عبد الله الكبير
يحرص دعاة الديمقراطية وأنصارها على نبذ كافة مظاهر التسلط والاستبداد بالرأي والتفرد باتخاذ القرارات، وتبرز مواقفهم الحازمة في مواجهة أي توجه تظهر عليه ملامح السلطوية.
وإزاء حالة التأرجح والخلاف بين اتجاهين متعارضين أو في مواقف مصيرية، لا يقررون نيابة عن الشعب، ولا يزعمون أن ما يرونه هو بالضرورة موقف الغالبية، ولا يجرؤون على اتخاذ القرار بناءا على تصوراتهم وهواهم، بل يقررون من دون تردد العودة للشعب لحسم الأمر عبر الاستفتاء.
مثل أي نظام، تتعرض الديمقراطية إلى محن وأزمات، وهي بمثابة المرض للكائن الحي، وعلاجها هو المزيد من الديمقراطية، أي الاحتكام للشعب عبر آليات معروفة، أما الشروع في قتلها، فيحتاج إلى عصبة من ضباط الجيش ينفذون انقلابا، ثم يتلو كبيرهم البيان الأول.
وهنا يحدد مستوى وعي الشعب إنقاذ الديمقراطية وبث الحياة فيها من جديد، بالوقوف صفا واحدا والتصدي للانقلابيين، أو التأييد إلى حد الرقص على جثث الضحايا، وتسلّم الأيادي.
التاريخ المعاصر يقدم أمثلة عديدة لقادة يؤمنون بالديمقراطية وينبذون التسلط، احتكموا لشعوبهم، رافضين الاستمرار في سدة الحكم أو اتخاذ قرار مصيري حول مستقبل البلاد.
فالجنرال ديغول رئيس فرنسا بعد التحرر من الاحتلال الألماني، لم تغره زعامته وإنجازاته، وفضل الاحتكام للشعب الفرنسي ليقرر استمراره أم ذهابه. اختار الفرنسيون دولة المؤسسات لا الزعامات. ورضخ ديجول للقرار وغادر السلطة.
انقسم الأسكتلنديون حول الاستمرار ضمن المملكة المتحدة أو الانفصال، وكان دعاة الانفصال ينشطون في كل الأوقات، وعن يقين يصرحون بأن الشعب مع الانفصال، وتعززت ثقتهم بسلامة خيارهم عقب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ولم يحسم الأمر إلا عبر استفتاء اختارت فيه الأغلبية الاستمرار في الاتحاد مع المملكة.
استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كان أيضا لحسم التباين بين دعاة الخروج ودعاء الاستمرار، وقد غامر رئيس الحكومة كاميرون بمستقبله السياسي حين قرر الذهاب إلى الاستفتاء. فيما عرف بـ”بريكست”، وكان شبه واثق من انتصاره على دعاة الخروج، وكانت النتيجة مفاجأة للكثيرين.
ولكن المهم هو انتصار الديمقراطية باللجوء إلى إحدى آلياتها، وعدم التردد في إرجاع الأمر إلى أهله، الذين سيتحملون في النهاية نتائج خياراتهم.
وإزاء إحساس السلوفاك بالغبن من هيمنة التشيك، قرر قادتهم استفتاء الشعب على الانفصال أو الاستمرار في الاتحاد، وقررت الأغلبية الانفصال والاستقلال، وهما في تعايش وتعاون كدولتين متجاورتين.
وإذا اقتضت الظروف العودة لحالة الاتحاد، سيتم ذلك بشكل ديمقراطي عبر استفتاء جديد.
ما من قوة قادرة على فرض إملاءاتها على الشعوب إذا كانت حرة وتملك زمام أمرها، وليست تحت سيطرة عصبة يسهل التحكم فيها وقياتدها وفقا لرغبة القوى الكبرى، فالديمقراطية هي الضامن الرئيس لاستقلال القرار الوطني.
أما ادعاء الإيمان بالديمقراطية، ورفعها كشعار، وادعاء النضال من أجلها، من دون التمسك بها بالفعل والسلوك والموقف، فسوف يسقط أمام اختبار السلطة، وينكشف الوجه القبيح للرغبة المحمومة في السلطة، ولو تطلب الأمر التحالف مع العسكر، ألد أعداء الديمقراطية.
وهذه إحدى معضلات الربيع العربي، ومن أبرز أسباب انتكاسته، فالنخب الشبقة للحكم لم تعمل يوما لتدريب الشعوب على الممارسة الديمقراطية، وترسيخها عبر إعمال آلياتها لمعالجة العقبات، وإنارة الطريق أمام الأجيال لتخليصها من الإرث الاستبدادي الطويل، وإنما قفزت على الفور إلى السلطة، ولم تقبل بالاحتكام لشروط الديمقراطية، بل لم تتردد في الانقلاب عليها من أجل الاستمرار في الحكم.
__________________
المصدر: صفحات التواصل الاجتماعي