سالم الكبتي

عشية استقلال ليبيا في الرابع والعشرين من ديسمبر 1951 اقترب العام من نهايته وأوقد العالم الشموع في الساحات والشوارع وظلت أيام الصقيع متواصلة.

فصل الشتاء بلياليه الباردة التي يعرفها الليبيون جيداً. ليس ثمة دفء في الغالب سوى من خلال مواقد الفحم والحطب. أضحت البلاد رغم الصقيع في وضع جديد ونالها بعض الدفء. ستبدأ الدولة الجديدة الفقيرة السير على مهل بعكازين في مشوارها الطويل. العالم الدافيء سيراقب الخطوات الواهنة بأشفاق.

كان في البلاد فراغ يلوح أمام كل الأعين في العمل السياسي. لم تعد ثمة أحزاب أو جماعات أو منظمات تقوم بذلك النشاط الذي سيغدو (محرماً). وتبعا لذلك تأخرت تلك الأحزاب وابتعدت. أوقف حراكها لأسباب مختلفة ومنعت بطريقة معلومة أو مجهولة من الاستمرار وإن لم يجر تفسير هذا المنع للجميع.

كانت الدولة تنهض من الغبار وتسير على العكازين فقط. لا أحد يسندها أو يرفدها أو ينظر إليها غير الأمم المتحدة ومساعدات بعض الدول الغنية. وكان طموح هذه الأحزاب والكيانات التي لم تكن عريقة أو ذات جذور في الواقع.. يتحدد قبيل إعلان الاستقلال في أمر واحد هو تحقيق هذا الاستقلال وليحدث بعده ما يحدث. سيعلو بناء البيت الليبي رغم كل الصعاب.

ظل حلم الأحزاب يرتبط في الأصل بالحرية وتأسيس الكيان الوطني وسط عالم خرج من نار الحرب وغداً يصلح ويرمم الخرائب ويبني مدنه المهدمة. كان العالم تلك الأيام ورشة ضاجة بالأسمنت والحجارة والحديد والأخشاب والزجاج والعمال المشوهي الوجوه.

اتفقت تلك الأحزاب عندنا في هذه النظرة الواحدة لمطلب الاستقلال وتحقيقه وناضلت من أجله بما توفر لديها من وسائل وإن تباينت بينها المفاهيم وطرق النضال أو اختلفت أطيافها على امتداد الأفق البعيد.

كان هذا النضال (الحزبي) في أغلبه سلمياً وظل يحدث عن طريق المهرجانات والاجتماعات والمظاهرات وإعلان البيانات وإصدار الصحف وبرز خلال هذا الحراك الذي كان يفور قبيل تلك الغداة المليئة بالصقيع والمطر.. برز الكثير من الوجوه التي تميزت بنصيب من المعرفة والثقافة والفهم في بعض جوانب السياسة وقضاياها.

وأضحى هذا الحراك أيضاً من قبل من تصدر الساحة يراعي الخطوط (الحمراء) والتقاليد والعلاقات الاجتماعية والعديد من الاعتبارات والحسابات. ولم يكن يصحب هذا النشاط في المدن والدواخل أي نوع من العنف أو تصفية الخصوم أو التهديد سوى من بعض الاستثناءات العابرة التي لم تكن قاعدة أو سمة تعتري ذلك الحراك السياسي في البلاد.

لم تكن ثمة اغتيالات أو تفجيرات أو أعمال خطف أو مساومات وابتزازات للآخرين وكانت السلطات في (الأقاليم الثلاثة) ترصد ما يدور وتعرف كل الخبايا والأفراد الذين يتحركون وينشطون وأحياناً تتدخل إذا لزم الأمر في الوقت المناسب على طريقتها الخاصة. وقد تمثلت السلطات المعنية بالأمر في وجود الإدارتين البريطانية والفرنسية مع (الإدارة المحلية الموقتة) في تلك الأقاليم.

وفي وجه العموم خلال تلك الفترة التي مرت بالبلاد قبيل الاستقلال ظلت كل الأحزاب والجماعات تعمل في المدن على الأكثر بصورة ملموسة وظلت تقل في مناطق الدواخل التي كانت تشهد بين حين وآخر مجيء رجال الأحزاب وأعيانها والعديد من الوجهاء في بعض المناسبات لتنال الترحيب بحفاوة!

وعلى كل حال وفي المنظور التاريخي لم توجد رؤية سياسية لاستشراف المستقبل أو منهج عمل قادم لدى هذه الأحزاب رغم الحفاوة والتصفيق. ظل حلم الاستقلال وإنجازه على الأرض كما ذكرنا هو السقف العالي الذي لا بديل عنه ولا يمكن التراجع خطوة واحدة في سبيلهتلك كانت شعارات النضال في المنطقة أيضًا منذ زمن وانتقل إلينا.. (الاستقلال التام أو الموت الزؤام). لكن في الواقع لم يمت أحد من الأحزاب في ليبيا تلك الأيام التي ولت بعيدة.. ونهض الاستقلال من المخاض والركام المرير.

وحتى لا نقسو على تلك «الأحزاب» أو نبخسها من أمرها شيئاً فإننا نقول: إنها جميعاً في وجود بعض الزعامات الوطنية والوجوه المخلصة التي تقدمت صفوفها.. لم تكن تملك في يديها غير وهج الروح الوطنية التي تعتريها العاطفة في أحيان عديدة و«حب الوطن» الذي تراه من «الإيمان» ولم تشهد مع مرور التجربة القصيرة..

ومع هذا الإخلاص، الحياة السياسية الليبية أي نوع من البرامج الفكرية والسياسية أو أي مظهر من مظاهر التقاليد والنظم الحزبية المعروفة على امتداد المنطقة المجاورة وفي العالم البعيد. ولم تقف على التصورات المؤثرة في محيطها وفي غيرها.. وحتى في منتسبيها أيضاً كانت أحزاباً مرت مرور الغيوم دون تاريخ سياسي يذكر أو تجربة سابقة أو خبرة عريقة في آفاق العمل السياسي.

وفي الأصل كانت هذه الأحزاب، التي ربما حملت التسمية تعسفاً، تجول في جزء من الوطن المتباعد الأطراف وليس كله. وخلال شعب لا يفهم طبيعة العمل الحزبي من أساسه، لكنه يعاني الفقر والتخلف والجوع وهي عوامل ظلت أعتى من الأحزاب قوة وفعلاً على أرض الواقع.

وكان هم المواطن الليبي طوال اليوم يقتصر على النضال الدؤوب من أجل الظفر بكسرة خبز من دقيق الشوفان ينتزعها بأظافره من مخازن جنود الحلفاء بكثير من المرارة والمعاناة. كان النضال من أجل الخبز هو «الحزب» الذي جمع الليبيين أكثر من سواه من الأحزاب

كان التعليم في جانب مظلم آخر في وضع متأخر. توقف أيام الحرب. وتعطلت الدراسة. وانقطع الكثيرون عن المدارس بعد عودة الحياة إلى نصابها. وظلت العادات والتقاليد الاجتماعية هي «رأس الحكمة» في حركة المجتمع اليوميةكان أغلبها مقدساً ومرهوب الجانب، هكذا كانت صورة الوطن الليبي في مجمله عقب انعتاقه من رماد نيران الحروب وبقايا المجاعات.

وعلى هذا لم تؤثر هذه الأحزاب في الواقع تأثيراً كبيراً استثناء من بعض الحالات في كل الجموع التي نفر أغلبها من الأحزاب ونشاطاتها. برز هنا كيانان أو حزبان أو جماعتان وسط هذا الزحام أفادا من حركة الناس والتفافهم حولهما. هما: حزب «المؤتمر الوطني» في طرابلس وجمعية «عمر المختار» في بنغازي.

تعاطف المعلمون والمثقفون والطلاب والقادمون من ديار الهجرة والعمال وكثير من الشباب. ولم يكن ثمة وجود نساء على الإطلاق. العادات تنعل نعلها فيما تعرض له نصف المجتمع كان متخفياً وعاطلاً ومنزوياً بين الأركان.

ومع هذا الوجود الملاحظ لهاتين الجماعتين السياسيتين في أكبر مدن ليبيا ظل رجالها يتعاملون فيما بينهم بالتقدير والاحترام المتبادل. ورافق ذلك عدم وجود سعي أو هرولة لكسب مغانم أو مناصب أو انتهاز فرص. لقد كان في الغالب من المستحيلات وربما ظل التعاون أو الالتقاء مع «السلطان» من «الكبائر».

والواقع أن هاتين الجماعتين أيضاً اتفقتا في الرؤية «الواحدة» لوحدة البلاد دون الترحيب بالنظام الفدرالي ونظام الأقاليم، فيما اتجهت الخطب والأشعار ومقالات صحفها لتعزيز هذا الخيار والمطالبة به والانحياز الدائم إليه.

وتقاطعاً واضحاً مع الكيانات السياسية الأخرى وفي وجود «نفوذ القبائل» صار صوت المؤتمر والجمعية ضائعاً في الزحام، ويدعو في بعض المرات للسخرية والهجاء اللاذع. كما نجحا في تكوين فرقة للكشافة وبذل جهود كبيرة في العمل التطوعي والخيري.

وكانا أيضاً أكثر عدداً وعضوية في الانتساب من الجماعات الأخرى. كانا مصدر تنافس مع الآخرين وظلا كذلك مصدر ثقل للجماهير التي وجدت في الخطب واللقاءات وحرارة التصفيق تعويضاً عن حرمان سياسي طال أمده منذ العهدين التركي والإيطالي.

وشيء آخرأنه في فزان المقطوعة عن باقي الوطن في البعيد لم تنشأ أية أحزاب قبيل الاستقلال مثلما هو الحال في الساحل. كانت هناك ظروف أخرى وواقع آخر أشد مرارة. الحزن مع كثير من التمر وأغاني الجبادة والإدارة الفرنسية الغاشمة التي كانت أكثر عسفاً وقسوة من مثيلتها البريطانية. أحاطت تلك الإدارة (فزان) بسور باطنه وظاهره عذاب وتخلف على تخلف. 

حاول الحزب الوطني في طرابلس اقتحام السور بإنشاء فرع له هناك. لكنه فشل. تراجع أمام قوة الجدار وصلادتهكانت الظروف تتهيأ مع الوقت لعدم نجاح الأحزاب في الشمال بالصورة المتوخاة وعلى نحو ضامن للعدالة والديمقراطية وحرية الرأي.. فما بالك في الجنوب البعيد خلف التلال.

كانت ليبيا تقع في الوسط.. في قلب المنطقة. على يمينها مصر وعلى يسارها تونسكانت مصر دولة ملكية ثم تغير وضعها. وكانت تونس أيضاً يشملها حكم البايات.. ملكية أيضاً. ثم تغيرت أحوالهما. الأولى العام 1952 والثانية بعدها بأربع سنوات 1956.

أعلنت الجمهورية في كليهما سواء بسواء كان البلدان تحت الاحتلالين البريطاني والفرنسي ومع ذلك نشطت الأحزاب بصورة قوية فيها وقامت بالعمل السياسي رغم الكثير من المتاعب والمواجهات.

وفي الشام البعيد والعراق كان هناك أيضاً أحزاب ومجموعات وكتل تسعى للسلطة تعمل في العلن وبعضها في الخفاء أحيانا كثيرة (الشيوعيون على سبيل المثال). وكلها ظل يطالب بالحرية والاستقلال والإصلاح. صوت يتردد في الشوارع والساحات بقوة من خلال المظاهرات والمواجهات التي كانت دامية وقاتلة في بعض الأحيان.

هذه الأحزاب والجماعات ستجد صدى لاحقاً لها في ليبيا تأثراً ومحاكاة وتقليداً واضحاً لا لبس فيهفي البداية تم ذلك في مخاض الأربعينيات والصراع الذي شهدته البلاد توطئة للوصول إلى عتبة الاستقلال ثم بعد الاستقلال بفترات قصيرة. وظلت الأحزاب الليبية لقصر التجربة والنظر معا في واقع الأمر تردد الصدى بوضوح وتقلد الصوت القادم على نحو لاغموض فيه. وحدث الخوف والتوجس من انتقال العدوى بطريقة غير سليمة إلينا.

كان للملك إدريس الذي أعلن الاستقلال والذي عاش سنوات هجرته ومنفاه في مصر القريبة اعتباراً من نهاية 1922.. كان له رؤية في وجود الأحزاب أو انتشارها في الأصل. أخذ منها موقفاً لم يكن عدائياً أو مضاداً وإنما موقف ينأى عن الوقوع في شراكها.

لقد عايشها في مصر وعرف رجالها وزعماءها واقترب من نشاطها. وصحفها وحواراتها وجدالاتها وصراعاتها في البرلمان وفوق الأرصفة وفي مقارها بشوارع القاهرة المليئة بالزحام وعلم أيضاً كل يوم بتصفياتها أو حتى بعض أعضائها الذين نكثوا بعهودهم بأسلوب بلغ أقصى درجات العنف عبر تلك الشوارع وحتى أمام قصور العدالة ومقر البرلمان بل وفي داخله أيضا.

كانت رؤيته باختصار شديد لهذا الذي يحدث حزبيا تتحدد في أن الشعوب العربية لم تصل بعد إلى مرحلة من النضج السياسي الكافي والمعرفة الحقيقية التي تؤسس وعياً وإداركاً لمفهوم الأحزاب بالصورة التي تدور في مجتمعات أوروبا وأميركا.

وأن وجودها في هذه الأقطار العربية المتباعدة إلى حد التنافر والتقاطع.. (كل سينشغل بهمومه ولديه ما يكفيه وليس ما يدعو إلى المزيد من الجراح والدمامل).. وجودها هذا عبر المنطقة المتخلفة يعين حركتها المطلوبة نحو التقدم ويزيد من هوة الشفاق والاختلاف وصولا إلى المزيد من الفتن وتدخل الأطراف الخارجية التي لاتتورع عن تحريك تلك الأحزاب واحتضانها إذا لزم الأمر ولو من وراء الستار.

لم يكن الملك عنيفا في رأيه ضد الأحزاب بصورة مباشرة. لكنه كان موقفاً سياسياً هادئاً ويرى بأن الوقت لم يحن بتأسيسها حتى تصل الشعوب إلى مرحلة متقدمة من الوعي والفهم السياسيين الملك كان تحت هذه الظروف رجلاً من جيل خاض هذه الأحداث والحروب والصراعات والتقلبات التي مرت بالعالم والمنطقة وشاهد أدوار الأحزاب في هذه اللعبة.

لعبة السياسة المملة على مدار الساعة.. والزمن. ورأى الكثيرون في هذا الموقف السياسي الهاديء من الرزانة والحكمة وسط عواصف ورياح المنطقة التي لا تهدأ على الإطلاق.

يتبع في الجزء التالي

______________

 المصدر: صفحات التواصل الاجتماعي نقلا عن بوابة الوسط

مقالات مشابهة