د. صالح السنوسي
لعل أحد مميزات ثورات الربيع العربي افتقادها للقيادات في بداياتها، أي أنه لم تكن هناك قيادات تحت الأرض تقوم بالسيطرة والتنظيم وتوزيع المهام وتحديد الأهداف حسب مخطط تم إعداده مسبقا قبل بدء الصراع والخروج من حالة الكمون إلى حالة الفعل.
هذا ما يمكن تسميته قاسما مشتركا بين هذه الثورات رغم اختلاف طبيعة الفعل الثوري الذي ميز كل منها عن الأخرى، ولعل الثورة الليبية تجلت فيها هذه الميزة بوضوح أكثر، ولعل ذلك أيضأ منطقيا بالنظر إلى سببين:
الأول يتعلق بطبيعة النظام السياسي وقدرته على السيطرة، فهو نظام باطش لا يتردد في استخدام أبشع وسائل القمع ضد معارضيه، كما أن طول تجربته في الحكم التي وصلت إلى أربعة عقود إلى جانب حيازته لثمار تكنولوجيا الغرب في مجال الرصد والرقابة والتجسس كل ذلك عزز قدرات أجهزته الأمنية وجعلها قادرة على كشف أي تنظيم وهو ما يزال في طور النواة.
وبالتالي فإن أي نشاط يصدر عن جسم تنظيمي له قيادة وآليات لا يلبث أن يتم اكتشافه والقضاء عليه في مهده، وهذه ميزة لم يكن ينفرد بها نظام القذافي فقط.
السبب الثاني له علاقة بخبرة ومزاجية القوة الفاعلة التي بادرت بالفعل الثوري ضد نظام القذافي، فلا شك أن هذه القوة التي تحدّت النظام في البداية كانت في أغلبها من شريحة عمرية يمكن تصنيفها في فئة الشباب.
هذه الفئة تميزت بصفتين لعلهما ساعدتا في التغلب على أجهزة الرصد والرقابة ولكنهما أصبحتا عبئا على مسيرة الثورة بعد انتصارها.
تمثلت هاتان الصفتان في:
1- قلة الخبرة في التنظيم والقيادة لدى هذه الفئة الشبابية الأمر الذي جعلها تفتقر إلى وجود تنظيم له قاعدة وقيادة أو رأس مدبر توجه الحركة وتسيطر على الفعل، وهذا ما جعل أجهزة الأمن في حالة ضبابية أمام وضع هلامي لا يوجد فيه رأس حية يمكن قطعه.
فقد كانت هذه الأجهزة –على ما يبدو– أمام حالة عامة من السخط والغضب والمعاناة بين فئات المجتمع وأن هذا الحالة تعكسها أدوات التواصل بين مئات الآلاف من الشباب الذين يزبدون ويتوعدون ويبحثون عن مخرج دون أن تكون لهم مرجعية أو قيادة يتلقون منها التعليمات وخطط العمل.
وهذا وضع غير مسبوق بالنسبة لهذه الأجهزة التي ترى وتسمع نذير حدوث شيء ولكنها لا تجد قيادة أو مركز تفاعلات يمكن الإحاطة به وتصفيته.
لهذا لم يكن أمام أجهزة الأمن سوى متابعة ما يجرى من خلال مراقبة وسائل الاتصال الاجتماعي مثل موقع فيسبوك، وهذه لاشك مفارقة أخرى من مفارقات هذه الثورات، حيث سمحت أجهزة الأمن أو غضت الطرف عن هذا التواصل ولم تقم بقطعه وهى تملك القدرة على ذلك دون شك.
ولكن تلك هي الوسيلة الوحيدة المتاحة لها لمراقبة تطورات وضع لم تعهده من قبل ولا تصلح وسائلها المعهودة في مواجهته، وذلك على أمل أن تبرز بؤر قيادية يمكن حصرها ويصبح القضاء عليها ممكنا.
لقد بدا وكأن كلا الطرفين له مصلحة في عدم قطع وسائل التواصل، ولكن في حقيقة الأمر كان ذلك في صالح الشباب الذين لم يكن لديهم مركز اتخاذ قرار وكانوا في حاجة للتواصل وللتنسيق في ما بينهم.
2- مزاجية الفاعلين– كانت معظم أطراف التواصل في مرحلة ما قبل الخروج إلى الشارع تتكون في الغالب من شريحة عمرية تقع ما بين سن الثامنة عشرة وبين الثلاثين، وهى فئة لها طباع ومزاجية اختلفت عن الأجيال التي سبقتها.
فقد ولد هؤلاء ونشؤوا في ظل نظام القذافي وهو في عنفوان بطشه، فوقع بعضهم ضحايا لعنفه وتعرض بعضهم الآخر للإذلال والتخويف بقصد تدجينهم وطمس شخصيتهم، وأخضعوا جميعهم لعملية تنشئة وتلقين باعتبار أنهم –في نظر القذافي– غير مشوهين بثقافة أخرى سابقة على ثقافة نظامه.
غير أن كل ذلك أفضى إلى نتائج مغايرة لما كان يريده القذافي فتولدت في نفوس هؤلاء ردة فعل ضد الإذلال والتدجين وطمس الشخصية وأذكت فيهم روح التمرد التي ترنو إلى الانعتاق من الخوف وإلى التعبير عن نفسها كيف ما كانت العواقب.
كما نشأ لدى معظم هؤلاء ميل شديد نحو الاستقلالية وضد كل ما هو امتثالية، ولعل ذلك قد أثر أيضا سلبيا على مفهوم القيادة لديهم لأن هذه الأخيرة ترتبط –حسب فهمهم– بالتراتبية والطاعة وهم ثاروا بحثا عن الحرية ولكسر جملة من المحرمات ذات العلاقة بمفهوم القيادة والتي تذكرهم بمشاعر الإذلال وعدم الندية مثل، القائد المعلم والقائد الأممي والقيادة التاريخية.. وغيرها من الصفات المرتبطة بمفهوم القيادة والتي ظلت تستفز مشاعرهم وتطارد عقولهم منذ أن وعوا الحياة.
قبل الخروج إلى الشارع كان غياب القيادة والاستقلالية بمثابة أهم سلاح مكن هؤلاء من الانتصار على أجهزة النظام في مرحلة الكمون، ولكن بعد أن خرجت الثورة إلى العلن وانضمت إليها فئات مختلفة من المجتمع بدا عنصر القيادة والتنسيق الجماعي هما الشرطان الضروريان لاستمرارية الثورة ولاسيما بعد أن دفع بها النظام في اتجاه العسكرة، وهنا فرضت الظروف في معمعة الصراع نوعين من القيادات.
النوع الأول ظهر عندما أخذ الصراع مع النظام طابعا مسلحا، فهي قيادات ولدت من رحم الحرب ومعظمها لم يكن عسكريا، وكان هذا أحد أسباب سوء الفهم الذي كان يحدث في بعض الأحيان بينهم وبين العسكريين.
لاشك أن بعضا من هؤلاء أثبت جدارته أثناء المعارك كقادة ميدانيين يقودون كتائب مقاتلة، ولم يكن لهؤلاء في تلك المرحلة ما يشغلهم سوى الحرب والقضاء على نظام القذافي.
ولكن بعد نهاية التحرير وعودة هؤلاء إلى المدن والمعسكرات أظهر الكثير منهم نيتهم في الاحتفاظ بكتائبهم إلى جانب العمل في السياسة، وهذا يؤدى دون شك –في حالة إصرارهم على ذلك– إلى سوء فهم بينهم وبين القيادات السياسية، أي النوع الثاني من القيادات، وهذه الأخيرة تشكلت في أتون الصراع مع نظام القذافي وتعتبر نفسها الشريك الأكبر في النصر، فلولاها ما استطاع الثوار ببنادقهم وحدها أن يهزموا القذافي.
فهم الذين قاموا بتنظيم حركة المجتمع بكل فئاته أثناء الحرب ليقف خلف المقاتلين ويمدهم بكل شيء، وهم الذين أيضا أشرفوا على تنظيم الحياة الاقتصادية والإدارية وقادوا الحرب الإعلامية والدبلوماسية الدولية.
رغم أن كل الاتجاهات داخل المجتمع تفضل أن يتولى قيادة هذه المرحلة النوع الثاني من القيادات ولم تعد ترغب في رؤية المسلحين خارج الجيش الوطني، إلا أن المسلحين وقادة الكتائب يبدو أنهم استمرأوا ماهم فيه بعد التحرير ويرفضون مغادرة المشهد الذي يعتقدون هم أنهم صنّاعه الوحيدون وهم المعنيون بالدفاع عنه.
وبالتالي كانوا يتهمون النوع الثاني من القيادات بأن الكثيرين منهم من صنيعة القذافي وينبغي عليهم الرحيل، بينما يرى هؤلاء أن المسلحين وقادتهم أصبحوا أكبر خطر ليس على الثورة فقط بل أيضا على الوطن.
فهم يريدون فرض أنفسهم بقوة السلاح على المجتمع مثل ما كان يفعل القذافي بصرف النظر عن الشعارات، كما أنهم مخترقون بأعداد كبيرة من المنحرفين والمجرمين الذين أصبح بإمكانهم تكوين عصابات مسلحة في ظل انتشار كتائب مسلحة متعددة القيادات.
لاشك أن القادة المسلحين هم الأعلى نبرة والأكثر إخافة والأقل شعبية، بينما يظل النوع الثاني من القادة وغير المسلحين هم الأكثر قبولا بكل ما على الكثيرين منهم من تحفظات وتهم لأنهم على الأقل لا يحملون السلاح ولا يحملون ألقابا مرجعياتها مناطقية وجهوية ويمكن إزاحتهم إذا اقتضت المصلحة الوطنية.
إن تعددية القيادات مع ادعاء كل منها تبعيته للمجلس الانتقالي في ظل الظروف الليبية الحالية تشكل خطرا على الوطن والثورة معا لأن القوى الفاعلة في الثورة هم أولئك الشباب الذين ثاروا على وحدانية القيادة المتألهة، وقد يصابون بالإحباط أمام تعددية الرؤوس فيقعون ضحايا مشاريع غير وطنية لم تكن ضمن أجندتهم في يوم من الأيام.
___________