محمد ابوفلغة
كثيراً ما يُطرح السؤال التالي باستغراب واستنكار: كيف يصبح المظلوم ظالماً وكيف تتحول الضحية إلى جلاد؟!
هذه محاولة سطحية لتلييب إجابة السؤال من خلال أفكار قرأتها عن مفكرين عرب وغرب. قد تُسهم هذه الإجابة ولو جزئياً في فتح نافذة أخرى يمكن من خلالها فهم جوانب من الصراع الدائر في البلاد منذ 2011.
تعمدت طرح هذا الموضوع اليوم في الذكرى التاسعة لأحداث غرغور لأنه يفسر رد الفعل الذي رأيته –وشاركت فيه للأسف– حينها في مصراتة. بيد أن الأمر لا يقتصر على غرغور وإنما ينطبق على حالات أخرى أترك لك المجال لاستحضارها والتفكير فيها.
عندما تتعرض الجماعة لظلم أو شر سياسي، تشرع في النظر لنفسها على أنها مظلومة وتخلق بالتالي سردية المظلومية الخاصة بها. سرعان ما تتغير نظرة الجماعة لدوافع الظلم الواقع عليها نتيجة لهذه السردية، إذ تعتقد الجماعة أنها ظُلمت لذاتها، لأنها هي من هي، وليس بسبب فعل أو موقف اتخذته الجماعة ويمكن أن تتخذه أي جماعة أخرى.
بكلمات أخرى، تنظر الجماعة للظلم الواقع عليها على أنه استهداف حصري وخاص ومتعمد لها وحدها، لا كرد على مواقفها. يمكن أن نختصر هذه النقطة بالقول “نحن مظلومون بغض النظر عما نفعل”. وهذه هي الطبقة الأولى من المظلومية.
مع مرور الوقت والأحداث، تخلق الجماعة لنفسها هوية جديدة بناءً على مظلوميتها. ترى الجماعة وتُعرّف نفسها على أنها “الجماعة المظلومة” وتصبح لها هوية مرتكزة على هذا الشعار. الهوية تفصلنا وتميزنا عن الآخر فهي ترتكز على ما نختلف فيه عن هذا الآخر. ومن هنا تبرز مشكلة الهوية المظلوماتية للجماعة.
إذا عرّفت الجماعة نفسها على أنها “المظلومة”، فلا بد أن الآخر غير مظلوم، بل ظالم أو ساكت عن الظلم في أحسن الأحوال. ويمكن أن نختصر هذه النقطة بالقول “نحن المظلومون وغيرنا (كل ما ليس نحن) الظالم”. وهذه هي الطبقة الثانية من المظلومية.
بناءً على الهوية المظلوماتية التي تنص على أن الجماعة مظلومة وغيرها ظالم، يظهر تعريف آخر للجماعة على أنها نقيض الآخر الظالم بكل ما يمثله من ظلم وشرور، فالجماعة بالتالي هي الخير “المطلق”. وما دمنا نقيض الآخر فلا يمكن أن نتسم بأي سمة من سماته، فلا يمكن بالتالي أن نكون الشر.
بكلمات أخرى، تُصبح الجماعة عاجزة – في نظر نفسها – عن ارتكاب الشرور والظلم. طالما الشر هو سمة الآخر، فلا يمكن أن يكون ما نقوم به ظلم (حتى وإن كان في حقيقته ظلم). فتعجز بالتالي الجماعة عن رؤية الظلم فيما ترتكبه. ويمكن أن نختصر هذه النقطة بالقول “نحن ضحايا الظلم فلا يمكن أن يُسمى ما نقوم به ظلم”. وهذه هي الطبقة الثالثة من المظلومية.
يحدث بناء هذه السردية داخل الجماعة بسبب تقوقعها وانكفائها على نفسها (كآلية دفاع أولية ضد الظلم) وعجزها عن الخروج عن ذاتها والنظر للمشهد من وجهة نظر الآخر أو من وجهة نظر أكثر شمولية.
محاولة دفع الجماعة للتفكير في احتمالية شر ما تقوم به هي محاولة – في نظر الجماعة نفسها – لتسويتها بالآخر الظالم، فهي بالتالي محاولة لنسف هوية الجماعة والتقليل من مظلوميتها.
في سياق صد هكذا محاولات يطرأ سؤال المظلومية الشهير: “أين كنتم حين كنا نُظلم؟!” هذا السؤال هو محاولة لإسكات أي صوت يسعى لدفع الجماعة نحو الخروج عن ذاتها والتفكير في أفعالها من وجهة نظر أخرى.
الخروج عن الذات عملية مؤلمة وفاضحة، لذلك ترفضها الجماعة. من السهل طمس الأصوات الصاعدة من الخارج، ولكن عندما تأتي مطالبات الخروج عن الذات من داخل الجماعة يكون الأمر أصعب وكأنه طعنة في الظهر، ومن هنا تنشأ دعاوى التخوين ضد أبناء الجماعة الخارجين عنها.
يُخيّل إلي أن هنالك سرديات مظلومية متعددة في ليبيا. وأزعم أن هذه السرديات دفعت وتدفع الصراع ولو جزئياً.
من هذا المنطلق، فهم هذه السرديات ودحضها مهم وشرط أساسي لتحقيق تقدم حقيقي سواء في مجال السياسة أو مجال المصالحة الوطنية. قد يكون من المفيد التفكير في المظلوميات المحلية وتشريحها أكثر في سياق حوار أكثر عمومية وشمولا.
_________________________
المصدر: صفحة الكاتب على التويتر