بالرغم من تسارع أحداث الأزمة الليبية في بادي الأمر، إلا أن وسائل فضّها بالطرق السلمية اتّسمت بالتعقيد والتداخل وزيادة مستويات التدخل الأجنبي الملحوظة. ويتضح أن الازمة الليبية تتسم بالخصائص التالية:
أولا: أن الأزمة الليبية تطورت من المستوى الوطني إلى المستوى الإقليمي والدولي في وقت قصير.
ثانيا: أنها ليست أزمة بين دولتين ذات سيادة، بل هي أزمة بين طرفين وطنيين متنازعين تدعمهما قوى إقليمية وعالمية. وبينما يسعى أحد طرفي الصراع إلى فرض النموذج العسكري للحكم، يعمل الطرف الآخر إلى بناء ليبيا كدولة مدنية وديمقراطية.
ثالثا: أن الأزمة الليبية تعكس سلسلة متصلة من الأحداث هي أقرب إلى الحرب منها إلى السلام. وهكذا عانت ليبيا من حروب داخلية عديدة مدعومة من قوى إقليمية ودولية، مثل حروب بنغازي ودرنة والجنوب وطرابلس وسرت والجفرة خلال السنوات 1014-2020.
رابعا: على الرغم من قيام الحرب الداخلية الليبية، لكن يلاحظ وجود وقت سمح للشعب الليبي بالمشاركة في الانتخابات والتنمية السياسية مثل انتخابات: المؤتمر الوطني العام في 2012، وانتخابات مجلس النواب ولجنة صياغة مشروع الدستور في 2014.
كما استمرت وثيرة الإنتخابات البلدية بعد 2014، حيث تم مثلا انتخاب العديد من المجالس البلدية في غرب وجنوب ليبيا في 2019. لكن حفتر عين عسكريين كحكام بدلا من عمداء البلديات المنتخبون في شرق ليبيا، وبالتالي أصبح الشرق الليبي تحت وطأة الحكم العسكري منذ 2014.
خامسا: زادت المخاوف من حرب بالوكالة بين القوى الإقليمية والدولية، مثل صراع تركيا ضد مصر وفرنسا وروسيا، أو الموقف الأمريكي الرافض للتواجد الروسي في ليبيا.
سادسا: بالرغم من أن التدخل الأجنبي في 2011 كان في الأساس موجها ضد نظام القذافي، إلا أن التدخل الخارجي منذ عام 2014 أصبح موجها إما معسكر حفتر في الشرق الليبي، أو إلى جانب “حكومة الوفاق الوطني” في المنطقة الغربية.
سابعا: ظل التدخل الأجنبي في الأزمة الليبية يتم إما بشكل معلن أو غير معلن. فالإمارات ومصر وفرنسا وروسيا تؤيد في الظاهر حكومة الوفاق الوطني من ناحية، وتدعم معسكر حفتر بالسلاح والمال والمرتزقة من ناحية أخرى.
أما التدخل التركي فيعكس البعد الرسمي، حيث أن حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليا طلبت من تركيا التدخل، وتم بالتالي إبرام اتفاقيات ثنائية بالخصوص. كما يلاحظ أن التدخل الأجنبي يمكن تصنيفه أيضا إما إلى تدخل مباشر مثل فرنسا، وتدخل غير مباشر مثل الجزائر.
ثامنا: أدت الأزمة الليبية إلى أزمات فرعية على المستويات الوطنية، مثل الأزمات الاقتصادية والأمنية والمالية والإنسانية .
تاسعا: أدت الأزمة الليبية إلى تصعيد إقليمي، حيث جعلت من مخاوف الحرب بين تركيا ومصر أو بين تركيا واليونان احتمالا واردا، ما لم يتم التوصل إلى حلول سلمية بين الدول المعنية بالشأن الليبي.
عاشرا: أدت الأزمة الليبية أيضا إلى قلق عالمي حول زيادة حدة الإرهاب، وانتهاكات حقوق الإنسان، وزيادة تدفق المرتزقة إلى ليبيا، وارتفاع وثير الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا.
ويلاحظ أن ارتفاع مستوى تدفق المهاجرين إلى أوروبا في السنوات الأخيرة دفع إيطاليا ومالطا إلى إبرام اتفاقيات مع حكومة الوفاق الوطني خلال عامي 2017 و 2020 لإدارة أزمة الهجرة غير الشرعية، وتقليل مستوى تدفقها إلى أوروبا. كما أدى إبرام مذكرة التفاهم بشأن تعيين حدود مناطق الإختصاص البحري في البحر الابيض المتوسط في عام 2019 إلى توازن جديد في نظام القوى بين تركيا من ناحية واليونان وقبرص من ناحية أخرى.
حادي عشر: أدت الأزمة الليبية إلى تحالفات جديدة وإعادة تحالفات بين القوى الإقليمية والدولية على أساس المصالح المتبادلة وترتيبات مختلفة لتوازن القوى. على سبيل المثال، تدعم فرنسا وروسيا معسكر حفتر، على الرغم من استراتيجية الناتو ضد روسيا. وبالرغم من أن الإمارات وقطر عضوين في مجلس التعاون الخليجي، إلا أنهما يعتبران خصمين في الأزمة الليبية.
ثاني عشر: بالرغم من التنمية السياسية التي تحققت في ليبيا خلال السنوات 2012 – 2014، إلا أن زيادة التدخل الأجنبي وما صاحب ذلك من حروب داخلية أثّر سلبا على عملية التحول الديمقراطي، حيث لم يتم الاستفتاء على مشروع الدستور وانتخاب الأعضاء الجدد لمجلس النواب المنتهية صلاحياته في 2015.
***
وجاء في الورقة البحثية “تأثير التدخل الخارجي على عملية التحول الديمقراطي في ليبيا” للباحث الدكتور مصطفى عبدالله خشيم، أستاذ العلوم السياسية بجامعة طرابلس، الخاتمة والنتائج التالية:
إن الأزمة الليبية تتأثر بعوامل داخلية وأخرى خارجية مثلها مثل بقية دول الربيع العربي. فالتدخل الأجنبي في الأزمة الليبية بدأ من الأسابيع الأولى لثورة 17 فبراير 2011، وازداد كما وكيفا مع استمرار الصراع الليبي ـ الليبي.
إن تحالف أحد أطراف الصراع الليبي ـ الليبي مع قوى إقليمية ودولية بقصد فرض نظام حكم عسكري تسلطي عمّق من تعقيدات الأزمة الليبية، بحيث أن إدارة وحل الأزمة أصبح تحت سيطرة القوى الخارجية.
فالصراع من أجل فرض نظام عسكري من قبل كتل سياسية ليبية مدعومة إقليميا ودوليا يعتبر أساسا لفهم الأزمة الليبية، حيث يلاحظ أن أنصار كلا من القذافي وعملية الكرامة تلاقت مصالحهم في الخيار الدكتاتوري . لكن ليبيا ما بعد القذافي قد تبنت خيار التحول الديمقراطي، وبالتالي فالأزمة الليبية مستمرة ما لم يتم الاتفاق على حلول وسط تساهم في بناء دولة قوية لا مكان فيها للتدخل الأجنبي السافر في الشؤون الداخلية.
ويمكن الإشارة إلى مجموعة النتائج التي تم التوصل إليها، ويمكن عموما تلخيصها في مجموعة النقاط التالية:
-
ـ تتسم الأزمة الليبية بالتعقيد والتداخل، نظرا لتعدد أطرافها الداخلية والخارجية. إن طول الفترة الانتقالية للتحول الديمقراطي، ونشوب الحرب الداخلية منذ 2014، والتقاء مصالح الأطراف الداخلية والخارجية، زاد من تعقيد وتداخل الأزمة الليبية.
-
ـ إن أهداف طرفي الصراع الداخلي والخارجي تتجسد عموما إما في محاولة فرض نموذج تسلطي للحكم، أو السير قدما في عملية التحول الديمقراطي المتعثرة منذ 2014.
-
ـ الأزمة الليبية منذ 2011 نتج عنها فراغ سياسي وأمني ساهم فيه نظام القذافي الذي أضعف مؤسسات الدولة، لا سيما المؤسسات العسكرية والأمنية، وبالتالي فقد تم ملء هذا الفراغ من قبل جماعات مسلحة على المستوى المحلي، وقوى خارجية على المستويين الإقليمي والدولي.
-
ـ بالرغم من أن بداية الأزمة الليبية انحصرت على الأطراف المحلية في الأسابيع الأولى من ثورة فبراير، إلا أن تطوراتها فيما بعد زادت من مستويات تعقيدها، وبالتالي فإن قواعد اللعبة لم تعد في أيدي ليبية بل أصبحت تحت سيطرة قوى دولية وإقلمية.
-
ـ إن التدخل الخارجي في الأزمة الليبية قد بدأ منذ الأسابيع الأولى لثورة فبراير 2011، وازداد مستوى هذا التدخل كما وكيفا بعد 2014 عندما قامت الحرب على بنغازي. ولم يقتصر التدخل الخارجي على دول من مختلف دول العالم، بل أن المجال قد اتسع أيضا لتدخل منظمات دولية وإقليمية في الشؤون الداخلية لليبيا. أن تدخل البعثة الأممية والإتحاد الأوروبي والمنظمات الحقوقية يعتبرون أمثلة واضحة للتدخل في الشؤون الداخلية لليبيا.
-
بالرغم من تعدد البلدان المتدخلة في الأزمة الليبية إلا أن الدول التي شاركت في مؤتمر برلين 2019 هي أكثر البلدان تدخلا في ليبيا.
-
بالرغم من أن البلدان المتدخلة في الأزمة الليبية تعترف بشرعية حكومة الوفاق الوطني المنبثقة عن الاتفاق السياسي بالصخيرات، إلا أن معظمها يهدف إلى إجهاض عملية التحول الديمقراطية بإسم محاربة الإرهاب تارة، وبإسم رفض سيطرة الجماعات المسلحة غير المنضبطة تارة أخرى.
_______________
المصدر: ورقة بحثية بعنوان “تأثير التدخل الخارجي على عملية التحول الديمقراطي في ليبيا” للباحث الدكتور مصطفى عبدالله خشيم، أستاذ العلوم السياسية بجامعة طرابلس، نشرت في مجلة “اتجاهات سياسية” (العدد 20 ـ ستبمبر 2022) التي تصدر عن المركز الديمقراطي العربي للدراسات الاستراتجية والاقتصادية ـ برلين ، ألمانيا.