سالم الكبتي

بقى الأخوان الثلاثة في بنغازي ثلاث سنوات إلى يوليو 1952. وذكر لي السيد عز الدين بنفسه في العام 2008 حيث كان يقيم في أبوظبي ويوالي تجهيز مذكراته تلك الأيام أنه تم جمع الشباب في بنغازي ليس على أساس (تنظيم سياسي) وإنما (على طريقة ومنهج تربوي إصلاحي ).

هذا النشاط نجح تماما نتيجة للفراغ الحاصل إلى درجة أن جمعية عمر المختار تحسست من ذلك لأن أغلب شبابها وهم كثر بدأوا في التحلق حول أولئك اللاجئين الثلاثة.. وهذه طبيعة الأشياء!.

الذي حصل على وجه العموم أن جمعية عمر المختار تحسست بالفعل من استقطاب الإخوان الثلاثة لمجموعات كبيرة من شبابها الذين تحولوا منها ومن فرقتها الكشفية إلى مجموعة الإخوان بسرعة واضحة للنظر.

ربما هي الغيرة السياسية. ربما هي شيء آخر، وظل موقف الجمعية في الواقع ضد هذا التنظيم الجديد الذي حل ببنغازي مع انضمام مزيد الشباب وتكوين (الأسر) منهم وفقاً لنشاط الإخوان المعروف في تنظيمه للأفراد بشكل عام.

وهذا النفور الذي حصل لم يصاحبه أي عنف أو مصادمات بين الطرفين، فقد ظل الجميع يحتفظون بعلاقات ودية غاية في الانسجام، الأمر الذي يناقض ذلك النفورعلى أرض الواقع. كان الشباب الذي تحول من الجمعية لديه أصدقاء، بل وأقارب وأخوة بقوا على حالهم في دار «ابن لقمان» (الجمعية)

وظل المصريون، عزالدين إبراهيم وجلال سعده ومحمود الشربيني، محل تقدير من قيادات الجمعية ويحضرون الكثير من المناسبات الاجتماعية ويتزاورون على نطاق واسع في كل الظروف، وغدا الأمر يعتبر لدى الأطراف الأخرى المناقضة للجمعية بأن الجمعية نفسها تشبه في نظامها تنظيمات الإخوان، وذلك لم يكن سليماً وهو بعيدٌ عن التقييم الصحيح.

ويكفي التوكيد على أن مجموعات من الجمعية كانت بصريح العبارة تناقض ولا تتفق مع التنظيم الطاريء على بنغازي وما حولها. إن الكثير من الشباب في المدينة استقطبهم هؤلاء الثلاثة القادمون عبر الحدود، الذين ظلوا في ضيافة الأمير وحمايته لا يمسهم أحد بسوء. ومع مرور الأيام ازداد هذا الاستقطاب، فشمل كل المستويات التي تتلقى التعليم في كل مراحله، خاصة الثانوية أو مرحلة الثقافة، ثم المواصلة في الجامعات خارج ليبيا

كما ضم الاستقطاب عديد الأفراد الذين بهرهم واستهواهم النشاط الذي رأوا فيه عوالم جديدة، كالرحلات إلى الضواحي في قاريونس وقنفودة وسيدي خليفة، وعروق الربع على شط البحر شرق المدينة وغيرها، وممارسة الرياضة الصباحية والخدمة التطوعية والأنشطة الثقافية وفقاً للأسر في تلك الرحلات المستمرة، وسادت الأجواء المصاحبة لكل ذلك روح الجماعة والتضحية من أجل الآخرين وأعطى أغلب هؤلاء المثل في الاستقامة وحضور الصلاة في المساجد.

وكان في كل ذلك تأسرهم خطب ومواعظ عزالدين إبراهيم المشهورة في جامع الدراوي وسط المدينة، إضافة إلى قيام الثلاثة بفتح دروس في التوعية والإرشاد والثقافة الإسلامية واللغتين العربية والإنجليزية بعد أن خصصت لهم شقة يقطنون بها في ميدان البلدية أعلى مقهى العرودي.

ولوحظ في هذا المقام بأن من بين الحاضرين المداومين في الغالب على هذه الدروس واللقاءات المستر (فنلي)، الذي يدير المباحث في بنغازي والمتزوج من سيدة يهودية من فلسطين. وهذا الحرص منه لابد أنه يندرج في السياق الأمني ومتابعة ما يدور بعين مباشرة وقريبة من الحدث في ميدان البلدية.

والحقيقة أن هذا التطوع والمبادرة بالنهوض بالتعليم لدى سكان المدينة، شباباً وكباراً، شهدته بنغازي قبلئذٍ من خلال الفصول الليلية التي كان وراءها السيد محمد العالم حويو ومحمد إبراهيم الفلاح ومحمود مبارك الشريف برعاية لم تكن بعيدة عن جمعية عمر المختار، وقد استمر هذا التطوع المليء بالحماس في المدارس الليلية في بنغازي وعديد المناطق المجاورة (فرزوغة وأجدابيا والأبيار)..

استمر النشاط بجهود منقطعة النظير، والوطنية من المعلمين الليبيين والمثقفين وطلبة الجامعة الليبية منذ تأسيسها حتى العام 1963 عندما ضمت الحكومة الليبية ذلك التعليم التطوعي وجعلته رسمياً له إدارة تمنح المرتبات.

وفي جانب يبين اهتمام الثلاثة بذلك أيضاً: في أواخر العام 1951 حين شرعت شركة عبد الله عابد السنوسي في قفل حساباتها الختامية، رأت أن ترصد من زكاتها مبلغاً محترماً ومجزياً باسم التعليم، حيث اقتضت الضرورة ذلك، فهناك الكثير من التلاميذ الفقراء يصلون إلى مرحلة معينة من الدراسة ثم ينقطعون عنها لظروف المعيشة القاسية، واضطرارهم إلى العمل.

وهنا تكونت لجنة صار اسمها (لجنة التعليم الشعبي) برئاسة عبد الله عابد وعضوية الشيخ خليل الكوافي والسنوسي الأشهب والأستاذين إبراهيم المهدوي ومحمد السعداوية، فيما تولى سكرتارية اللجنة محمود الشربيني أحد الإخوان الثلاثة الذي كان يعمل في الوقت ذاته محاسباً بالشركة.

وبدأت اللجنة عملها في العام 1952 بفتح مدرسة ليلية ثانوية يدرس بها المنهج الثانوي العادي، ويقوم على تعليمه أساتذة من البعثة المصرية التي كانت قد وصلت بنغازي العام 1948 كما فتحت اللجنة معهداً تجارياً لتعليم العلوم التجارية، وعندما سافر الشربيني ورفيقه العام 1954 ضمت اللجنة الأستاذ مصطفى بن عامر رئيس جمعية عمر المختار وأصبح نائباً لرئيسها.

والواقع مثال لأنشطة هؤلاء الثلاثة الدائبة من خلال التعليم والدروس قام عزالدين إبراهيم ومحمود الشربيني مع متطوعين من تلاميذهما الذين احتواهم التنظيم بالتدريس لمدة عام واحد، وفي فترة لاحقة ضمت المدرسة إلى الإدارة الحكومية الرسمية، وأوفد بعض طلبتها لاستكمال دراسة مرحلتهم الثانوية في حلوان بمصر.

كما قامت هذه اللجنة الشعبية التي نشط فيها هؤلاء الإخوان بتقديم مساعدات مالية شهرية عن طريق التبرع للطلبة الفقراء وإكساء العديد منهم، ومدت يد المعونة للطلبة الذين طردوا في العام الدراسي 1951 – 1952 من المدرسة الثانوية الرسمية في بنغازي بسبب نشاطهم السياسي ومشاركتهم في التظاهر والارتباط أو التعاطف مع جمعية عمر المختار التي كانت أغلقت في يوليو 1951 وسجن مجموعة من رموزها الكبار.

فأعدت المدرسة لهم دروساً خصوصية ليلية في أحد بيوت عائلة بالروين في الزقاق الذي يحمل اسمها، المتفرع من سوق بوغولة حتى لا يحرموا من الامتحان ونجحوا جميعاً. ولعل الثلاثة في ذات الوقت ظلوا يهتمون بالشخصيات البارزة وأصحاب المواهب من هؤلاء الشباب الذين اختفى فراغهم الذي يشعرون به حتى من خلال نشاطهم السابق في جمعية عمر المختار. لقد تحمس أغلبهم لهذه الأفكار الجديدة ووجدوا فيها تعبيراً عما تحتفظ به نفوسهم، ورداً على مظاهر الفساد الأخلاقي والتربوي الذي أعقب فترة الاحتلال الإيطالي بكل مافيها من مساويء.

ذكر لي السيد عزالدين إبراهيم ضمن أحاديثه أيضاً في أبوظبي العام 2008، كما ذكرت في الحلقة الماضية، أن: «الغرض الحقيقي كان هو النهوض بهؤلاء الشباب وربطهم بالإسلام وقيمه ومنهجه بالدرجة الأولى، وإبعادهم عن هذه المآثر والسلوكيات المتوارثة، وازداد الأمر وقوي بتكاتف الجهود لاحقاً بين الجميع»، كما ذكر لي أن «الهدف الثاني هو النأي بأولئك الشباب الطيبين عن المهاترات والعصبيات، والدعوة إلى الخير والصلاة وتوجيههم الدائم لأدائها جماعة في جامع الدراوي في أوقات صلاة الصبح وأيام الجمعة، حيث كان يقوم السيد عزالدين بالخطابة والإمامة».

ثم أكد القول لي تعزيزاً لما ذكرته في الأسطر التي مضت أن الاهتمام بالتعليم وإلقاء الدروس ومساعدتهم في المستويات كافة من أعلى مستوى لطالب ذكي إلى أدنى مستوى لطالب بسيط أو عامل متواضع في محطة الكهرباء أو في أحد المقاهي. وأكد أيضاً أن بادرتهم لم تكن من أجل غرض سياسي أو مناهضة الدولة أو الترصد للتنظيمات الأخرى. وأشار إلى أنهم، أي الثلاثة، كانوا ينتهجون مع الشباب مبدأ الوسطية والالتزام بالدين والحكمة وسط ظروف كما قال تشوه الإسلام.. الدين؛ لأنه شرع الله، والحكمة لأنها العقل، واستشهد بالآية الكريمة «ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً».

كانت الأنشطة علانية وعلى مسمع ومرأى من السلطات، ولم يكن هناك مقر ثابت أو معروف للنشاط الذي استرعى الانتباه، وظلت تراقبه السلطات أيضاً من بعيد، وكان بعض رجاله يحذرون الشباب على مستوى خاص من الاستمرار في ذلك النشاط حرصاً على مستقبلهم، كما كانوا يرددون من خلال النصح والتوجيه، وفي جانب موازٍ للأحداث المتلاحقة حاولت الجهات الأمنية المصرية مطاردة الثلاثة في بنغازي.

ظلت تتعقبهم وجندت أحد عملائها المحليين في المدينة لاغتيالهم ولم ينجح في ذلك، فقد ألقي القبض عليه مباشرة وحفظت القضية في أدراج التاريخ، وفي القاهرة البعيدة رداً من حكومتها على إيواء الثلاثة ارتهنت لديها اثنين من تجار بنغازي هما بشير لنقي وعبد ربه الغناي، فترة من الوقت في مقابل أن تسلم حكومة برقة أولئك الثلاثة إليها. ورفض الأمير والحكومة ذلك تماماً، ونوقش الأمر على مدى أيام في اجتماعات المؤتمر الوطني البرقاوي، الذي لم يستجب أيضاً لتلك المساومة، وظلت المنطقة في عمومها تغلي مثل مرجل فوق النيران بلا توقف..

وفي سياق المجادلة والأخذ والرد حول تسليم الإخوان الثلاثة إلى مصر التي ظلت تضغط باتجاه ذلك، بدءاً من الملك فاروق إلى رجال السراي، إلى الحكومة والبوليس السياسي، التقى دي كاندول، المعتمد البريطاني في برقة، الأمير إدريس عدة مرات وطلب منه الرضا بالتسليم وإنهاء مرحلة العلاقات التي ازدادت سوءاً مع مصر وإعادتها إلى حالتها الطبيعية السابقة. ظل الأمير إدريس على موقفه من أن الشهامة والنجدة العربية تحتم حماية من يستجير بك ويلجأ إليك فلا تخذله أو تقطع به السبيلوأكد أن هؤلاء الثلاثة ضيوف عليه في قصره وفي إمارته ولا يستطيع أحد أن يمسهم بسوء.

أشار هنا دي كاندول إلى أنه سيقبض عليهم إذا سنحت له فرصة خروجهم من قصر المنار ويسلمهم بدوره إلى السلطات المصرية التي كانت تتابع معه الموضوع من مبتدئه إلى خبره. غضب الأمير ورد محتداً بأن برقة كلها قصره، وهم في حمايته داخله وخارجه على شتى الصور. وعلى هذا لم تنجح محاولات التسليم ومحاولات الاغتيال ومرت الأزمة السياسية التي شهدتها الإمارة الناشئة بسلام كبير.

موقف تاريخي لاشك أنه يحسب لصالح الأمير إدريس وحكومته ولم يفرط في الإساءة إلى القوانين والتشريعات والمباديء الإنسانية المعروفة والقاضية بعدم جواز تسليم اللاجئين السياسيين. كان ذلك خطوة مبكرة في البلاد تحترم حقوق الإنسان وتحميها وربما فرط فيها في مراحل لاحقة الكثير من الزعماء الذين غلبوا المصالح على الحقوق والانتصار لها.

كانت البلاد في تلك الأعوام تسير في الطريق نحو استقلالها، فيما أخذت المنطقة عموماً تشهد حراكاً وانفجاراً ولهيباً ظل يستعر ولا ينطفيء. العام 1951 نشط القوميون في تصعيد أعمال العنف رداً على نكبة فلسطين.

اغتيل رياض الصلح رئيس وزراء لبنان في عمان، وبعده بأيام قليلة اغتيل مضيفه عبد الله بن الحسين الأول ملك الأردن، على أعتاب المسجد الأقصى، وارتفعت الهتافات والصرخات في الشوارع والساحات وعبر المظاهرات والمصادمات مع قوات الأمن في العواصم، وفتحت مخافر التوقيف لاعتقال الكثيرين من الشباب وبدأت المنطقة تشهد دخول العسكريين على خط السلطة.. حسني الزعيم ثم سامي الحناوي وبعدهما أديب الشيشكلي.

أيام جديدة وصراعات واغتيالات وإغلاق للصحف والأحزاب ووعود لا تنقطع بتحرير فلسطين. ولم تكن اللعبة الدولية من قبل دوائر المخابرات البريطانية والأميركية والتنسيق مع بعض سلطات القرار العربية.. لم تكن بعيدة عما يحدث من كوارث، وقد أشارت العديد من الوثائق والمصادر التي أفرج عنها في فترات لاحقة إلى ذلك بصريح العبارة وبوضوح لا مجاملة فيه.

هذا مما سمح بالإفراج عنه من تلك المصادر والسماح بالاطلاع عليه ومازال الكثير من الخفايا والخبايا الذي قد يخرج إلى العلن بعد أجيال قادمة! وهذه التيارات الفكرية والسياسية تنوعت بين اليمين واليسار والوسط والتطرف، وشكلت واقعاً جديداً في أرض الواقع الذي يعتريه التخلف والجهل، وبعد أعوام ستخسر هذه التيارات مواقعها وستتبدل الأمور مع مرور الزمن وتظل مجرد أطياف حلم باهت وبعيد. لقد خسرت أغلب هذه التيارات تلك المواقع لأنها لم تأتِ بجديد ولم تطور نفسها حتى وإن حققت بعض النجاحات.

لكن التقاطع والتخاصم والتباغض وروح المؤامرة وازدياد الشكوك سيظل هو الطاغي والمؤثر في الحياة السياسية العربية المعاصرة، وسينعكس على العلاقات بين الشعوب وسيزيد التخلف مع الكثير من الحزن والندم في غير محله. ستخسر الأمة ويخسر الأفراد ويموت الحماس ولم يعد ثمة ما يجدي أو يقنع الجماهير من الخطب والتصريحات وأصوات الإذاعات ومعارك الثأر والأمجاد من أجل القائد الضرورة والحزب القائد والمبادئ الخالدة. كلها سيكنسها الليل الضرير على رأي البياتي!

وفي العام 1951 هناك في القدس بعد جروح النكبة بثلاثة أعوام والبكاء والانتقال إلى المخيمات ومغادرة الديار، يؤسس الشيخ تقي الدين النبهاني خريج الأزهر والقاضي بالمحكمة الشرعية «حزب التحرير الإسلامي»، ويختلف في دعوته ومبادئه عن حركة «الإخوان المسلمين» رغم أنه يعتبر خارجاً من عباءتها. لقد نشأت أغلب هذه التيارات والحركات قرب إعلان استقلالنا.

ووجدت هوى لدينا واستلبت العقول، إضافة إلى مشروع «الإخوان» وصلت دعوة «حزب التحرير» مبكراً بعد انطلاقها في القدس والأردن إلينا مباشرة في الأعوام الأولى من الخمسينيات الماضية بواسطة الشيخ حسن سلطان عبد اللطيف (أبو رمضان) الفلسطيني القادم للتدريس في مدرسة العويلية الزراعية، ثم في معهد المعلمين في بنغازي، ثم مدرسة البركة الإعدادية.

ونشط بوضوح في أرجاء المدينة وألقى عديد المحاضرات والخطب ونشر عديد المقالات في صحف بنغازي المحلية. كان رجلاً يرتدي بدلة إفرنجية وعليها جبة شيوخ الأزهر وعمامة مثل عمائم رجال الدين في الشام. وكان ذلك منظراً غير مألوف في البداية.

وقد نجح الشيخ حسن في استقطاب عديد الشباب في بنغازي إلى الدعوة التنظيمية الجديدة وبعضهم ترك تنظيم «الإخوان»، وانضم إليه بسرعة كبيرة وظل العمل مستمراً، وانتشر من بنغازي إلى مناطق أخرى في طرابلس والجبل الغربي وأجدابيا وعديد المناطق، وبعد سبتمبر 1969 اعتبر وجود الشيخ حسن عبد اللطيف غير مرغوب فيه، فتم ترحيله إلى خارج ليبيا، لكن دعوته استمرت بانضمام العديدين الذين أُلقي القبض عليهم لاحقاً بعد فترة العهد الملكي، وبعضهم نالته التصفية الجسدية من النظام داخل السجن وخارجه.

دفع الشباب ثمناً غالياً في سبيل دعوته والالتزام الكامل بها. وهنا نلاحظ أنه لم يكن ثمة تحسس وقع أو غيرة حدثت بناء على وجود التنظيم الإسلامي الجديد بعد تنظيم «الإخوان».. لم يقع أي تدافع بينهما أو تخاصم ملحوظ في نظري، بل اعتبرا وجود كل منهما مسانداً ومكملاً للآخر. فالرسالة واحدة وإن اختلفت التفاصيل والمشاهد. كما بات يلاحظ أن سلطات العهد الملكي تسامحت كثيراً مع هذين التنظيمين ولم تمسهما في الغالب بسوء.

كان الأمن يراقب ويعد التقارير المعتادة وينصح ويحذر. وكان المنتمون الناشطون يخطبون في المساجد أيام الجمعة وفي الدروس بعد الصلاة ويتحركون في الجامعة بعد تغلغلهم فيها عبر مرحلة لاحقة من التأسيس والإعداد. لعل النظام الملكي كان يرى في ذلك شيئاً أهون وأخف ضرراً من التيارات الأخرى التي نالها الاعتقال والتحقيق والمحاكمة عدة مرات.

ومع ذلك كان النظام أيضاً يدرك أن هذه التنظيمات في الأصل لا تملك تراخيص أو موافقات بالعمل السياسي الحزبي، لكنه تسامح كثيراً ولم يضغط باتجاه التصعيد والتضييق. وظل الرصد الأمني موجوداً، فالخطوات معروفة والأشخاص أيضاً معروفون، وقد حدث الكثير من التشويش والأخطاء في تلك الأعوام المبكرة لدى الجهات الأمنية الليبية في تحديد وتصنيف هؤلاء.. فمرة يصنفون بأنهم إخوان، وفي اللحظة ذاتها يعتبر بعضهم في تقارير أخرى بعثيين أو يساريين.

وهذا دليل على أن تلك الجهات فوجئت بهذا النشاط الذي لم يسبق التعامل معه بالكيفية الأمنية المهنية. واعتباره طارئاً على الواقع الليبي بعكس التعامل والرصد الذي تم في مراحل سابقة مع أنشطة ورجال جمعية «عمر المختار» في بنغازي وحزب «المؤتمر الوطني» في طرابلس وغيرهما من كيانات على سبيل المثال لكن مع مرور الوقت خبرت تلك الأجهزة الظروف ووردت إليها المعلومات من جهات مجاورة واكتسبت تجربة في التعامل مع هذه التنظيمات والحركات. كان لابد للدولة وأجهزتها أن تتابع وترصد وتراقب من بعيد أو من قريب في بعض الأحيان.

والواقع أيضاً أن بعض من عاد من المهجر في مصر، إقامة ودراسة، كانوا في الأساس منضمين لحركة «الإخوان المسلمين» وبعضهم سجن في قضايا تتعلق بذلك في القاهرة العام 1957.. كانوا يقيمون في الصحراء الغربية (مطروح وحمام مريوط) ولعلهم تأثروا بلقاءاتهم بالشيخ أحمد العسال أحد الأعضاء السابقين في الحركة. كان يأتي إلى هذه المناطق في شهر رمضان للوعظ والإرشاد ويؤم المصلين في صلاة العيد، وبعدها يغادر إلى القاهرة.

وآخرون أيضاً شملتهم الاعتقالات الكبيرة التي تمت صيف العام 1965 بالقبض على سيد قطب وآخرين في التنظيم الذي لاحقته السلطة وقبضت على أفراده وقدمتهم للمحكمة العسكرية، وتراوحت الأحكام خلالها بطريقة شديدة من الإعدام إلى السجن المؤبد والأشغال الشاقة.

والكثير منهم توفي داخل السجون أو خرج من بقي على قيد الحياة بعد تولي أنور السادات السلطة العام 1970 في مصر، وكان ثمة أحد الليبيين منهم توسطت السلطات الليبية في إعادته إلى ليبيا بجهود مكثفة من الرائد محمد نجم وزير الخارجية، والأستاذ منصور رشيد الكيخيا وكيل الوزارة وصار موظفاً بالجامعة الليبية في بنغازي.

وحين اغتال الشريف محيي الدين السنوسي، إبراهيم الشلحي ناظر الخاصة الملكية في أكتوبر 1954، ظهرت أقوال بأن القاتل من جماعة «الإخوان» وربما قام بذلك تأثراً بسلوك التنظيم السري لـ«الإخوان» في مصر، والواقع الصحيح لم يكن كذلك. أحاديث المقاهي والمرابيع شيء آخر يختلف تماماً عما هو صحيح بالفعل.

يتبع في الجزء التالي

____________

المصدر: صفحات التواصل الاجتماعي نقلا عن بوابة الوسط

مقالات مشابهة