سالم الكبتي
(.. وإنه لمن أَعزّ أمانينا كما تعرفون أن تحيا البلاد حياة دستورية صحيحة)
الملك إدريس السنوسي في خطابه بإعلان الاستقلال
***
في السابع من أكتوبر 1951 أقرت الجمعية الوطنية التأسيسية الدستور الليبي وأعلنته ذلك اليوم في اجتماعها الأخير ببنغازي. وقد نصت المادة الثانية فيه على أن: (ليبيا دولة ملكية وراثية شكلها اتحادي ونظامها نيابي وتسمى المملكة الليبية المتحدة).
كانت الجمعية قد وافقت على شكل الحكم الفيدرالي في جلستها الثالثة المنعقدة بطرابلس في اليوم الثاني من ديسمبر 1950. خلال هذه الجلسة نوقشت قضايا عدة شملت الموافقة على اللائحة الداخلية لعمل الجمعية ووضع الدستور وتقرير شكل الدولة ونوع الحكم.
وخاض الأعضاء في تفاصيل ما يتعلق بشكل الدولة القادم الذي يتمثل في (الفيدرالية والاتحادية) الذي يضم ليبيا بأقاليمها الثلاثة برقة وطرابلس الغرب وفزان.
وصار جدل كبير يتعلق بهذه النقطة .. أكد هنا عضو الجمعية محمد عثمان الصيد على أن يكون نوع الحكم اتحاديا فيدراليا واقترح العضو المنير برشان على إضافة عبارة (فيدرالي عادل) تحسبا من تخوف بعض الأعضاء لما قد يقع عند إعلان الدولة بهذا الشكل.
وتولى العضو عبدالعزيز الزقلعي محاولة إقناع الجمعية بأن تكون الدولة الليبية مستقلة بحدودها الطبيعية شرقا وغربا وجنوبا وشمالا مؤكدا على أنه لا يريد عرقلة مبدأ شكل الحكم وإنما يريد ضم الصفوف تفاديا للأخطار.
كما أشار العضو يحيى بن مسعود إلى أنه من الأفضل أن تكون الوحدة الشاملة شكلا للحكم دون الفيدرالية معللا لذلك بأن حالة البلاد الاقتصادية لا تسمح لكل جزء من أجزائها بأن يكون وحدة كاملة قائمة بذاتها ولا بُد من إيجاد حكومة واحدة لها.
فيما أشار رئيس الجمعية محمد أبوالأسعاد العالم خلال هذا النقاش وتفاصيله إلى أن الوحدة الشاملة ستحل مستقبلا محل الاتحادية وأعقبه نائبه عمر فائق شنيب مستطردا بالقول بأن الوضع الفيدرالي سيكون طارئا.
ثم أشار العضو المبروك الجباني إلى أننا كأعضاء في هذه الجمعية التأسيسية سنطالب بعد تشكيل الحكومة على الأساس الفيدرالي استلام حكمنا بأيدينا. وهنا وافقت الجمعية على شكل الحكم في الدولة الليبية المنتظرة على أساس الحكم الاتحادي الفيدرالي.
وفي الجلسة الرابعة للجمعية المنعقدة في الرابع من ديسمبر 1950 أقرت اختيار شكل العلم الذي تقدم به العضو عمر شنيب من ثلاثة ألوان الأحمر والأسود والأخضر ويتوسط اللون الأسود هلال ونجمة بيضاء وقد أفيدت بأن هذا الشكل المعروض اختاره الملك إدريس ضمن عروض أخرى أثناء اقتراح شكل العلم المنتظر.
والواقع أن الدستور في نصوصه نظم الحقوق والواجبات واختصاصات الاتحاد الليبي والاختصاصات المشتركة بينه وبين الولايات الثلاث التي تتولى سلطة تنفيذها تحت إشراف الاتحاد الليبي (الحكومة الاتحادية) كما نظم تفاصيل السلطات العامة الاتحادية من تشريعية وتنفيذية وقضائية وسلطات الملك والوراثة والوزراء ومجلس الأمة شيوخا ونوابا ونظام المحكمة العليا الاتحادية ومالية الاتحاد والولايات. ورد ذلك كله من خلال (213) مادة واثني عشر فصلا.
وكان من اللافت للنظر في هذا الدستور أنه استشرف المستقبل القادم بطريقة أو بأخرى، فقد أجاز في مادته (196) أن: (للملك ولكل من المجلسين اقتراح تنقيح هذا الدستور بتعديل أو حذف حكم أو أكثر من أحكامه أو إضافة أحكام أخرى) والمقصود بالمجلسين هنا: الشيوخ والنواب.
وفي المادة (198) ورد في نصها أنه: (لأجل تنقيح هذا يصدر كل من المجلسين بالأغلبية المطلقة لأعضائه جميعا قرارا بضرورته وبتحديد موضوعه ثم بعد بحث المسائل التي هي محل للتنقيح يصدر المجلسان قرارهما في شأنها.
ولا تصح المناقشة والاقتراع في كل من المجلسين إلا إذا حضر ثلثا أعضائه ويشترط لصحة القرارات أن تصدر بأغلبية ثلثي الأعضاء الحاضرين في كل من المجلسين وأن يصدق عليها الملك) ثم أشار الدستور في مادته (199) إلى أنه (في حالة تنقيح الأحكام الخاصة بشكل الحكم الاتحادي يجب زيادة على الأحكام المقررة في المادة السابقة موافقة جميع مجالس الولايات التشريعية على التنقيح المقترح وتتم هذه الموافقة بقرار يصدره المجلس التشريعي لكل ولاية في هذا الشأن قبل عرض التنقيح على الملك للتصديق عليه).
وعبر الأعوام التي شهدتها مراحل تأسيس الدولة بعد إعلان الاستقلال في 24 ديسمبر 1951 وهو اليوم الذي انتهت فيه أعمال الجمعية الوطنية التي وضعت حجر الأساس لبناء الدولة الليبية.
وحين وضع الدستور موضع التنفيذ كشفت السنوات التالية على تطبيقه عن الحاجة إلى إجراء بعض التعديلات في بعض مواده نتيجة لبروز بعض العيوب في النظام الاتحادي خاصة من الوجهة المالية وتنازع الاختصاصات بين الحكومة الاتحادية وسلطات الولايات الثلاث التي تتكون من مجلس تنفيذي وأعضاؤه والمجالس التشريعية التي هي بمثابة برلمان مصغر لكل ولاية فيما بدا أن الوالي يمثل الملك مباشرة في حدود ولايته ويخضع له في ممارسة مهامه.
إلى نهاية 1962 تمتعت الولايات بشبه استقلال ذاتي وإدارة مكنتها من تحقيق العديد من الإنجازات والمشروعات في نطاق الولاية إضافة إلى وجود قانون أساسي (دستور) يحكم أمورها في نطاق دستور الدولة العام.
غير أنه من خلال تنازع الاختصاصات ظلت الغلبة للحكومة الاتحادية التي تتنقل في أعمالها بين العاصمتين طرابلس وبنغازي ثم البيضاء.
كانت الحكومة تمثل الدولة عموما وتصدر القوانين التي تخضع لها كل الولايات في النهاية ولا تستطيع غض الطرف عنها أو إلغاءها. رغم ما تمتعت به الولايات على مدى أكثر من عشر سنوات من عمر الاستقلال؛ فإن اختصاصات الحكومة الاتحادية ظلت صلبة عبر هذه الأعوام.
ثم تدفق البترول وشرع في تصديره أواخر العام 1961 وهنا سيكون نقطة لخلاف أكبر عبر حدود الولايات ومناطق الآبار والاستكشاف. إن الشركات الأجنبية التي هرعت إلى ليبيا وراء الذهب الأسود رأت مع التطبيق والإنجاز المستمر أنها لن تستطيع أن تحقق نجاحا في أعمالها سوى مع حكومة واحدة تسيطر على الأمور، وليس عبر حكومات ثلاث سيلحقها التنازع الشديد وسيكون أكثر ضراوة مع رائحة البترول. وستكثر الشكاوى بين الأروقة وفي المجالس والمصالح.
في نوفمبر 1958 طلبت الحكومة الليبية من البنك الدولي للإنشاء والتعمير أن يعد تقريرا عن التنمية الاقتصادية في ليبيا وقد أنجزه في أول أبريل 1960. استجاب البنك للطلب ووصلت بعثته المكونة من ثلاثة عشر عضوا يرأسهم الخبير الشهير براسادا إلى البلاد العام 1959 وطافت عبر زيارات عديدة بالمناطق والولايات ثم وضعت تقريرها المهم في 274 صفحة مع الملاحق والإحصاءات.
هذا التقرير رأى أن النظام الفيدرالي المطبق في ليبيا يشكل عقبة كبيرة لتحقيق المزيد من النجاح وأشار بدقة خلال ثنايا سطوره إلى أنه:
(بينما نقر بأن لكل من الولايات الثلاث تقاليدها ومميزاتها ومشاكلها الخاصة إلا أننا حاولنا ونحن ننجز مهمتنا أن ننظر إلى ليبيا كوحدة واحدة وأن نضع برنامجا للتنمية الاقتصادية يشمل البلاد بأسرها، ومع أن القصد في بعض مواد الدستور 36 و38 هو أن تتولى الحكومة الاتحادية مسؤولية رسم السياسة الاقتصادية والإشراف على تنفيذها.
إلا أن السلطات الاتحادية ظلت مترددة وغير جازمة في فرض حقوقها بينما كانت الولايات حريصة على عدم التفريط في امتيازاتها ويقين البعثة أنه إذا أريد تنفيذ أعمال التنمية الاقتصادية في ليبيا بسرعة وكفاية فمن الضروري تجنب الفوضى الناتجة عن وجود ثلاث أو أربع سياسات أو إجراءات مختلفة.
كانت الأسباب التي أدت إلى إقامة نظام اتحادي في ليبيا أسبابا وجيهة عندما نالت البلاد استقلالها غير أن هذا لا يغير بطبيعة الحال الحقيقة الراسخة وهي أن لهذا النظام مساوئ خطيرة من الناحية الاقتصادية بالنسبة لبلد فقير مثل ليبيا. لكل حكومة رئيس ومجلس أمة ومجلس وزراء وسلسلة واسعة من الدوائر).
ومضت الأمور بهذا الشكل واستمر تدفق البترول ومعه ازدادت الأحلام وفغرت الأفواه والأطماع وربما بدأت الفرص في تكافئها يضيع. وهنا سيظل ديسمبر هو الحل.
ديسمبر الذي شهد إقرار الشكل الفيدرالي ثم إعلان الاستقلال سيشهد في ديسمبر 1962 الشروع في أول خطوات تعديل الدستور في ليبيا.. بطلب من الملك نفسه الذي وجه بذلك رئيس الحكومة السيد محمد عثمان الصيد المدافع عن الفيدرالية خلال عضويته في الجمعية الوطنية التأسيسية إلى البدء في التعجيل بتلك الخطوات.
فماذا جرى بعد ذلك من خطوات دون المساس بروح الدستور؟
___________