المحرر

المهنية النضالية السياسية

يبدو أن أطراف الصراع والمتدخلين فيه من الخارج والمراقبين كلهم لديهم شكوك في أن تيار فبراير قادر على أن يكون البديل الفعال للنظام السابق، وذلك واضح من التحليلات السياسية في الصحافة الغربية المعروفة بمهنيتها وموضوعية تقاريرها وخاصة في مقالات العديد من الكتاب الأجانب الذين غطوا باقتدار الأوضاع على الساحة الليبية قبل وأثناء وبعد سقوط النظام السابق.

فهل نحن على قناعة بإن تيار فبراير قادر لوحده أن يكون البديل السياسي والدولة التي نتحدث عنها ونبشر بها في وسائل التواصل الاجتماعي برغم أننا لم نتفق تماما على التفاصيل، وظل حديثنا عن الدولة المنشودة فيه الكثير من التعميم.

تحتاج الإجابة على هذا السؤال إلى قدر كبير من الواقعية والتجرد والصراحة والوضوح! ثم إذا كانت الإجابة بنعم، فهناك حاجة إلى قدر كبير من الجرأة للاتفاق على رؤية سياسية وإرادة سياسية لصياغة استراتيجية وبرنامج لتحقيق الأهداف

إذاً، فنحن نحتاج إلى ما يُنمّي المواقف السياسية الشجاعة وتلك القدرة النضالية والإرادة السياسية ويترجمها إلى ما نسميه المهنية السياسية النضاليةأو الاحتراف النضاليحيث يتجاوز أداءنا السياسي دائرة العمل العشوائي والإنشغال بأفعال العدو ونستبدله ببذل الجهود المطلوبة لبناء المهارات وسلوكيات المهنية السياسية.

تجربتنا السياسية القصيرة أثبتت أن المهنية السياسية تصعب على أدعياء الدهقنة والحذاقة ومدمني الخبت والمكر والكذب وممارسي المناورات والخداع وغيرها من الصفات الخسيسة التي تشع من وجوه المتصدرين للمشهد .

هؤلاء كلهم ينطلقون من فرضيات وقراءات خاطئة في أدائهم السياسي، فخطابهم الشعبوي لا يولد أي فعل نضالي مبارك، وتحركهم مبني على نرجسية عاشقة للذات الفاسدة وهي لا تخلّف أي فائدة .

***

عادة ما يفضي عدم الوضوح إلى التخبط والضرب العشوائي والفوضوى وخاصة عندما يكون هناك خلط بين الاستراتيجية والتكتيك.

فالاستراتيجي، بالنسبة لثورة فبراير، هو إقامة بديل يتناقض ويتفوق في شكله ومحتواه على ما كان عليه النظام السابق.

أما التكتيكي، فهو مجموع الأساليب وطرق التعامل مع أطراف الصراع بما فيه العدو الرئيس أو مجموع الأعداء.

فالمناورات السياسية، والمعارك الاعلامية، وعمليات التضليل المعلوماتي، والمواقف البراجماتية، وغيرها كلها من أساليب التكتيك، وأذا ما حُسمت معركة اعلامية بين فصائل الثورة أو تم السيطرة على خلافات في التيار المدني، فلا يمكن أن تتسع المعركة إلى إطار الموقف الاستراتيجي ولا ينبغي أن تتحول المعركة إلى موقف مصيري يضرب بعرض الحائط كل جسور الوصل التي تخدم الاستراتيجية.

أما السعي لإقامة بديل بنفس القيم والمبادئ التي يقوم عليها النظام السابق الذي تم استئصاله (كالفردية، والجهوية، والزعامة المطلقة، والقيادة الفريدة .. الخ) فذلك أمر مرفوض ولا يمكن أن يقبل على أنه من التكتيك، ذلك يعني أن أي جهد يبذل لاستبدال طاغوت بغيره أو استبداد بمثله، أو دكتاتورية بغيرها، أو فوضى بأخرى، أو قائد مستبد بمشير صائل، كل ذلك هو من الجهد الضائع والعمل الفاسد الذي يتناقض تماما مع الاستراتيجية التي أعطت ذلك الجهد الشرعية التي استند عليها أصلا.

***

أحيانا تكون المواقف التي يتخذها البعض مفروضة بحكم الأمر الواقع أو الضغوط المختلفة، ولكن الكثير من تلك المواقف ما تكون تحمل في ثناياها خضوعا لمبدأ الغاية تبرر الوسيلةوتلك المواقف عادة ما توقع التجربة كلها في الشبهات.

وأحيانا أخرى يصر البعض على مبدأ فكونا من المثالياتوالتركيز على بعض التجاوزات، لأن الغاية تبرر الوسيلة.

لذلك علينا ألا ننزلق في مطب تحقيق الأهداف بأية وسائل متاحة ولو كانت تتناقض مع ما تدعو إليه الثورة من قيم ومبادئ، فالغاية هي التي تحدد الوسيلة ولكن لا تبررها، بمعنى أن الخلط بين الغاية السامية لا تتحق إلا بالوسائل المشروعة.

إن الخلط بين الغايات والوسائل تدفع تيار الثورة إلى التأرجح بين المواقف المتناقضة وتبني الأسلوب الذرائعي الذي يتخذ من النتائج العملية مقياسا لتحديد قيمة وصدق المواقف والأفكار، ولكن في نفس الوقت يتم رفض أي محاولة لتحليل النتائج حتى نتمكن من الحكم بموضوعية على نجاحها أو فشلها

فكلما يُصرّ طرف ما على الخلط بين الغايات والوسائل، وبين البراجماتية والدوغماتية، يقع التيار  في خطأ تصور معين وتبنى رأي معين وتوقع نتيجة معينة بشكل قطعي دون وجود أي مبررات كافية ولا بينة ولا دليل مقنع.

في كثير من الأحيان، الأهواء هي التي تحوّل التفكير البراجماتي إلى موقف دوغماتي.

لا يمكن لأي ثورة شعبية أن تكون بديلا للنظام السياسي التي أسقطته بعد حرب أهلية مُكلِفة إلا إذا استطاعت أن تثبت جدارتها على كل القوى القائمة والمنافسة.

عندما تثبت الثورة جدارتها بحق فإنها ستكون البديل لما كان قائما مهما طال الزمن.

إن صناعة أي شيء له أثر في الحياة ولو كان بسيطا لا يمكن أن يتم وينجح دون مغامرة ومخاطرة فكيف بتغيير نظام سياسي كان متمكنا لعدة عقود، وإن افتقد لكل أنواع الشرعية.

ولكن

المغامرة تكون تهورا وانتحارا إذا لم تستند إلى مهنية وكفاءة، والمهنية وتلك الكفاءة وذلك الاقتدار يمكن أن تكتسب مهاراتها بالتضحية والتدرب مع توفر الاستعداد النفسي والفكري والعملي.

مقالات مشابهة