى الاستئثار بالسلطة والنفوذ والثروات؛ إلا أن العملية الديمقراطية لا يمكن أن تقوم من دون وجود أحزاب قوية تتنافس في ما بينها لتحقيق برامج وطنية تخدم جماهير الشعب وتمنع استئثار حزب واحد أو فئة معينة بالسلطة، وتدفع باتجاه نظام تعددي ديمقراطي يتحقق فيه تداول السلطة بشكل سلمي وسلس.
_____________
المصدر: كتاب “الحزب السياسي” للكاتب