الحسين بن عمر
في الذكرى الثانية عشرة لاندلاع شرارة الثورات العربية من مدينة سيدي بوزيد التونسية في كانون الأول (ديسمبر) 2010، وفيما تشير البيانات الحقوقية الدّولية وتقارير المنظمات الأممية، إلى تدحرج لافت في مؤشرات الحريّة والصِّحافة ومُدركات الفساد.
وبينما ظلّت أشواق الربيع الديمقراطي تموج بين الانتكاسة والارتجاج، يتجدد السؤال من داخل حقل العلوم الاجتماعية: هل فشلت الثورات؟ وهل غرُبت شمسُها قبل أن تضيء الدياجير؟ كيف قَنعتِ الحشود الهادرة دواخل المدن والقرى المنتفضة بالعودة سريعا إلى غَياباتِ جُبِّها قبل أن تُشيّع جنائز أنظمتها الساقطة إلى حيث مثواها الأخير؟ هل تحمل الثورات بذور انتكاستها وفشلها أم أنّ نجاحَها رهينُ فهم تعقيدات معطلاتها؟
بقدر نجاح الأنظمة الأمنيّة والعسكريّة في كلّ من تونس ومصر في إعادة عقارب الزمن السياسي إلى ما قبل الشّرارة وقادِحها في أقلّ من عقد من الزمن، إلاّ أنّ الردّة السياسية والخيبة الاقتصاديّة في كلا البلدين لم تأتيا على مقوّمات البُنى الاجتماعيّة القائمة على روح المواطنة والتي كان للإرث الإصلاحي والتنويري بالغ الأثر في صونها واستدامتها.
على العكس من ذلك، وبالرغم من الدّمويّة التي وُوجِهت بها ثورة 17 فبراير 2011 من قِبَل أعتى الأنظمة العربية دكتاتورية وشعبويّة، فإنّ معركة الإطاحة بجماهيرية القذّافي تركت نُدوبَا غائرة وأحيت نعراتِ قبلية وإثنية وعشائريّة لا تزال النخبة الليبية تكافح لإنهاء انقسام جغرافيا الدّولة ومؤسساتها وتناضل من أجل تضميد جراحات مجتمع –ما قبل الدّولة ومداواتها.
أيّ علاقة بين ما تشهده ليبيا اليوم من فورة نزاعات عسكرية دامية وتفتّت اجتماعي وتشظ سياسي ومؤسساتي وصراع على الثروة والسلطة والاعتبار وبين تواصل دور منظومتي القبيلة والعشيرة في الفضاءين السياسي والمجتمعي وتناميهما؟
لماذا يتواصل ارتهان الفعل السياسي من قبل الفاعل المجتمعي الليبي وتعقيداته القبلية والعشائريّة، عكس ما هو قائم في تونس ومصر، الدولتان الجارتان لليبيا؟
لماذا فشل التحديث في ليبيا في تثوير أشكال الولاء التقليدي للحواضن القبلية وما قبل حداثية وتحويلها إلى استحقاقات مواطنية؟
في هذا الإطار يتنزّل كتاب “ليبيا: الدّولة وما دونها: قراءة في مسارات التحديث من 1951 إلى 2001 م“، لمؤلفه خليفة علي حدّاد والذي اشترك في نشره كلّ من “مركز ليبيا المستقبل للإعلام والثقافة” و“دار الرواد للنشر” وقدمه د. حسن الأشلم؛ أستاذ الأدب العربي الحديث بكلية التربية بجامعة مصراتة.
وقد اجتهد الكاتب خليفة علي حدّاد في تتبّع مسارات التحديث وتعثراتها بالدولة الليبية الحديثة طوال الفترة الفاصلة بين تاريخ إعلان دستور المملكة الليبية سنة 1951 وتاريخ قيام ثورة 17 فبراير 2011. ولم يغفل التقصي التاريخي مسح البنيتين الاجتماعية والثقافية اللتين بصمتا هندسة المشهد السياسي الحالي، بمختلف تعقيداته القبلية والاثنية والعشائريّة، ونقدها.
فكرة الكتاب
يتقصّى كتاب “ليبيا.. الدولة وما دونها: قراءة في مسارات التحديث من 1951 إلى 2011″، فرضيّة شديدة التعقيد تتمثّل في تبيان أسباب فشل النخب الليبية، في كلّ المراحل اللاحقة لاستقلال 1951، في “كتابة عقد اجتماعي يحدد ملامح الهوية الوطنية الليبية الجامعة، ويرسم ملامح الكيان، ويفضي إلى فرض شكل للحكم يكون نتاج جدلية إيجابية بين السياسي والاجتماعي“.
هنا كان مناط البحث الذي حفر في خطورة إسقاط نموذج الدولة الجاهز وإداراتها، تنضاف إليه منظومة سياسية جاهزة، على منظومة مجتمعيّة ليبيّة حاملة لتشوّهات بنيوية عميقة، فيما يتعلّق بمفاهيم القبيلة والإثنية والجهويّة.
وحفر الكاتب، على وجه الخصوص، فيما أسماها د. حسن الأشلم، مقدّم الكتاب، بالعلاقة الجدلية ذات الطبيعة الإشكالية المعقدة بين التحديث السياسي والتحديث الاجتماعي، معرّجا على “نقطة جوهرية ألا وهي التعليم بوصفه المرآة التي تعكس حقيقة التحديث في بعديها السياسي والاجتماعي“.
وقد نجح الكاتب “المتقصّي” في البرهنة والاستدلال على عقم مسارات التحديث المسقطة والسطحيّة التي انتهت إلى تفكيك شكليات الدّولة بدل تفكيك البنى التقليدية للمجتمع المناقضة ضرورة لمفهوم الدّولة. ليبقى التحدّي الأكبر أمام الليبيين ونخبهم هو ما أشار إليه د. حسن الأشلم من ضرورة “تشكل وعي جمعي حقيقي يخلق الانسجام بين التحديث الاجتماعي والسياسي“، بديلا أبديّا عن دعاة الفوضى أو ينتصر دعاة العودة إلى ما قبل ثورة 17 فبراير.
السياقات الاجتماعيّة محرّكا وفاعلا سياسيّا
يؤكّد المؤلّف أنّ ما تشهده ليبيا، اليوم، من نزاعات عسكرية دامية وتفتّت اجتماعي وتشظ سياسي ومؤسساتي وصراع على الثروة والسلطة والاعتبار، “هي أحداث خاضعة لقوانين السببية وسنن الاجتماع الإنساني، وليست مجرد أحداث طارئة على خلفية ما شهدته البلاد منذ فبراير 2011؛ وإن بدت كذلك“.
وخير مثال على ذلك، وفق المؤلف، هو التشظي السياسي والاجتماعي والمؤسساتي الذي شهدته ليبيا، اعتبارا من 2011؛ والذي تمأسس سنة 2014 بظهور مؤسستي حكم، بأجهزتهما السيادية والتنفيذية والبرلمانية، في شرق ليبيا وغربها، والذي مازال ماثلا وقابلا للتكرار رغم التسويات الهشة التي توجت بتوافق جنيف 2021، دافعُ للتساؤل عن طبيعة الدولة التي أعلنت منذ سنة 1951؛ بإقرار دستور المملكة الليبية المتحدة، ثم توحيد الأقاليم الثلاث؛ طرابلس وبرقة وفزان، وعن صلتها بشروط تشكّل الدولة الحديثة؛ القائمة على حكم القانون وإعلاء رابط المواطنة واستحقاقاته بديلا عن الروابط التقليدية.
في ذات السياق، يضيف خليفة علي حدّاد أنّ عملية تتبّع السلوك السياسي للحكم الملكي، حتى سنة 1969، ثم الحكم “الجماهيري” حتى 2011، تمنح مادة خصبة لرصد الهوة بين الخطاب السياسي والتشريعي من جهة، والممارسة السياسية من جهة ثانية.
ففي حين كانت الشعارات المنحازة للتجديد والتحديث والقطيعة مكثفة الحضور في الخطاب السياسي الرسمي، “ظلت الممارسة نُكُوصيّة ومُعلّية لروابط القبيلة والجهة والزّبُونيّة ووشائج ما قبل الدولة الحديثة“.
وبالرغم من أنّ ظهور أنماط استهلاكية حديثة وارتفاع نسبة التمدرس بالجامعات مهدوا الأرضية، من حيث المبدأ، لتحديث الدولة والمجتمع، إلا أن ضعف المؤسسات التشريعية والرقابية والمدنية، وسيطرة السلوك الرّيعي في التعاطي مع الطفرة الاقتصادية، وتجذر البنى الذهنية والثقافية التقليدية، “حوّلها إلى عائق آخر أكثر تركيبا وتعقيدا، حال دون المضي في تحديث الدولة والمجتمع، وكرّس الغنائمية والزعاماتية“.
دستور 1951 ومساعي تحديث الدولة والمجتمع
اعتبر المؤلّف دخول ليبيا مرحلة الحكم الدستوري، من حيث المبدأ، تأسيسا لنمط حديث من التنظّم السياسي والاجتماعي يتجاوز المرجعيات التقليدية وروابط ما قبل الدولة؛ التي ظلت المنظومة الاجتماعية قائمة عليها؛ بما يجاري أهم شروط دخول مرحلة التحديث السياسي؛ ومن بينها فصل السلطات، وقيام المؤسسات الحديثة؛ من برلمان وحكومة مركزية وأجهزة أمنية وعسكرية نظامية، ومساواة المواطنين أمام القانون، وتنظيم العلاقات التعاقدية بين الدولة والمجتمع، وداخل المجتمع، وفق مبدأ المواطنة.
كما عُدّت بعض فصول دستور 1951، تجاوزا جريئا للتراتبية الاجتماعية الموروثة وللفرز الاجتماعي وفق معايير تقليدية. ويكتسب هذا التجاوز أهميته عند تنزيله في سياقه الزمني والمكاني. فالمجتمع الليبي، حينها، كان محكوما بنواميس قبلية صارمة؛ ترتّب وفقها المكونات عموديا، سواء بين القبائل أو بين أفراد القبيلة نفسها.
ففي حين كانت القبائل الكبرى؛ خاصة في برقة وفزان، تتمتع بالنفوذ السياسي والاقتصادي والحظوة، كانت قبائل أخرى؛ أدنى شأنا وأقل عددا، تكتفي بأدوار تابعة. أما داخل القبيلة نفسها، فكانت مكوناتها ترتّب حسب نسبها العائلي ونفوذها الاقتصادي، وقد بدا ذلك جليا حتى في تكوين الجمعية التأسيسية التي استأثرت القبائل الكبيرة والعائلات النافذة بجلّ مقاعدها.
أما في السياق الاجتماعي والحضاري؛ العربي الإسلامي، فلم تكن فكرة المواطنة واستحقاقاتها، حينها، قد تبلورت كشرط من شروط الانخراط في مشاريع التحديث والتغيير الاجتماعي، ولم تكن تمثل أولوية لدى النخب السياسية التي تولت الحكم في عديد الأقطار التي بدأت تتلمس طريقها بعد جلاء المستعمر الأجنبي.
ومازال الانتماء إلى حواضن ما قبل الدولة الحديثة؛ من قبيلة وطائفة وغيرها، عامل فرز ومحددا للنفوذ والتراتبية الاجتماعية والسياسية، إلى يومنا هذا، حتى في الأقطار العربية التي شهدت تجارب تحديث؛ اجتماعي وسياسي، جريئة، نسبيا، قياسا إلى غيرها.
***
الكتاب: “ليبيا: الدّولة وما دونها؛ قراءة في مسارات التحديث من 1951 إلى 2011 م”
المؤلّف: خليفة علي حداد
النّاشر: دار الروّاد– طرابلس
الطّبعة الأولى: 2022
عدد الصّفحات: 120
__________