أولا: الدستور وثيقة لبناء السلام
قد تشبه الثورات والحروب الأهلية وحركات التمرد الواسعة إلى حد ما حركات العواصف الاستوائية المدمرة أو البراكين القوية أو الزلازل العنيفة. إن أعظم الدساتير التي وُجدت على التاريخ كانت بعد “عواصف” أو من أجل تجنب وقوعها.
لقد كان أولئك الأباء المؤسسين واعين بأهمية إنشاء وثيقة تؤسس لسلم وطني يُجنّب الدولة والمجتمع حدوث العواصف السياسية كما أنه يقع التفكير في كتابة دستور جديد عند قيام دولة على أسس مستحدثة أو عند الإنفصال عن دولة قائمة أو عند إنقسام الدولتين إلى دولتين أو أكثر. كما يقع كذلك سنّ دستور جديد عند تخلّص دولة من سيطرة استعمارية أجنبية.
ويعرّف الدستور بأنه وثيقة لبناء السلم، ومعالجة الانقسامات الداخلية سياسية كانت أو ثقافية أو جهوية أو غيرها، لتمكن أبناء المجتمع الواحد من العيش تحت سقف واحد بعد الاتفاق على مجموعة من القيم المشتركة.
ثانيا: الدستور ميثاق للحكم
إن فكرة بناء السلم لا تكون فقط بالاتفاق على القيم المشتركة التي تجيب عن سؤال “من نحن؟“، وإنما بالجواب عن سؤالين مركبين آخرين، هما:
“كيف نُحْكَم؟“، و “ما هي ضماناتنا تُجاه من يحكمنا؟“.
إن هذه الأسئلة تمكننا من تقديم تعريف ثان للدستور على نحو يكون فيه “الوثيقة التي تحدد شكل الدولة ونظام الحكم، والسلطات الحاكمة في الدولة، والعلاقة بين هذه السلطات، وضمانات المحكومين تُجاه هذه السلطات“.
هذا التحديد يشكل مدخلا لبناء السلم والاستقرار، ويجعلنا أمام مرجع يحدد عمل وشكل وصلاحيات السلطة، ودون هذا التحديد سيظل السلم الأهلي مهدداً دائما، فالسلطة بطبيعتها تجنح وتتوسّع وتتغوّل، لكن الدستور يحددها ويضبطها، ويرسم حدودها فلا تتغول على سلطة أخرى، أو على حقوق وحريات الأفراد.
من جهة أخرى فإن تحديد وتنظيم السلطة يُبعد الدولة عن السّقوط في صراعات سياسية مدمرة، فرئاسة الدولة والحكومة والبرلمان والأغلبية والمعارضة والجيش تمثل كلها مؤسسات تعمل وفق الدستور وفي إطاره وهي ملزمة دستوريا بعد تجاوز حدودها.
ويمكن القول بأن الدستور يحول دون حدوث الاضطرابات والصراعات السياسية المدمرة، وهو كذلك يجنّب الدول الوقوع في حالات من الفراغ. وذلك حين يجيب عن فرضيات تتعلق بعجز بعض المؤسسات الدستورية عن القيام بعملها لأي سبب من الأسباب، إنه باختصار يعقلن السلطة إذ يجعل لها حدودا وضوابط لا يحق لها قانونا تجاوزها.
ثالثا: الدستور وثيقة حقوقية
إن الدولة تعد مؤسسة هامة لا يمكن لها إنجاز مهامها دون أن تحظى بسلطة غير أن الإنسان ميّال إلى التعسف في استعمال هذه السطلة متى كانت مطلقة لذلك وجب تقييدها من خلال رسم حدود لها يكون فيها احترام الحقوق والحريات هو الفيصل.
إن هيبة السلطة وفعاليتها لا يجب أن يكونا على حساب الحقوق والحريات لذلك يأتي الدستور أيضا لدسترة هذه الأخيرة في مقابل تنظيم الحكم والسلطة.
وهو في الواقع بتضمينه لتلك الحقوق والحريات يعمد إلى جعلها ديمقراطية، وبالتالي ممثلة لحكم الأغلبية ومحترمة لحقوق الأقليات ويصح تبعا لذلك أن نقدم مفهوما ثالثا للدستور بأنه: “توازن بين السلطة والحرية“.
لقد أصبح بالإمكان اليوم تعريف الدستور بأنه: “وثيقة حقوقية” فهو يضمن الحقوق والحريات ويهيئ ضمانات لحمايتها، ويبيّن أين تقف السلطة، وما هي الحقوق المحفوظة للإنسان تُجاهها.
____________
المصدر: خلاصات من ورقة “مبادئ الدستور .. مع عرض لما تضمنه مشروع الدستور الليبي” للكاتب هشام زكاع