مقتطفات من كتاب “السلالة السنوسية الحاكمة: العائلة التي صنعت ليبيا” للمؤلف هاري هالم.
اتخذ الملك إدريس قرارا استقطابيا وتحويليا إثناء تصديه لأعمال الشغب عام 1952، وهو قرار يستحق التحليل بشكل مستفيض.
كان حزب المؤتمر هو الحركة السياسية المنظمة الوحيدة في البلاد آنذاك، وكان جميع المرشحين الآخرين ورئيس الوزراء مستقلين، وإن كانوا مرتبطين ببعضهم البعض من خلال دعمهم للنظام الملكي والحكومة القائمة.
وكان كذلك النظام السياسي الليبي الأولي فيدرالياً، حيث تم تفويض السلطة إلى حكام الأقاليم، الأمر الذي من شأنه أن يشعل معارك الميزانية بين الحكومة المركزية والأقاليم.
وفي هذا السياق، اعتبر إدريس أنه من الخطير جدا السماح بتنظيم الأحزاب السياسية، وبما أن إقليم طرابلس وحده الذي سينظم حزبا سياسيا، فإنه أصبح وسيلة لعدم الاستقرار. ومع ذلك، فإن قرار إدريس المتمثل في الإمتناع عن إنشاء حزب ملكي يدل على نواياه المتحفظة: لقد تمنى ببساطة تجنب الاضطرابات الداخلية الحادة في الوقت الذي أرست فيه ليبيا نفسها كدولة مستقلة.
يستحق هذا القرار تفسيرا أعمق. ونجد مرة أخرى أن هناك سجلات محدودة للتعرف على من اتخذ بالفعل قرار استبعاد الأحزاب السياسية آنذاك.
ومع ذلك، تظهر الأدلة الشفوية إن إدريس، بالتشاور مع أقرب مستشاريه ـ خاصة أولئك العاملين في الأجهزة الأمنية ـ قد اتخذ قرار الحظر بالإجماع.
قبل المضي قدماً، يجب أن نحدد بدقة الطبيعة القانونية لهذا الأمر الجزري، حيث يكرس دستور عام 1951 الحق في المنظمات السياسية، لكن النص الدستوري واضح: للأفراد الحق في مخاطبة السلطات العامة فيما يعرض لهم من الشؤون وذلك بكتابات موقعة باسمائهم، أما مخاطبة السلطات بإسم المجاميع فلا تكون إلا للهيئات النظامية أو الأشخاص المعنوية.
لم يمتد قرار حظر الأحزاب السياسية ليشمل المنظمات السياسية. لليبيين الحق، كما هو منصوص في المادة 27، في تشكيل منظمات سياسية. ورغم ذلك، اعتبرت الأحزاب بمثابة خط أحمر.
يتطلب تفسير هذا القرار كذلك من الناحية المنطقية استيعاب الحقائق الاجتماعية الليبية في عام 1952.
كانت الدولة الليبية الحديثة تعبيرا عن الإرادة الشعبية، على النحو الذي أراد الليبيون، مثل جميع الشعوب، يرغبون في أن يكونوا أحرارا وأن يحكموا أنفسهم كعرب ومسلمين. ظلت الانقسامات العميقة رغم ذلك قائمة بين أجزاء من الدولة الليبية، وهي انقسامات ظلت قائمة كذلك طوار فترة حكم القذافي وأثناء الحروب الأهلية.
وقامت الأنظمة القبلية كذلك بجعل الشعب الليبي يتأقلم مع الحكم الذاتي المحلي، لكن ذلك لم يمنحهم أي خبرة في المهام الإدارية للدولة الحديثة.
كان هدف إدريس، من خلال الإطار الدستوري، هو أن يتأقلم الشعب الليبي مع الحكم التمثيلي، وهو شرط لا غنى عنه للحكم الديمقراطي الحديث.
كان لابد من تبني الديمقراطية كعملية وليس كمرحلة نهائية. وقد ساهم ذلك في تطوير شخصية البلد الحديث بشكل أساسي ـ بلد تم إنشاؤه بموجب دستور، وليس من قبل فرد أو قبيلة أو حزب سياسي، على عكس أي دولة أخرى بالعالم في ذلك الوقت ومنذ ذلك الحين.
وفي عام 1952 كانت ليبيا في حالة دمار بسبب الاحتلال الإيطالي الوحشي الذي
دام لعدة عقود. وكانت ليبيا دولة فقيرة. وكان السكان أميين إلى حد كبير، بحيث تم إغلاق الجامعات السنوسية التي ساهمت في تعليم الألاف من الليبيين في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين خلال الاحتلال الإيطالي.
واجتاح المرض عددا كبيرا من سكان الريف. وإذا أرادت الدولة الحديثة أن تدعم نظاما تمثيليا، فعليها معالجة هذه القضايا أولا.
بمرور الوقت، وبشكل مثالي عبر عدة عقود من التنمية، يمكن أن تغرس العادات اللازمة للحكومة التمثيلية في جميع الطبقات الاجتماعية، مما يؤدي في النهاية إلى إنشار أمة تستحق الإستقلال والحكم الذاتي.
لم تكن الأحزاب السياسية مع ذلك في عام 1952 أحزابا بالمعنى الاجتماعي الإنتاجي. لقد كان التحيز الإقليمي والفئوية سببا في ذلك. أكدت أحزاب “المعارضة” الأكثر تماسكا على المصالح المحدودة لإقليم طرابلس مقابل مصالح المجتمع السياسي ككل.
ويظل الأهم من ذلك هو أن هذه الأحزاب لم تمثل الإرادة الشعبية، حتى في المناطق التي يزعم الدفاع عنها. لقد كانوا يمثلون الأفراد أو المجموعات الصغيرة ومصالحهم المحدودة. كان حزب المؤتمر في الواقع تحالفا فضفاضا من تسعة أحزاب في إقليم طرابلس، كل منها مدين بالفضل لزعيم أو مجموعة معينة.
تجعل البيئة الحزبية المنقسمة السعي وراء المصالح الشخصية احتمالية الاختراق الأجنبي عالية للغاية.
لقد عانت الممالك الغربية التي تم تأسيسها من نفس المشكل طوال القرن التاسع عشر. كان لليونان التي حصلت على استقلالها حديثا ثلاثة أحزاب متحالفة بشكل صريح مع المصالح البريطانية أو الروسية أو الفرنسية. شجع الوضع الجيوسياسي آنذاك التدخل الأجنبي، حيث سعى الاتحاد السوفيتي إلى توسيع نفوذه في الشرق الأدنى وشمال إفريقيا، وأوصى السوفييت قبل الاستقلال بتقسيم البلاد إلى ثلاثة أقاليم وتخصيص إقليم طرابلس وبرقة للملكة المتحدة وفزان لفرنسا.
لم تكن القوى العظمى المنتصرة هي الدول الوحيدة التي لها مصالح في ليبيا. هدنة إيطاليا مع الحلفاء الغربيين جعلتها شريكا في الحرب ضد دول المحور. شمل الجيش الإيطالي المشارك في القتال أكثر من 200000 جندي ـ حسب بعض التقديرات. شكل الجنود الإيطاليون ربع قوات الحلفاء في إيطاليا.
في عام 1945، لم يعتبر رجال السياسة الإيطاليين أنفسهم كقادة لأمة مهزومة. كانت ايطاليا بالأحرى عضوا في التحالف المنتصر، ولها الحق في غنائم الحرب. ولا يمكنها بطبيعة الحال المطالبة بنفس المزايا مثل فرنسا وبريطانيا وأمريكا وروسيا. وبالرغم من ذلك، كان بإمكانها أن تسعى لاستعادة الأراضي الإيطالية التي انتزعها تحالف موسيليني الطائش مع هتلر من قبضة إيطاليا. كانت أثيوبيا بعيد للغاية من الناحية الجغرافية بحيث لا يمكن استعادتها، لكن ليبيا لم تكن كذلك.
اقترحت فرنسا في الواقع، نظرا لتعقيد المفاوضات حول ليبيا، إعادة ليبيا إلى إيطاليا لتطوي صفحاتها كمسألة دولية. كان لا يزال هناك عشرات الألاف من الإيطاليين الذين استقروا في ليبيا، مما يتيح لإيطاليا الوصول إلى الدولة الحديثة.
ولربما تم إغراء النخب في إقليم طرابلس، الذين قاوموا السنوسيين سابقاً لقبول الدعم الإيطالي لتعزيز مصالحهم المحدودة. وقد تم تحديث سمعة إيطاليا بالكامل بحلول عام 1952، حيث كانت ايطاليا ما بعد الفاشية عضوا مؤسسا في حلف الناتو. وطالما أنها تحترم المصالح العسكرية الأمريكية والبريطانية في ليبيا، يمكن للمرء أن يتوقع من واشنطن ولندن الامتناع عن مقاومة محاولة اختراق الدولة الحديثة.
وبالتالي، فإن قرار حظر الأحزاب السياسية ينبع من خوف النظام الملكي من عدم الاستقرار الداخلي، بقدر ما ينبع من الاحتمال الكبير للإختراق الأجنبي.
على الرغم من كونه منطقيا، إلا أن قرار استبعاد الأحزاب كان على الأرجح غير صائب.
يتطلب إنشاء الهياكل السياسية التمثيلية تأقلم السكان مع مستويات متعددة من الوساطة. وفرت الطبيعة القبلية لليبيا، على خلاف رأي الغرب النمطي، لمواطنيها شعورا بالمسؤولية عن الحكم الذاتي. وكان كذلك لعلاقات السنوسيين التاريخية صدى لدى الليبيين من جميع أنحاء البلاد وفي معظم القبائل، بالنظر إلى دورهم في ليبيا على مدى 150 عاما الماضية. ورغم ذلك فبدون وجود أحزاب سياسية، سيجد الشعب صعوبة في الارتباط بالأمة، أكثر من الإكتفاء بالنظام الملكي.
وبمجرد أن تجتاح القومية العربية الشرق الأوسط، سيثبت ذلك وجود خطر قاتل بالنسبة للنظام السياسي الليبي، وسيسمح للقذافي بالانتقال إلى السلطة على موجة من الوعود الكاذبة والإزدواجية.
***
هاري هالم ـ حاصل على ماجستير في الفلسفة والعلاقات الدولية وماجستير في النظرية السياسية من كلية لندن للاقتصاد. وهو باحث في قضايا الدفاع.
_____________