المحرر

النخب السياسية المحسوبة على ثورة 17 فبراير في حيرة من أمرها، فهي مبعثرة ومشتتة وأحيانا متعارضة، ولم تعد تدري ماذا تفعل.

***

الواضح أن النخبة السياسية المتصدرة للمشهد السياسي قد تجاهلت البعد الإيماني في الصراع السياسي، ونعني به الصراع القائم حاليا في ليبيا بين أنصار العسكر ودولة الاستبداد و أنصار الدولة المدنية والتحول إلى الديمقراطية.

الصراع السياسي أو العسكري له أسبابه وسننه وأدواته، خاصة عندما يكون العدو فاقد لقيم الموضوعية والعدالة والانصاف مثل ما عليه أنصار العسكر ودولة الاستبداد وبقايا قوات النظام السابق.

أولئك يتعاملون مع القضية الوطنية بكل غرور وعجرفة بسبب الدعم المالي الذي سرقوه من خزائن الدولة، أو تحصلوا عليه من بعض الدول التي لن تسمح لليبيا أن تستقر، بالإضافة إلى الدعم السياسي والمعلوماتي من أجهزة مخابرات إقليمية ودولية والدعم المعنوي من قبل بعض القبائل.

إن النصر على تحالف العسكر المدعوم من أجهزة مخابرات دول، وعلى تحالف النظام السابق مع أدوات قبلية معروفة، لا يتم إلا بتوفر شروط لا تقتصر على الجوانب المادية فحسب، بل لعل أهمها الأبعاد الإيمانية، لان غياب هذه الأبعاد يجعل طرفي الصراع على صعيد واحد من حيث قوانين الصراع المادية البحثة، أي القوة المادية مقابل القوة المادية.

فعندما فقدت ثورة التكبيرالدعم الروحي والزخم المعنوي، أصبحت المواجهة مختلفة وتفنّن الباطل في التضليل والخداع والتآمر وشراء الذمم والمصيبة أن الطرف الذي يفترض فيه أنه يمثل الحق سقط في الفخ وأصبح يوظف نفس الأساليب الرخيصة مما جعله يكون الطرف الضعيف في معادلة الصراع المادي والمعنوي بعد أن حول ثورة التكبيرإلى ثورة التكتيك.

***

هناك سيل من المواقف التي تملأ صفحات التواصل الاجتماعي يعلن أصحابها أنهم من أنصار ثورة فبراير والدولة المدنية ولكن خطابهم يدفع بقوة لضرب أي محاولة لترميم خندق فبراير .

***

العمل السياسي يتطلب وجود قدر من القدرة البشرية لا تقل عن مقدار ما يعرف بـ الكتلة الحرجةوهي الحد الأدنى من العاملين من ذوي الوعي والإلتزام والكفاءة والتصميم على تحقيق الأهداف.

فمسألة الكم في العمل السياسي لها قدر من الأهمية، ولكنها لا تكون ذات جدوى إذا ما توفرت الكتلة الحرجة، فالأعداد المحسوبة على العمل السياسي قد تكون كثيرة على الورق، ولكن الكمية الفاعلة لا تمثل إلا نسبة ضئيلة في أحسن الأحوال.

فهناك كثير من الناس من هم على استعداد للارتباط بحزب سياسي أو منظمة مجتمع مدني أو غيرها من أدوات العمل السياسي، ولكن بالكلام دون رغبة أو قدرة على العطاء، وهناك من يرتقي إلى مستوى القيادات المتوسطة ولكنه يفتقد إلى الوعي والخبرة ما يجعله عالة على التنظيم يحتاج من يوجهه ويتابعه باستمرار.

وهناك من يعمل بكل جد ولكنه يدين بالطاعة العمياء دون رأي مستقل ودون قدرة على المبادرة والإبداع.

إن ظاهرة الإتكاء البشري في تجربة الأحزاب السياسية الناشئة، وفي غياب برامج للإعداد والتكوين السياسي، تنتج عنها تكديس النوع المكرر أو ما يمكن تسميته بـ النسخ الباهتةوفقدان النوع المتميز الذي تستهلكه أعباء الحياة اليومية المعبأة بالمعاناة والإنهاك.

***

ثقافة النقد في تكويننا يعتبر من الكبائر السياسية، فجل المواقف اتسمت بالتطرف والإفراط، سواء مواقف تزكية الذات وتنزيهها، أو مواقف سلبية ولا مبالية تحكم على كل مبادرة بالفشل وسوء النية.

العقلية التي ترفض الحوار والتواصل والتعاون تصر على تصور مبالغ في التفاؤل بأن الأوضاع على مايرام وأن الأزمة ليست موجودة ولا يمكن قبول قول من يصرح بها مهما كان مصدره

بل هناك من يصر على أن القول بوجود أزمة في تيار فبراير إنما هو متخاذل، ونفس العقلية لا تصدق أن هناك من يتجرأ على اتخاذ موقف مغاير لأهداف الثورة رغم أن المؤشرات والدلائل تدل على تدهور الأوضاع وهي واضحة للجميع.

وما أن يجرؤ أحد على طرح فكرة قد تبدو أنها تعارض الأهداف ـ غير المتفق عليها ـ يسيطر على الكثير من النشطاء روح التشاؤم والاحباط واليأس، ويتسع ذلك ليشمل انهيار الموقف من القضية الوطنية كلها، والشعور الذي يفرزه ذلك الوضع النفسي المحبط يجعل من طرح أي فكرة قد تبدو غريبة مصدرا لخيبة الأمل في الأشخاص الذين وراء تلك الافكار

بل يذهب البعض إلى التفكير في التخلي بالكامل عن القضية برمتها وكأن قضية التحرر في ليبيا لا تستند في شرعيتها إلا على عافية تيار الثورة أو أنصار فبراير فما أن تدهورت أمور التيار فقدت القضية كل الشرعية، وهو أمر لا يستند على أي منطق.

التجربة أثبتت أن المطلوب هو العكس تماما، فالمطلوب هو المزيد من التفكير خارج الصندوق، وما يشمله من نقد ذاتي للتجربة النضالية السياسية قبل وأثناء وبعد الثورة.

ومهما كانت المبررات التي تحول دون ذلك، لابد من المحاولة تلو الأخرى والاصرار عليها حتى تتحول تلك المحاولات إلى سلوك طبيعي عفوي يغني التجربة النضالية ويقود في نهاية المطاف إلى ترشيد المسيرة.

في هذه المرحلة الحرجة وقبل الدخول في أي برنامج جديد، لابد من الخوض في عمليات المراجعة والتقييم التي لا تتأتى إلا من خلال جهود متواصلة للنقد الذاتي والجماعي.

ليس مستغربا أن يكون النقد الذاتي أمرا غير مرغوبا فيه لأنه اختلط في أذهاننا بالتعرية والكشف عن العورات والتشهير ونشر الغسيل وإبراز الثغرات ونقاط الضعف فقط، وكل ذلك من الأمور المبالغ فيها خاصة أن العدو الأساس في معركتنا يعرف عن أوضاعنا أكثر مما نجرؤ نحن على الاعتراف به فماذا يمكننا البوح به أكثر مما يعرفه العدو عن علاقاتنا وممارساتنا ووسائلنا.

إن الأهم من ذلك أن الآثار الإيجابية النفسية والفكرية تفوق أية سلبيات قد تلازم بعض الممارسات في بداياتها.

إن التحفظ عن ممارسة النقد الذاتي لن يمنع العدو من التعرف على أوضاعنا السيئة، فهو يعرف عنها أكثر مما يجب بل أنه سيحاول حرماننا من تقويم أعمالنا وتصحيح مسيرتنا وسيدفعنا إلى تكرار مأساتنا ومضاعفة أخطائنا.

***

يشعر الإنسان أحيانا بأن الثورة، بحكم شعبويتها وكونها ظلت بلا قيادة، بل تحولت إلى حرب أهلية، أي أن الانتفاضة انزلقت في التصدي لقضية كبرى لم تستوعبها على الوجه الأكمل حتى الآن، فرفعت شعار اسقاط النظام والتغيير الجذري لدولة الاستبداد بالقوة ، ولكنها لم تقدر على ذلك ولم تعد للأمر عدته، ومما زاد الطين بله انها اعتمدت بشكل أساسي على الدور الأممي والخارجي، وأوحت للناس بأنها جاءت بالحل الشامل الجذري والسريع.

ولكن ذلك كان مشروعا أكبر منها، ولم تملك من متطلبات تحقيقة إلا الأماني والنوايا الحسنة، فالإمكانيات البشرية والقدرات الفكرية التي توفرت بعد اسقاط النظام كانت محدودة جدا، ولم يكن هناك الاستعداد المطلوب لدى أغلب الذين تصدروا المشهد، كما أنها لم تفرز قيادات قادرة على أن تضع أقدامها على طريق الإعداد الفكري والسياسي والحركي لعناصر التيار حتى يمكنها القيام بتلك المهمة التي تدعيها وهو إعادة بناء الدولة المدنية الديمقراطية.

ولكي لا نخدع أنفسنا مرة أخرى، ولكي نتجاوز أخطاء الماضي، لابد من الإنطلاق من فهم خطورة العمل باستراتيجية محدودية الإمكانيات مقابل لا محدودية الأهداف، وبالتالي فإن أي تيار سياسي يعتمد على عدد محدود من الأفراد بالرغم من أن الانتفاضة وفرت رصيدا غنيا بالرجال والأفكار. ولكن غياب القيادة والإرادة والرؤية السياسية والبرنامج النضالي جعلت من هذه المقولة مطبقة على أرض الواقع في تجربة ثورة فبراير.

نحن في حاجة ماسّة إلى برنامج عمل يتلخص في مهام متواضعة نبذل فيها جهدا كبيرا نحقق بها أهدافا متوضعة، ونكرر التجربة حتى نشعر بالحركة نحو الأهداف الاستراتيجية

____________________

مقالات مشابهة