سالم الكبتي

(الوحدة النهائية هي هدف الجميع)
الملك إدريس السنوسي. بنغازي 17 ديسمبر 1950

.. وفي متابعة لخطوات التعديل الدستوري أقول بأن الملك إدريس كان مهتماً في تلك الأيام التي تقترب من نهاية العام 1962 بتحقيق هذه الخطوات الدستورية على أرض الواقع، وكان يرى في ذات الوقت بأن ذلك حق كفله له الدستور كملك دستوري وفقا للمادة (196).

مثلما كفل هذا الحق الدستوري والإجازة في التعديلات لمجلس الأمة والمجالس التشريعية في البلاد، وعاشت البلاد كلها فترة فيدرالية قوامها أحد عشر عاماً والآن مع اقتراب العام الثاني عشر من الاستقلال بدت تلوح الضرورة للتعديل المناسب الذي تقتضيه المصلحة العامة ويقتضيه التطور والزمن والظروف.

ليبيا أضحت جديدة في شكلها المعاصر وينبغي أن يتغير شكلها السياسي، هذا ما كان يدور في ذهن الملك وفقاً للمصادر الموثقة وروايات العديد من القريبين منه أثناء الفترة المذكورة، ولم تأت الخطوة ضد الدستور الصادر عام 1951 وبالتالي فهي لن تكون قفزة في الفراغ أو لهثاً وراء مستحيل أو سراب يخدع الأبصار.

والمفاجأة هنا تعينت في أن الملك هو الذي اقترح التعديل في الدستور، واستدعى رئيس حكومته السيد محمد بن عثمان الصيد، وذكره الملك بوعد قديم قطعه على نفسه يوم أن قدمت له الجمعية الوطنية التأسيسية بيعتها في بنغازي 17 ديسمبر 1950، كان هذا الوعد موجهاً لزميل الصيد في الجمعية المذكورة وهو السيد عبد العزيز الزقلعي الذي لم يكن راضياً عن شكل الدولة الفيدرالي الذي أقرته تلك الجمعية واستقال لاحقاً منها احتجاجاً على إقامة (النظام الاتحادي).

وأكد الملك له في قاعة قصر المنار وأمام جميع الأعضاء بعد استلامه البيعة منهم بأن الوحدة النهائية هي هدف الجميع وسيصلون إليها بمرور الوقت الذي لن يطول.

خلال صيف 1961 عقد في البيضاء مؤتمر للولايات الثلاث باقتراح من رئيس الحكومة السيد الصيد وحضره السادة: فاضل بن زكري والي طرابلس، وسيف النصر عبدالجليل رئيس المجلس التنفيذي في فزان، وممثلا لعمه الوالي الأصلي عمر سيف النصر ووالي برقة حسين مازق، كانت هناك أزمات عالقة بين الولايات حول ما يتصل بحدودها.

وهنا استطاع رئيس الحكومة تسوية النزاع الشهير بين ولايتي طرابلس وفزان، وكان ذلك موجوداً عقب الاستقلال وأثناء تطبيق النظام الفيدرالي وما يتعلق به وقد أصبحت منذ الخمسينيات غدامس تابعة لولاية طرابلس فيما أضحت الجفرة بمناطقها تخضع لولاية فزان.

تبادل في المناطق داخل الوطن الواحد ومعه ترتيبات وتبدلات أخرى وإجراءات تأخذ وقتاً حتى تستقر الأمور، وفي المنظور ظلت مشاكل حدود الولايات ماثلة وتنهض باستمرار أو بين حين وآخر وهي أزمة عويصة ستكبر مع الوقت ما لم تحل بحكمة وهدوء وفي هذا كله ربما استطاع الصيد تأمين قاعدة مقبلة عبر حكومات الولايات وتهيئ الأجواء أمام واقع سياسي جديد سيطرأ قريباً رغم هذه الأزمات الباقية تحت الرماد.

وهذه القاعدة تتوخى الابتعاد عن المواجهة والاستفزاز وأتاحت للحكومة علاقات حسنة مع مسؤولي كل الولايات الثلاث وقد اعتبر د. مجيد خدوري في كتابه المهم (ليبيا الحديثة) أن هذا المؤتمر الصيفي كان نصراً كبيراً لحكومة بن عثمان.

كان شعور الملك يقوى لديه بحكم المسؤولية الدستورية أن الوقت حان لإعلان الوحدة وتغيير شكل نظام الحكم وفقاً للدستور لا خارج إطاره أو الإضرار بروحه، وأصدر الملك التعليمات اللازمة للتعديلات وأعدت جميع وثائقها في الديوان الملكي وكان رئيسه وقتئذ د. علي الساحلي وكان لابد أن يحصل تعاون دقيق في هذا الموضوع بين القصر والحكومة وبمنتهى الهدوء.

والحذر أيضاً وبعيداً عن التشويشات والأقاويل، كان الملك رغم أيام الشتاء مقيماً تلك الفترة ما بين البيضاء ومسه، وتكررت لقاءاته مع رئيس حكومته في النهاية طلب منه (اتخاذ الخطوات اللازمة لإخراج المشروع إلى حيز التنفيذ) ورغم أن الصيد في مذكراته يقول بأنه سبق الملك إلى هذا الاقتراح منذ عام مضى خلال احتفالات البلاد بعيد استقلالها العاشر في 1961.

إلا أنه خلال نقاشه مع الملك توطئة لإجراء التعديلات اقترح أن يسير تحقيق الوحدة عبر خطوتين لا ثالث لهما خوفاً من المصادمات أو المعارضة المتوقعة للمشروع في ولايتي برقة وفزان على وجه الخصوص.

الخطوتان هما:

ـ تلغى أولا رئاسة المجلس التنفيذي في الولايات الثلاث وتوكل مهامها إلى الوالي نفسه الذي يظل بدوره مسؤولا أمام المجلس التشريعي في الولاية،

ـ ثم ثانياً تلغى حكومة الولايات إلغاء كاملا وتنقل سلطاتها إلى الحكومة المركزية (الاتحادية).

على هذا الأساس وبالاتفاق مع الملك مضى نسق التعديلات التي تولاها من الناحية القانوية مع رئيسي الديوان والحكومة المستشار القانوني للملك والديوان الأستاذ توفيق عبدالحكم (المصري الجنسية)، كان قد حل في هذا المنصب منذ الأعوام الأولى للاستقلال وعاصر الكثير من الأمور والمشاكل، لقد جرت هذه الخطوات في سرية تامة بين هؤلاء الثلاثة فيما تولى الأستاذ مصطفى بن سعود سكرتير عام مجلس الوزراء، وهو رجل يتسم بالخبرة والمهارة طباعة المواد التي سيتقرر تعديلها بصورة نهائية.

إن الخطوات الفعلية للإنجاز بدأت مطلع ديسمبر 1962، في يوم الخميس السادس منه افتتح الأمير الحسن الرضا ولي العهد، نائباً عن الملك دور الانعقاد الرابع للهيئة البرلمانية الثالثة لمجلس الأمة (1960_1964) وكان هذا الانعقاد يقع لأول مرة في مقر المجلس في مدينة البيضاء رغم الصقيع وهطول المطر الغزير.

ألقى السيد محمد عثمان الصيد خطاب العرش وفيه ورد: (.. ورغبة منا في تحقيق ما تصبو إليه الأمة من أهداف وآمال وطنية في وضع حد للصعوبات العملية والتعقيدات التي كشف عنها تطبيق الدستور ورداً للأمور إلى نصابها الأصيل الصحيح أعدت حكومتي مرسوماً بمشروع قانون هو معروض على مجلسكم الموقر الآن بتعديل بعض أحكام الدستور ونحن على يقين من أنها تعتبر خطوة نحو الهدف الذي ينشده الجميع).

خطاب العرش في المحصلة خلال كل دورة برلمانية طارئة أو عادية هو رأي الملك ويعبر عن سياسته وأهدافه وأحلامه من خلال ما تقوم به حكوماته، انفض حفل الافتتاح في الظهيرة وفي المساء عقد المجلسان: الشيوخ والنواب جلسة أقرت فيها التعديلات وأصدر الملك قانوناً بذلك يوم الجمعة السابع من ديسمبر 1962 من قصره في مسه.

قبل ذلك بشهرين في أكتوبر كان الأمير الحسن في رحلة للولايات المتحدة، وعلى هامشها في لقاء جمعه بالرئيس كندي فاتحه في إجراء تغيير في الدولة بتنحية عمه ووضعه مكانه ملكاً على البلاد، رفض الأمير واعتذر مؤكداً أن التقاليد العائلية تلزم باحترام كبارها، وقبل ذلك بعام في نوفمبر 1961 تعرضت الدولة لمحاولة عسكرية لتغيير النظام وأحيل رئيس الأركان اللواء السنوسي الأطيوش سفيراً تحت الطلب بوزارة الخارجية، ونجحت الحكومة الاتحادية لا غيرها في إيقاف هذه المحاولة.

هل هذه التداعيات المتوالية جعلت الملك يفكر جدياً في إعلان الوحدة الشاملة؟

وفي نوفمبر بعد العودة من أميركا افتتح الأمير ثاني ميناء لتصدير البترول في خليج سدرة، خطوات البترول تمضي سراعاً وتزغرد هي الأخرى في الأبعاد من الصحراء إلى البحر، وفي ديسمبر ذاته شهر التعديلات في الخامس منه سيرحل أحمد الشتيوي السويحلي في مصراتة وهو الذي لم يكمل مشواره السابق في اجتماعات 9 أغسطس 1940.

ثم في التاسع منه أيضًا سيرحل عمر باشا منصور الكيخيا أحد مستشاري الملك، ورئيس ديوانه، ورئيس ثاني حكومة في برقة عام 1949، وأول رئيس لمجلس الشيوخ.. المدافع العريق عن حقوق برقة بلا هوادة.. ثم في العاشر منه تغتال طلقات رصاص مجهولة نائب رئيس الأركان العقيد إدريس العيساوي، في طريق الكلية العسكرية الملكية في بنغازي.

أحداث تلاقت مع جهود التعديلات التي لم تقابل بالاستحسان عند البعض فقد استقال السيدان عمر سيف النصر ومحمود بوهدمة كواليين لبرقة وفزان. أبديا اعتراضهما على التعديلات، وعين السيدان محمد الساقزلي والياً لبرقة وغيث عبدالمجيد سيف النصر والياً لفزان.

فيما بدا أن البيضاء الرابضة مدينة جديدة وسط تلال الجبل بافتتاح البرلمان ثم الاحتفال رسمياً بعيد الاستقلال الحادي عشر وسطها.. بدا أنها تلوح عاصمة ثالثة للبلاد وإن لم يتم الإعلان عن ذلك وعبر هذا المخاض باتجاه التحولات الدستورية الجديدة، لقد سار الملك والحكومة عبر الدستور قدماً لتحقيق المزيد من هذه التحولات بلا توقف.

يتبع

____________