د. إدريس لكريني

على امتداد خريطة المنطقة، ساد نوع من الجمود في المشهد السياسي، وتراوحت الإصلاحات على قلّتها بين المد تارة والجزر تارة أخرى، الأمر الذي عرّض الكثير من هذه البلدان إلى هزّات وأزمات اجتماعية وسياسية واقتصادية مختلفة.

تعاطت دول المنطقة مع موضوع الإصلاح الديمقراطي بقدر كبير من البطء والتباين، ففي الوقت الذي استوعبت فيه العديد من الأنظمة في كل من إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا دروس المرحلة واستجابت لتطلعات شعوبها، وانخرطت بحزم وإرادة قويّتين في اتخاذ خطوات وإجراءات بنّاءة وشجاعة على طريق دعم التنمية الشاملة وتحقيق التحوّل نحو الديمقراطية، قاطعة بذلك كل الصلات مع مظاهر الانقلابات وتوريث الحكم، ظلّت الأوضاع السياسية في مجمل الدول العربية، على ما كانت عليه في السابق.

خلّف الفراغ السياسي والمؤسساتي وضعف الأحزاب السياسية أو غيابها أحياناً وهشاشة المجتمع المدني التي كشفها رحيل الأنظمة المنهارة في المنطقة، إضافة إلى عدم القدرة على تأسيس ائتلافات حكومية تدير المرحلة بكفاءة وفاعلية، ووجود تباين في الرؤى على مستوى شكل الدولة المطلوب، إضافة إلى صعود بعض القوى السياسية بشكل فجائي للحكم، أو دخول المؤسسات العسكرية على خط السياسة، صعوبات حقيقية تعيق مسار التحول الديمقراطي في المنطقة.

نجحت الكثير من الأنظمة السياسية لدول المنطقة في تفريغ المشهد السياسي من أي دينامية أو معنى، حيث بسطت الهيمنة على مختلف القنوات والمؤسسات، وضيّقت الخناق على الأحزاب السياسية المعارضة ومختلف القوى السياسية والمدنية الأخرى، فيما لعبت الانتخابات المزورة دوراً في إعادة إنتاج الاستبداد وتمكين نفس الوجوه من الوصول إلى مراكز القرار الحيوية وتهميش مختلف الكفاءات من نساء وشباب.

تعتبر الأحزاب السياسية إحدى تجليات ومرتكزات الممارسة الديمقراطية، وهي تستأثر في النظم الديمقراطية بمجموعة من المهام التي يمكن إجمالها في تمثيل المصالح المختلفة والتعبير عنها ودعم المشاركة السياسية والمساهمة في تدبير الشؤون العامة، كما تسهم الأحزاب في تطوير وتنمية المشاريع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

يفترض في الأحزاب السياسية أن تكون بمثابة مدارس لترسيخ الممارسة الديمقراطية، ولا تستقيم هذه الأخيرة إلا بوجود أحزاب قادرة على إعطاء دينامية حقيقية للمشهد السياسي وترسيخ تعددية حقيقية مبنية على تنافس البرامج، والحضور المستمر في عمق المجتمع ومواكبة تحولاته، وعلى إعداد وتكوين النخب التي ستتحمل المسؤولية في مختلف المؤسسات التمثيلية محلياً ووطنياً، كما لا تخفى أهمية هذه القنوات في تنشئة وتأطير المواطنين.

تتباين تجارب دول المنطقة في هذا الخصوص، بين دول تمنع فيها الحياة الحزبية بشكل عام، وأخرى تعتمد الحزب الواحد، وهناك دول سمحت بتعددية حزبية، اختلفت أهميتها وتباينت من تجربة شكلية وأخرى هشّة ترتكز إلى حزب قوي يتحكم في السلطة والمشهد السياسي بشكل عام، كما هو الشأن بالنسبة لتجربتي تونس ومصر، أو تجربة تعددية تعكس فسيفساء المجتمع وتكرس الطائفية، كما هو الشأن بالنسبة للتجربة اللبنانية، والتجربة العراقية بعد سقوط نظام صدام حسين، أو تجارب لا تخلو من أهمية كما هو الشأن بالنسبة للتعددية الحزبية في المغرب والأردن وتونس بعد رحيل نظام «بن علي».

وعموماً، ظلّت الأنظمة السياسية القائمة هي الفاعل الرئيسي داخل المشهد السياسي، فيما ظلت أدوار باقي الفاعلين هامشية ولا ترقى إلى التحديات والإشكالات المطروحة في مختلف المجالات والميادين، وهو ما عكسته حالة الفراغ السياسي التي خلفها رحيل بعض الأنظمة في ظل الحراك، مثلما هو الشأن بالحالة الليبية.

وأمام التغيرات الدستورية والسياسية التي شهدتها العديد من دول الحراك، أصبح من اللازم إحداث قوانين للأحزاب أو إعمال تعديلات على التشريعات السابقة التي كانت تؤطر عمل الأحزاب، بما يعزّز من مكانة هذه الأخيرة داخل المجتمع بشكل عام والحياة السياسية على وجه الخصوص، ويضمن تعزيز المشاركة السياسية للمواطن.

لا يسائل التغيير أو الإصلاح الدولة فقط، بل هو يعني مختلف الفاعلين، ولا تقوم الديمقراطية إلا بأحزاب قوية.

وقد كانت النظم المستبدة واعية بهذا الأمر، عندما فرضت نظام الحزب الواحد أو سعت إلى إحداث تعدّدية صورية عبر خلق أحزاب إدارية، بما كرّس هشاشة المشهد الحزبي.

إن الأحزاب السياسية ضرورية في بناء نظم ديمقراطية، فهي سمة من سمات الدول الحديثة، ولا تقوم الديمقراطية إلا بأحزاب قوية تستأثر بوظائفها المختلفة.

تميّز الحراك بتلقائيته وانخراط الشباب فيه بشكل مكثف، ولم يكن هذا الحراك في مجمله من صنع الأحزاب السياسية، ذلك أنه حراك مجتمعي، شاركت فيه مختلف الفعاليات، ولم يكن تحت وصاية حزب أو مكون سياسي محدد بعينه، ولعل هذا ما جعله مرتبكاً بلا قيادة أو هدف محددين في كثير من الدول.

لكن، في مقابل ذلك، كان لهذه التحولات أثر كبير في أوضاع الأحزاب السياسية في مختلف دول الحراك، فقد سمحت التحولات السياسية التي شهدها المغرب في أعقاب اعتماد دستور 2011 بحدوث حراك حزبي داخلي سمح بتجدد النخب وبروز قيادات حزبية جديدة، كما أدى الأمر أيضاً إلى انتعاش أحزاب معارضة ظلت حتى وقت قريب مهمشة، بعدما تنامت حدّة الجرأة في التعاطي مع مختلف القضايا المجتمعية في أبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية.

كما سمحت هذه الأجواء بتأسيس عدد من الأحزاب في عدد من دول الحراك، كما هو الشأن بالنسبة لتونس وليبيا.

إن الرهان على الأحزاب السياسية في هذه المرحلة يظل كبيراً، على مستويين، أولهما يرتبط بتأطير المواطنين وتنظيمهم والسعي إلى تحقيق نوع من المصالحة بين المواطن من جهة والسياسة والشأن العام من جهة أخرى، عبر خطابات تستوعب التحولات المجتمعية الراهنة وحضور وازن في عمق المجتمع، وإعمال ديمقراطية داخلية كفيلة بتحصين الذات وتجدّد النخب.

وثانيهما، يتمثل في القدرة على الاقتراح والمرافعة ومواكبة السياسات العامة ومراقبتها، وإعداد نخب على قدر كبير من الكفاءة والمسؤولية والنزاهة.

____________________

مقالات مشابهة