علي اللافي

ب ـ التساؤل الثاني حول فسيفساء المشهد الحزبي ومختلف مساراته بين 2011 و 2022

غياب الأحزاب طيلة أربع عقود وحدوث ثورة 17 فبراير اوجد تيارين كبيرن في ليبيا بعد 2014 اختارت الأحزاب القديمة والجديدة (والمقننة ما بعد 2011) الى تيارين رئيسيين وهما:

تيار فبراير قبل وبعد 2014 وصولا لنهاية 2022

عملياً بدأت كتلة أنصار فبراير في التآكل الفعلي تحت تأثير عوامل الفوضى وانعدام الأمن منذ نهاية عام 2013 حيث فقدت الكثير من أنصارها وخاصة من عموم الشعب الذين لا أجندات سياسية أو إقليمية لهم، وكانوا يرون في التغيير تحولاً إلى الأفضل لكن آمالهم تبخرت، وساء الوضع الاقتصادي والاجتماعي وسط المعركة السياسية، وتعقدت أوضاع الليبيين المعيشية، وانعدم الأمن كلياً، وكثرت العمليات الإجرامية، وخاصّةً عمليات الخطف على الهوية، وحدثت الخيبات، وسقطت أحلام التغيير والاستقرار ومقولات ليبيا الغد وسط تواصل الصراع بين حكومتي الإنقاذ في الغرب الليبي، وحكومة “الثني” في الشرق (حتى فبراير 2021) ثم ظهرت حكومة باشاغا بداية من مارس 2022 وهما حكومتين تحكم فيهما عدد من قيادات الجيش بينما أعضاء حكومة وبرلمان طبرق ليسوا سوى واجهة سياسية.

وعملياً تشكل المشهد السياسي إثر تطورات أحداث 2014 من التالي:

الإسلاميون: وأغلب أحزابهم تشكلت بعد أكتوبر 2011، وإن كانت تواصل، وتجاوز لتيارات إسلامية ظهرت في عقدي السبعينات والثمانينات وبداية التسعينات على غرار “الجماعة الليبية المقاتلة” و”الإخوان المسلمين” و”التجمع الإسلامي”، أما راهناً فهناك أحزاب إسلامية عديدة وصغيرة وبعضها لا أفق سياسي له باستثناء “حزب العدالة والبناء” بقيادة “عماد البناني” (وهو الذراع السياسي للإخوان المسلمين في ليبيا) بدرجة أولى، وحزبي “الوطن” (بقيادة عبد الحكيم بلحاج) و”الأمة الوسط” (بقيادة “سامي الساعدي”) بينما تم خلا سنة 2022 تأسيس الحزب الديمقراطيعلى يسار الإسلاميين وبقيادة زعيم العدالة والبناء السابق “محمد صوان”.

الليبراليون: ويتشكلون في تنظيمات وأحزاب هي أقرب للصورية باستثناء “قوى التحالف الوطنية” وبعض أحزاب أخرى تم تأسيسها سنة 2021، ، كما أن حزب “الجبهة الوطنية” له قدرة على استرجاع إشعاعه التاريخي، وأهم زعيمين له تاريخيا هما: “عبد العزيز صهد” و”محمد المقريف” (المقيم في سلطنة عمان حالياً) أما حاليا فيقود الحزب الأستاذ “عبد الله الرفادي”.

انصار النظام السابق وتنظيماتهم السياسية بين 2014 و2022

عملياً وجد أنصار القذافي أملاً في العودة من بعيد عبر دعمهم الخلفي للجنرال المتقاعد خليفة حفتر بشكل مؤقت في انتظار تطور الأحداث والذي اعتمد على ضباط سابقين، والذي كانت استراتيجيته المرحلية سنة 2014 السيطرة على مدينة بنغازي في انتظار تطور الأوضاع إقليمياً، وعملياً وظف حفتر شعور أنصار القذافي بالهزيمة، وخاصّةً المتمركزين في تونس، ومصر، وهم الذين مكثوا في البداية ينتظرون وعن قرب يراقبون، ويتربصون، ثم وجدوا في ظهور الخلاف داخل تيار فبراير متنفساً لهم، فبدأوا بالمجاهرة بذلك حتى أنهم أعلنوا تمسكهم بنظامهم السابق في صائفة 2013 مع الظهور القوي للثورتين المضادة في تونس ومصر وخاصّةً بعد الانقلاب العسكري على الرئيس “محمد مرسي”، وتجلى ذلك بوضوح من خلال الملتقيات والمسيرات في بعض مدن مختارة بدراسة ودراية، ورافق ذلك ظهور وعودة قنوات إعلامية محسوبة عليهم، فتواصلوا معها، فمولوها، وخدمتهم تواصلياً عبر ترذيل تيار فبراير فاعلنوا  لاحقا عن بعض التنظيمات السياسية على غرار:

الجبهة الشعبية لتحرير ليبيا”، والتي اتخذت من مصر مقراً لها، وأعلنت عن نفسها في عام 2014 قبل أن يتم تغيير تسميتها بـ”الجبهة الشعبية الليبية” مع بداية 2017، وهو تنظيم اختار “سيف القذافي” زعيماً له رغم أنه يومها ما زال في الأسر (لم يقع إطلاق سراحه إلا في 10 يونيو 2017)، وهو يتنقل اليوم بين اوباري ومناطق الجنوب أين توجد قبيلته رغم أن وضعه الصحي ورفض واشنطن له يُعيقه عملياً في لعب دور سياسي، وسيكتفي حسب البعض الآخر بالتوجيه ودعم المصالحة الوطنية المرجوة ودعم أنصاره برلمانيا.

حركة النضال الوطني“، وهو فصيل دعمه “أحمد قذاف الدم”، المقيم في مصر، ويلتف حوله الكثير من أنصار القذافي وخاصّةً من الضباط السابقين في جهاز الأمن الخارجي

جبهة الخلاص الوطني“، وهو فصيل تدعمه عائشة القذافي، وتم الإعلان عنه خلال سنة 2015م، ويهدف إلى عودة نظام أسرة القذافي تحديداً، ويقدم سيف كحاكم للجماهيرية الجديدة، وقد أكد البعض أنه غيّر من استراتيجيته منذ بداية 2017 وليغيب تماما مع بداية سنة 2021

ويخلط أنصار القذافي والمنقسمون على أنفسهم، بين السياسي والقبلي حتى أنهم قبل تأسيس التنظيمات الثلاث فقد ركبوا موجة دعم ما يسمى بمؤتمر القبائل والمدن الليبية والذي يبدو ظاهرياً أنه يشمل كل المدن والقبائل الليبية، ويخطأ من يعتقد أن أنصار القذافي وحدة متكاملة أو أنهم من الممكن أن يشكلوا حزباً سياسياً بالمعنى الكلاسيكي، أو أن ذلك الحزب أو تنظيماتهم قابلة للعيش مطولاً أو أنهم من الممكن أن يبقوا تحت جبة “سيف” لسنوات حتى تتوضح الأمور اقليميا ودوليا ومحليا.

ج ـ التساؤل الثالث حول علل الظاهرة الحزبية في ليبيا بين سطوة الاجتماعي وتضخم دور المليشيات ومؤثرات الإقليم؟

أولا، بعد 2011 وبعد انتصار ثورة فبراير ونجاحها في اسقاط نظام القذافي شهدت ليبيا طفرة في لجوء الأفراد والمجموعات إلى تأسيس الأحزاب السياسية، بعد منع امتد لأكثر من 4 عقود، وخلال حوالي 11 عاماً جرى إشهار ما لا يقل عن 110 أحزاب.

اعتمدت لجنة شؤون الأحزاب السياسية التابعة للمجلس الأعلى للقضاء الليبي سنة 2021 أوراق تأسيس 8 أحزاب منها لممارسة العمل السياسي. لكن العديد من المنعطفات السياسية التي مرت بها البلاد خلال العقد الأخير بينت غياب دور تلك الأحزاب وضعف تأثيرها، إذ اكتفت بإصدار البيانات، سواء المؤيدة لحدث ما أم المنددة بحصوله، فيما اكتفى بعضها الآخر بحضوره على صفحات التواصل الاجتماعي.

ولا يُعرف على وجه الدقة ما إن كانت هذه الأحزاب لا تزال قائمة أم حلت نفسها، والثابت أن غياب دور الأحزاب في المشهد الليبي، يعود إلى أسباب عدة، بعضها مرتبط بالانقسامات التي شهدتها بعض الأحزاب المدنية نفسها، والبعض الآخر يعود إلى تركيبة المجتمع الليبي الذي يسيطر عليه تاريخياً التنافس القبلي والجهوي.

ذلك ظهر جلياً في منح الأحزاب حصة قوامها نحو 40 في المئة من المقاعد فقط (80 مقعداً) في انتخابات المؤتمر الوطني التي جرت عام 2012 (أول انتخابات برلمانية تجرى في البلاد ما بعد القذافي)، فيما حصل الأفراد المستقلون المدعومون من القبائل والعائلات الكبيرة على 60 في المئة (120 مقعداً).

بل إن تظاهرات خرجت عام 2013 داعية إلى حل الأحزاب شجعت “المؤتمر الوطني العام”، الذي سيطر عليه المستقلون، على إصدار قانون قوّضت نصوصه من مشاركة الأحزاب في انتخابات مجلس النواب التي جرت في يونيو 2014.

ثانيا، تداعيات تحول الصراع السياسي إلى عسكري منذ عام 2014، ألقت بانعكاساتها على المشهد برمّته وفي القلب منه دور الأحزاب السياسية، ففي بلد يحكمه صراع القوة، ينسحب الاهتمام الشعبي بالمشاركة السياسية المدنية، فيما تصاعدت سطوة قوى الإسلام السياسي، وارتباطها بالميليشيات المسلحة، من جهة، وبمشاريع إقليمية من جهة أخرى (تقارير دولية ومحلية فإن ليبيا تضم أكبر مخزون في العالم من الأسلحة غير الخاضعة للرقابة، إذ تحتوي على نحو 30 مليون قطعة سلاح بين خفيفة ومتوسطة وثقيلة بأيدي الميليشيات وعصابات التهريب والجريمة أو العشائر).

ورغم أن البعض يرفض تحميل التركيبة المجتمعية القبلية في ليبيا مسؤولية ضعف التجربة الحزبية، فان الثابت أنها اعاقتها بنيويا ومع ذلك فهناك كثيرين يتطلعون لتشكيل كيانات في ليبيا تساهم في استقرار البلاد وترسيخ العملية الديموقراطية وطبعا لو جرت انتخابات تشريعية وفقاً للنظام الدستوري والقانوني الحالي “سيكون الأفراد المستقلون الأكثر حظاً في الفوز بالانتخابات، ولكن سيتغير الأمر بالوقت وطبعا سيتغير المشهد السياسي وسيكون للأحزاب دور في المستقبل عندما يكون لليبيا سلطة منتخبة ودستور دائم.

ثالثا، بعد عام 2011 بدأت تنشط الحياة الحزبية في ليبيا مع تسهيل إجراءات تأسيس الأحزاب، لكن الملاحظ أنه بعد عام 2014 وكما بينا ذلك أعلاه بدأت الأحزاب الانحياز إلى المعسكرات الفاعلة على الأرض، فهناك عدد من الأحزاب أغلب أعضائه من قيادات النظام السابق، أبرزهم حزب “الحركة الوطنية الليبية الشعبية”، وهؤلاء يتركز نشاطهم في المنطقتين الشرقية والجنوبية، ويدعمون قوات خليفة حفتر، فيما هناك أحزاب أخرى على رأسها حزب “العدالة والبناء” (الذراع السياسية للإخوان) وهؤلاء ينشطون في الغرب الليبي ولسندهم الاجتماعي ظهير موال للميليشيات وفي حد ادنى هم في تقاطع معهم سياسيا واجتماعيا.

د ـ التساؤل الرابع حول حضور ومستقبل الأحزاب في ليبيا في أفق نهاية 2023

الخلاصة أن التجربة الحزبية لم تنضج بعد رغم أنها أفضل حالا من بعض بلدان عربية كثيرة في المشرق والمغرب العربي وفي الشرق الأوسط، وطبعا سبب ذلك هو أن الفاعل على الأرض هي القوة العسكرية كما أن النشاط الحزبي في البلاد جاء بعد حرمان لعقود، بالإضافة إلى أن الأجواء ملبدة والعملية السياسية متعثرة”، مشدداً على أن “التجربة الحزبية تحتاج إلى دولة مستقرة، كما أن العدد “المهول” من الأحزاب، يفوق التمثيل السكاني في ليبيا.

و”كثرة الأحزاب دلالة واضحة على عدم التوافق في الرؤى وكذلك على الانقسام، ونهم البعض وشغفهم برئاسة حزب وتصدر المشهد إعلامياً ومن المترقب مستقبلا وخاصة إذا تم فعليا انتخاب سلطة دائمة في البلاد فستندمج أغلب هذه الأحزاب.

ويوجد في ليبيا اليوم فريقين مختلفين حول رؤية دور الأحزاب، والفريق أول متفائل ويعتقد أن الامر متربط بالوصول الى تأسيس مسار ديمقراطي بعد انجاز الاستحقاقات الانتخابية، بينما يبدو الفريق الثاني متشائما بل ويشكك في قدرة الأحزاب على تنظيم صفوفها، استعداداً للتنافس في الانتخابات التشريعية إذا أجريت.

ويمكن هنا التساؤل التالي:

هل لدى الأحزاب الحالية من تياري فبراير وسبتمبر قدرة على التواصل مع المواطنين والتعامل معهم وفهم ديناميكية الوعي الجمعي؟

وهل في ليبيا اليوم حياة حزبية فاعلة؟

وهنا يمكن تفهم انتفاضة الأحزاب الأخيرة ذلك أن شكل النظام الانتخابي لم يتحدد بعد، وما إن كانت ستُجرى وفقاً للنظام الفردي أو القوائم أو الجمع بين النظامين، لكن في كل الأحوال فإن الأحزاب والكيانات السياسية غير موجودة، وإن وجدت، فهي لا تعبّر عن الديموقراطية بوجهها الحديث وهو ما يعني أنه امام الأحزاب المائة والمقننة في ليبيا في افق نهاية 2023 عمل كبير لتكون مستقبلا قادرة على احداث موازين القوى سياسيا وبالتالي طرح بدائلها ومشاريعها في قيادة الدولة الليبية.

***

علي اللافي كاتب ومحلل سياسي مختص في الشؤون المغاربية والافريقية

ما ورد في  المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب وليس عن وجهة نظر المركز

___________

المغاربي للدراسات والتحاليل

مقالات مشابهة