عماد غليون

بعد اندلاع أحداث الربيع العربي عام 2011؛ تعمقت الأزمة المستفحلة التي كانت تمر بها الأحزاب السياسية العربية منذ عقود؛ وجاء ذلك على خلفية المواقف المترددة لتلك الأحزاب من الأحداث الجارية؛ وانحيازها بشكل عام لصالح الحكومات المستبدة ضد مصالح الشعوب ومطالبها بالحرية والديمقراطية.

ومن الطبيعي فهم مواقف أحزاب السلطة باعتبارها، تاريخيا، قد لعبت على الدوام دور الحامل الأساسي لأنظمة الحكم الاستبدادية وشكلت الغطاء الشرعي لها؛ لكن حالة العداء التي جاهرت بها تلك الأحزاب ضد الشعوب جعلت أمر بقائها واستمرارها مرتبطا بعدم سقوط أنظمة الحكم.

أما الأحزاب الدائرة في فلك السلطات الحاكمة، لم يدم انتظارها طويلا قبل أن تعود إلى أسلوبها المعهود في المزايدات الرخيصة؛ فقد أصدرت بيانات ومواقف فاقت ما قامت به الأحزاب الحاكمة في الوقوف ضد المطالبات الشعبية بالحرية والكرامة.

كان يعول كثيرا على موقف ودور مهم تلعبه أحزاب المعارضة التقليدية؛ ومنظمات المجتمع المدني وشخصيات معارضة مستقلة؛ لكنها فوجئت هي كذلك بالأحداث تماما كما ظهر من ردود أفعالها؛ وقد اتضح أنه لم يكن لها أي دور مباشر في إطلاق الحراك الشعبي؛ وعلى الرغم من أن هذا الحراك لا يخرج عن إطار برامجها السياسية في إحداث التغيير السياسي والاجتماعي؛ إلا أنها لم تمتلك الوسائل أو الأدوات التنظيمية لقيادة الحراك أو توجيهه والتأثير فيه؛ وبقيت تسير بخطوات بطيئة خلف الشارع الثائر المنطلق بسرعة؛ ولا تستطيع التنبؤ بالأحداث الجارية أو كيفية مواجهتها؛ وعلى الرغم من ذلك فقد استثمرت الحراك الشعبي لتحقيق مكاسب حزبية وشخصية؛ واستطاعت الدخول بقوة في الهيئات والمنظمات التي شكلتها الثورات فيما بعد.

استطاعت الجمعيات والأحزاب الدينية الهيمنة على الحراك بقوة بعد انطلاقه؛ وذلك بما لديها من إمكانيات وخبرات تنظيمية سابقة تمتلكها من خلال عملها السري الطويل وبما لدى رجال الدين من نفوذ في الأوساط الشعبية؛ وفي الواقع فإن ذلك شكّل ضربة قاسية للحراك الاجتماعي الشعبي عبر تحويله نحو اتجاهات دينية؛ وهذا ما أدى فيما بعد إلى ظهور التنظيمات الأصولية المتشددة التي حرّفت الحراك نحو اتجاهات مغايرة تماما لأهدافه الأصلية وانتهت إلى إجهاضه.

لا يمكن لأي جهة سياسية أو اجتماعية ادعاء الريادة في إطلاق الحراك الشعبي؛ فهو انطلق شعبيا من دون تنظيم في بداياته؛ ولم يأت استجابة لدعوات أطلقتها أحزاب أو شخصيات معارضة عبر وسائل التواصل الاجتماعي كما قيل بعد ذلك.

كشفت أحداث الربيع العربي الهشاشة والضعف في تشكيلات المعارضة ومنظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان القائمة؛ وظهر عدم وجود إمكانيات تنظيمية أو برامج عملية لديها لمواجهة استحقاق تغيير على المستوى الوطني الشامل؛ على الرغم من أنها كانت نظريا هي من تدعو إليه؛ ما يؤكد أنها كانت تعمل في إطار نظري بحت من دون تواصل جماهيري، ولم يكن لديها القدرة أو الإمكانيات لتنفيذ أي من برامجها في التغيير والإصلاح.

وعلى الرغم من تفهم الظروف والمصاعب الموضوعية بسبب الأنظمة المستبدة؛ إلا أنه لا يمكن فهم أو تبرير عدم قدرة المعارضة على الانتقال إلى ممارسة العمل السياسي المنظم وقيادة الحراك بعد أن أصبح ذلك ممكنا ومتاحا لها، والأخطر هو انكشاف عدم وجود قاعدة أو أرضية شعبية تستطيع المعارضة الاستناد إليها. وزاد من تفاقم أزمة المعارضة، شخصيات وتنظيمات، عدم قدرتها على الاحتفاظ باستقلاليتها أمام داعميها، وعدم تقديمها لمشاريع وبرامج وطنية شاملة، والسير وراء وهم السلطة والحكم؛ ما حول اتجاه الحراك برمته إلى أزمة حكم ومعارضة ومطالب بتقاسم السلطة.

كشفت أحداث الربيع العربي أهمية التنظيمات السياسية ومنظمات المجتمع المدني وضرورتها في قيادة وتوجيه الأحداث والأزمات الوطنية؛ إذ ظهرت حقيقة الفراغ الهائل في العمل الجماعي المنظم والتصحر السياسي الذي عملت السلطات المستبدة على خلقه خلال سنين طويلة.

وربما كان يمكن التعويض عن ذلك جزئيا من خلال منظمات رديفة ثقافية أو بيئية أو غيرها لتعليم الممارسات التنظيمية والعمل الجماعي من خلالها، كما تفعل الأحزاب الدينية.

وقد ظهر بوضوح أهمية دور الشباب وقدرتهم على المشاركة في الأحداث بل صنعها وقيادتها؛ وربما بسبب ذلك عملت الأنظمة للقضاء على شباب الثورة بالتصفية والاعتقال والتهجير؛ وللأسف شاركت في ذلك المعارضة فيما بعد عبر التهميش والإقصاء الذي مارسته على الشباب أصحاب الحراك الحقيقيين؛ فقد جرى إبعادهم بشكل متعمّد عن العمل في منظمات وهيئات المعارضة المختلفة؛ لا بل عن أحقيتهم بقيادتها.

أدت أحداث الربيع العربي إلى انتكاسة جديدة في عمل الأحزاب العربية التقليدية؛ فقد جرى تكريس دورها السلبي في الحياة السياسية العربية؛ كما أن تقييم الشارع لها ازداد سوءا؛ وخسرت ما تبقى لها من احترام محدود في الأوساط الشعبية.

صحيح أن أحداث الربيع العربي كشفت عن عمق أزمة الأحزاب السياسية العربية والتقليدية منها بشكل خاص؛ إلا أنها في الواقع أزمة قديمة تراكمت بناء على دورها في الحياة السياسية العربية في الحقبة التي تلت استقلال الدول العربية.

قامت الاحزاب السياسية خلال حقبة الاستعمار بدور مهم في تأطير النضال الشعبي وقيادة الحراك الثوري والسياسي وصولا إلى استقلال البلاد؛ وهو سبب إطالق اسم أحزاب الاستقلال عليها.

خلال فترة الاستعمار لم تقدم تلك الأحزاب برامج اقتصادية ٍواجتماعية شاملة؛ ولم يكن ضمن برامجها وأولوياتها وقتئذ سوى تحقيق الاستقلال؛ ولم تطالبها الجماهير بأكثر من ذلك؛ وعلى الرغم من وجود أحزاب إيديولوجية وقومية؛ إلا أنها لم تكن في مركز الصدارة والتأثير السياسي والشعبي لتنفيذ برامجها.

بعد الاستقلال ظهرت أمام الأحزاب السياسية مهام جديدة اقتصادية واجتماعية؛ لكن الأحزاب حولت كل جهودها واهتماماتها نحو الاستيلاء على السلطة والحكم؛ ثم تحولت إلى أحزاب سلطوية مستبدة؛ لا بل قامت فيما بعد بتجميد النشاط السياسي وإيقاف العمل الحزبي إلا من خلال أحزابها.

مرت سنوات طويلة من الجمود في الحياة العامة للبلاد؛ من دون أن تقوم السلطات وأحزابها الحاكمة بأي جهود فعلية؛ أو تقدم مبادرات حقيقية؛ لمواكبة متطلبات الواقع وفهمه والانسجام معه؛ ولم تعمل على تحقيق مطالب الشعوب بالحرية والتنمية؛ ما أدى إلى اتساع الفجوة بينها وبين الجماهير؛ وبات من الصعب ردم تلك الهوة السحيقة بدون حركة إصلاح شاملة لم تكن الأحزاب الحاكمة على استعداد للقيام بها؛ وكان لا بد في النهاية من اندلاع ثورات الربيع العربي، في محاولة من الجماهير لتحصيل حقوقها المسلوبة وإعادة الأمور إلى نصابها.

تعاني الأحزاب العربية التقليدية من مشاكل بنيوية داخلية مزمنة كادت تطيح بها قبل الربيع العربي؛ ففي المجال الفكري لم تقم تلك الأحزاب بمراجعة إيديولوجيا أحزابها على الرغم من انقضاء عشرات السنين منذ تبنّيها، ووجود الكثير من الأسباب المنطقية والوقائع العملية التي تدعو إلى ذلك.

تبنت الأحزاب الشيوعية العربية العقيدة الماركسية اللينينية منذ منتصف عشرينيات القرن الماضي؛ وقد استمرت الأحزاب الشيوعية كل هذه السنين الطويلة على النهج الماركسي؛ ولا تزال تحتفظ بالإيديولوجيا نفسها على الرغم من سقوط النظام الشيوعي في الاتحاد السوفييتي؛ وقد تعرضت للعديد من الانقسامات على أسس إيديولوجية وسياسية؛ وخسرت الكثير من أعضائها وأنصارها؛ وهي تحتاج اليوم إلى القيام بقراءة فكرية جديدة للماركسية بناء على التطورات الاقتصادية والسياسية الراهنة في العالم؛ ومن ثم تقديم برامجها الجديدة على ضوء ذلك.

أما الأحزاب القومية، فقد طرحت فكرة الوحدة العربية بشكل طوباوي؛ من دون دراسة وتقديم وسائل عملية لتنفيذ الوحدة، ومن دون أن تأخذ بالاعتبار الواقع السياسي ونظام الحكم الخاص لكل دولة عربية، أو حتى الظروف والتوازنات السياسية الإقليمية والدولية.

ولذلك سقطت الوحدة بين مصر وسوريا بين عامي 1958-1963 بحدة وسرعة، وشكّل ذلك ضربة قاسية لكل المحاولات والمشاريع الوحدوية فيما بعد. ومع تغير الواقع السياسي العربي بشكل كبير، يفترض بالأحزاب القومية أن تعمل على تقديم مشاريع عملية تستند إلى التكامل الاقتصادي والاجتماعي والثقافي؛ على الرغم من أن رصيد تلك الأحزاب التقليدية قد صرف تماما من خلال مواقفها في دعم الأنظمة الاستبدادية، ومن العسير أن تستطيع استرداده.

أما فيما يخص الأحزاب والجماعات الدينية، فقد كانت محظورة عن العمل معظم الأحيان؛ وهي تستند في عقيدتها وبرامجها السياسية على العقيدة والتعاليم الدينية، إضافة إلى كتب دينية محددة يوصي بها الحزب أعضاءه ومناصريه؛ وكذلك مؤلفات مؤسسي الحركات الإسالمية وقادتها، وأشهرهم حسن البنا وسيد قطب؛ وهي تهدف إلى تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية في حال وصولها إلى السلطة، وهوما يطلق عليه اسم الإسلام السياسي؛

وقد أدى تبني بعض الأحزاب الدينية للفكر السلفي الجهادي إلى نشوء الحركات الجهادية التي ولد منها تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية وغيرها؛ والتي ساهمت بتشويه صورة الإسلام والحركات والتنظيمات الإسلامية من خلال ارتكابها أعمالا إرهابية؛

وبات على الأحزاب الدينية القيام بمراجعة جدية وتقديم برامج عمل تلتزم بالتعددية والديمقراطية بشكل فعلي؛ والعمل ضمن شروط قوانين الأحزاب السياسية؛ وقد استطاعت بعض الأحزاب ذات التوجه الإسلامي القيام بذلك والنجاح في بعض البلاد، مثل حزب العدالة والتنمية في تركيا، وفي المغرب، وحزب النهضة في تونس.

من البدهي أن تتولد مشاكل تنظيمية خلال مسيرة عمل أي حزب سياسي؛ ولكنها تصبح صعبة ومستعصية في حال استمرت وتكررت لمدة سنوات طويلة؛ من دون محاولات جادة لاحتوائها وإيجاد حل لها. باستيلاء الأحزاب الإنقلابية على الحكم؛ تحولت كل جهودها إلى الحفاظ على السلطة من خلال استمرار الأنظمة الديكتاتورية الحاملة لها؛

ومن البدهي بعد قيامها بإلغاء الحياة الديمقراطية ونشاطات المجتمع المدني في البلاد أن تطبق الشيء نفسه على كوادر الحزب وأنظمته الداخلية، وأن تضع كل جهودها لتكريس استمرار قيادة الحزب بيد السلطات الحاكمة نفسها.

أما الأحزاب المتحالفة مع الحزب الحاكم، فقد سيطر الأمناء العامون على تلك الأحزاب؛ وبات همهم الاستمرار في رئاسة الأحزاب والحفاظ على المصالح الشخصية الممنوحة لهم من السلطات الحاكمة.

في العديد من الأحزاب العربية برزت ظاهرة الأحزاب العائلية، كما في الكثير من الأحزاب اللبنانية، ولم تسلم حتى بعض الأحزاب الإيديولوجية من تلك الظاهرة، كما في حالة توريث بعض الأحزاب الشيوعية.

وساهمت قيادات بعض الأحزاب في تكريس قيادتها للحزب من خلال شخصنة الحزب باسمها؛ ومنع بروز قيادات شابة من الصف الثاني للحزب.

ما قامت به الأنظمة العربية الحاكمة من تعطيل للحياة السياسية وسيطرتها على موارد البلاد وفشلها في تحقيق التنمية الموعودة؛ كل ذلك أدى إلى خلق فجوة واسعة بين الجماهير والأحزاب الحاكمة لكونها هي الحامل لتلك الأنظمة، ولعدم اكتراث الأحزاب بالمطالب الشعبية بعد وصولها إلى السلطة.

_____________

المصدر: كتاب الحزب السياسيللكاتب

مقالات مشابهة