الإطاحة بالنظام الاستبدادي مسألة، والحكم مسألة مختلفة.

غالبًا ما يواجه القادة الانتقاليون ضغوطًا لتنظيف البيت الداخلي تمامًا والبدء من جديد، لكن يتعين عليهم أيضًا أن يقاوموا. بيد أن الحكم يتطلب وجهات نظر وموظفين ومهارات مختلفة تمامًا عن تلك اللازمة للمعارضة.

بمجرد أن تتولى المعارضة السلطة، فإن الخطوة الأكثر أهمية هي: إنهاء العنف واستعادة النظام مع التأكد من أن جميع قوات الأمن تلتزم بالقانون.

يتعين على الإصلاحيين إخضاع جميع الأجهزة الأمنية للسيطرة المدنية الديمقراطية في أقرب وقت ممكن، وفي الوقت ذاته الاعتراف بالأدوار المشروعة لهذه الأجهزة واحترامها، وتزويدهم بالموارد الكافية، وحماية قادتهم من الانتقام الشامل على ممارسات القمع الماضية.

لتحقيق ذلك، يجب فصل الشرطة والاستخبارات الداخلية عن القوات المسلحة. وأن يغرس القادة توجهات جديدة داخل الشرطة تجاه عامة السكان من خلال التأكيد على مسؤولية قوات الأمن عن حماية المدنيين بدلًا من قمعهم، دون تقليل قدرة القوات على تفكيك الجماعات العنيفة.

وينبغي على الإصلاحيين إقالة كبار الضباط المسؤولين عن التعذيب والقمع الوحشي، ووضع كبار القادة العسكريين تحت السلطة المباشرة لوزراء الدفاع المدنيين، مع الإصرار على امتناع الضباط العسكريين الذين لا يزالون في الخدمة تمامًا عن المشاركة السياسية.

الحديث عن هذه الإجراءات سهل، لكن تطبيقها صعب، ويتطلب إصدار أحكام سياسية قوية وشجاعة.

في بعض الحالات، يمكن معالجة هذه المسائل مبكرًا، وفي حالات أخرى، تستغرق وقتًا طويلًا. لكن يجب أن تُمنَح لها الأولوية القصوى منذ البداية، مع اليقظة المستمرة.

يجب أن يكون كبار المسؤولين المدنيين المكلفين بالإشراف على قوات الأمن على دراية بالمسائل الأمنية، وأن يحترموا أقرانهم في الجيش والشرطة وأجهزة الاستخبارات.

قد يكون ذلك صعبًا، حيث أن الحركات الديمقراطية غالبا ما تصطدم بعنف مع الأجهزة الأمنية، ولا يزال هناك انعدام ثقة متبادل، ولا يوجد احترام كبير للخبرة المدنية في الشؤون العسكرية.

كما يتعين على قادة المرحلة الانتقالية الموازنة بين الرغبة في مساءلة النظام السابق والحاجة إلى الحفاظ على انضباط قوات الأمن ومعنوياتهم. يتعين عليهم تعزيز القبول السلمي المتبادل بين الأعداء الألداء السابقين، وهذا ليس بالأمر السهل. لكن عندها فقط ستتعاون قوات الأمن تعاونًا تامًا مع المواطنين الذين كانوا يعتبرونهم في السابق قوة هدامة.

في قلب التحول الديمقراطي الفاشل في مصر، يكمن استمرار التفوق الذي يتمتع به الجيش المصري على أي مؤسسة منتخبة. وفي بلدان متنوعة مثل جامبيا وميانمار وتايلاند، يظل غياب السلطة المدنية على قوات الأمن أهم عقبة أمام التحول الديمقراطي الناجح.

كيفية التغلب على التحدي الدستوري

بسط السيطرة المدنية على الجيش يمكن أن يساعد قادة المرحلة الانتقالية على بث روح الثقة في الداخل واكتساب الشرعية على الساحة الدولية. الثمرة ذاتها يمكن جنيها من تطوير الإجراءات الانتخابية التي تعكس إرادة الأغلبية، وتُطَمْئِن الذين يخسرون الانتخابات بأن مخاوفهم الأساسية ستُحتَرَم بموجب حكم القانون.

في معظم البلدان، تعد صياغة دستور جديد أمرًا ضروريًا، وإن كانت إندونيسيا احتفظت بدستور عام 1945 مع تعديل بعض الأحكام، ولم تعتمد بولندا دستورًا جديدًا كاملاً إلا بعد عدة سنوات من انتهاء الشيوعية.

يجب إشراك طيف واسع في صياغةِ دستورٍ يعالج الشواغل الرئيسية للقطاعات الرئيسية، حتى عندما يعني ذلك قبول الإجراءات التي تقيد الديمقراطية، على الأقل مؤقتًا. تأمّل النظم الانتخابية المتحيزة التي حافظت عليها شيلي لمدة 25 سنة بعد نهاية نظام بينوشيه؛ لاسترضاء الجماعات العسكرية والمحافظة، وقد منح منصب نائب الرئيس لزعيم المعارضة في جنوب أفريقيا.

كما قد يتطلب بناء دعم واسع للدستور الجديد دمج التطلعات المُحَلِّقة في آفاق أسمى، وهذه تحتاج إلى تقليص لاحق أو تنفيذها تدريجيًا، مثل: الأحكام الاجتماعيةالاقتصادية الطموحة التي تضمنها دستور البرازيل عام 1988، ودعت إلى زيادة حقوق العمل، والإصلاح الزراعي، والرعاية الصحية الشاملة.

على الرغم من أن الصياغة الدقيقة للدستور مهمة، إلا أن ما يهم أكثر قد يكون هو: كيف ومتى يوضع الدستور ومن يتبناه.

يجب على واضعي الدستور أن يحظوا بقبول واسع والتأكد من أن تعديله ليس سهلًا بشكل مبالغ فيه ولا مستحيلًا عندما تستدعي الظروف ذلك.

يقول ثابو مبيكي، الذي رافق الزعيم نيلسون مانديلا في الكفاح ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا: «كان من المهم أن يكون الدستور مملوكًا لشعب جنوب أفريقيا ككل، وبالتالي أن تكون عملية صياغة الدستور حاضنة للجميع».

يجب أن تشمل هذه العملية مؤيدي النظام السابق، الذين سيحتاجون إلى ضمانات بأن حقوقهم ستُحتَرَم في ظل سيادة القانون. أما وضع كافة المسؤولين السابقين في سلة واحدة فتصرُّف غير حكيم. يجب على القادة الجدد بدلًا من ذلك تدشين عمليات قانونية شفافة للبحث عن الحقيقة بشأن الانتهاكات الماضية، وربما تعويض الضحايا، وتقديم الجناة الرئيسيين إلى العدالة عندما يكون ذلك ممكنًا.

على الرغم من أن المصالحة الكاملة قد تكون مستحيلة، فإن التسامح المتبادل هو هدف أساسي. والحلول الوسط، مرة أخرى، ستظل مسألة حيوية.

التوازن بين التوقعات والضروريات

مع انتقال التحولات الديمقراطية، يلوم الجمهور في كثير من الأحيان القادة الديمقراطيين وأحيانًا الديمقراطية ذاتهاعلى الفشل في تلبية التوقعات الاقتصادية أو السياسية. وعادةً ما ترث السلطات الجديدة أنماطًا عميقة من الفساد وعدم الكفاءة.

وقد تتفتت الحركات التي توحدت في معارضة النظام الاستبدادي. وأحيانًا تتحلل منظمات المجتمع المدني التي ساهمت في حركات المعارضة التي تناهض الاستبداد أو تتبنى مواقف مُعَطِّلَة، خاصة بعد أن يدخل العديد من قادتها الأكثر موهبة في السياسة الحكومية أو الحزبية.

بناء علاقات بَنَّاءة بين الحكومة الجديدة والمعارضة الجديدة يبقى تحديًا مستمرًا.

صحيح أن التنافس بين الحكومة ومعارضتها مفيد للديمقراطية، لكن حين تعوق المعارضة سير الحكومة تمامًا، أو تقمع الحكومة كل الانتقادات؛ يمكن أن يؤدي ذلك إلى تدمير التجربة بسرعة. كما يمكن أن يساعد القضاء المستقل، الذي يحاسب السلطة التنفيذية دون عرقلة الكثير من المبادرات الجديدة، إلى جانب وسائل الإعلام الحرة المسؤولة، في ترسيخ ديمقراطية مستدامة.

 تلعب الأحزاب السياسية أيضًا دورًا مهمًا، طالما أنها لا تصبح مجرد أدوات في أيدي أفراد معينين وحاشيتهم.

إذ توفر الأحزاب الديمقراطية المنظمة جيدًا والمعتمدة على برامج أفضل طريقة لإشراك المواطنين من جميع الطبقات، وتعبئة الضغط الفعّال، وتنظيم الدعم المستدام للسياسات، وتوجيه المطالب العامة إلى القنوات المناسبة، وتحديد القادة المهرة وتشجيعهم.

يتطلب تطوير الأحزاب القوية اهتمامًا دقيقًا بالإجراءات والضمانات المتعلقة باختيار المرشحين وتمويل الحملات والوصول إلى وسائل الإعلام. وإلا فإن التحديات المستمرة للحكم الديمقراطي في غانا وإندونيسيا والفلبين ترجع جزئيًا إلى الأحزاب السياسية الضعيفة.

وعلى الرغم من أن التحولات عادة ما تكون ناجمة عن أسباب سياسية وليست اقتصادية، فإن التحديات الاقتصادية سرعان ما تصبح أولوية للحكومات الجديدة.

قد يتعارض الحد من الفقر والبطالة مع الإصلاحات الاقتصادية اللازمة لتعزيز النمو طويل الأجل واستقرار الاقتصاد الكلي. لذلك يجب على الحكومة قبل تآكل الدعم الشعبي القوي أن تنفذ تدابير اجتماعية تخفف من المصاعب التي تتحملها أضعف الفئات، لكنها تحتاج في الوقت ذاته إلى ممارسة المسؤولية المالية.

عالم متغير.. التدمير أسهل من إعادة البناء

يقول المصلح البرازيلي كاردوسو، الذي أصبح رئيسًا: «المشكلة هي أنه من السهل تعبئة الجماهير للتدمير، لكن من الصعب إعادة البناء». والتقنيات الحديثة لا تكفي وحدها لاتخاذ الخطوة التالية إلى الأمام.

هناك حاجة إلى المؤسسات، إلى جانب القدرة على فهم القيادة ومعالجتها وممارستها مع مرور الوقت. وهو ما يؤكده رئيس غانا جون كوفور حين قال: «لا يمكن للجماهير بناء المؤسسات. لهذا السبب القيادة مهمة».

في السنوات المقبلة، ستضغط الحركات الاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني على الأنظمة الاستبدادية بوتيرة وفعالية أكبر مما كانت عليه في الماضي، بدعمٍ من الشبكات الرقمية. ومع ذلك، لا يمكن لهذه الحركات أن تحل محل الأحزاب والقادة السياسيين.

يجب أن تقوم هذه الجهات الفاعلة في نهاية المطاف ببناء المؤسسات، وتشكيل تحالفات انتخابية وحاكمة، وكسب الدعم العام، وإعداد وتنفيذ السياسات، وانتزاع التضحيات من أجل الصالح العام، وإلهام الناس للاعتقاد بأن الديمقراطية ممكنة، إلى جانب الحكم بفعالية.

يمكن تعبئة الشباب المتعلمين اليوم أكثر من أي وقت مضى للتظاهر في الساحات العامة من أجل الديمقراطية، لا سيما عندما تكون فرص العمل نادرة. ومع ذلك، ثمة تحدٍ يتمثل في إشراكهم باستمرار في بناء أحزاب سياسية دائمة ومؤسسات أخرى.

والديمقراطية لا تخرج مباشرة أو بالضرورة من الحشود في الشارع. بل يتطلب بناء الديمقراطيات رؤية وتفاوضًا وحلولًا وسط وعملًا جادًا ومثابرة ومهارة وقيادة، وأيضًا بعض الحظ.

على الرغم من كل العقبات، إلا أن التحوُّلات الديمقراطية نجحت في الماضي. وتطبيق الدروس المستفادة من هذه التجارب الناجحة يمكن أن يساعد في إنهاء أنظمة الاستبداد وترسيخ أقدام ديمقراطيات مستدامة.

______________

المصدر: دراسة بعنوان كيف تمنع الانقلابات وكيف تواجهها إذا وقعت؟نشرت بموقع ساسة بوست

مقالات مشابهة