صبرين العجرودي

يرتبط مفهوم الدولة العميقة ارتباطا وثيقا بالأنظمة السياسية، ذلك لما يلعبه من تأثير مهم في هذه الأنظمة ومدى تحقيقها للنتائج المأمولة ويحدث ذلك عن طريق عناصره التي تبني صفة هذه الدولة العميقةنظرا لأنها لا تكون مكشوفة للعيان ولا تقوم بأدوارها على مرأى من المجتمع بل تتخفى وراء البنى الاجتماعية وتؤثر بها وتحرّكها بالطرق التي تحقّق لها غاياتها.

ما هي الدولة العميقة؟

يشير مفهوم الدولة العميقة إلى: مجموعة خفية من الفاعلين والمؤسسات السرّية المتسرّبة داخل أجهزة الدولة الواسعة النّطاق والظّاهرة للعيان، وعادة ما يكون الهدف الرئيسي لهذه العناصر هو الفوز في الصراع السياسي عن طريق تكريس العنف وإثارة البلبلة وبث الفوضى باعتماد مختلف الوسائل كمؤسسات الدولة أو التسبب في الجرائم الاجتماعية لبث الفوضى والذعر وإثارة الرأي العام.

تشكّل الدولة العميقة جزءً من خطّة شاملة عالمية أو إقليمية يقع تطبيقها على مستوى الدولة، حيث ينطلق عناصرها في التوغل داخل أجهزة الدولة والقيام بأدوارهم وفقا لما تفرضه طبيعة البنية أو المنظومة الاجتماعية.

فمثلا إذا ما تحدثنا عن الاعلام كمؤسسة اجتماعية، يمكن للإعلاميين أن يكرّسوا ممارسات الدولة العميقة من خلال أدوارهم ضمن هذه المؤسّسة باعتماد التضليل الاعلامي أو بث الدعاية السوداء.

أهم مكوّنات وعناصر الدولة العميقة

أولا: الأجهزة الأمنية

لا يمكن اختصار عناصر الدّولة العميقة في مفهوم القوات المسلحةفقط أو المنظومة العسكريةوكل المؤسسات الأخرى المتعلّقة بها، لكن هناك مؤسسات اجتماعية أخرى لا تخضع لسلطة المؤسسة العسكرية رسميّا قد تكون من ضمن عناصر الدولة العميقة وخاصة في الدول التي يكون نظامها مدني.

أما مفهوم القوات المسلحةيحيل على الطابع الرسمي لهذه القوات التي تشرف عليها الدولة والمؤسسة العسكرية، في حين أن مفهوم الأجهزة الأمنيةأكثر اتساعا يجمع بين الأولى القوات المسلحة الرسميةوالعناصر غير الرسمية والتي لا تخضع لسلطة الدولة والمؤسسة العسكرية، كالهيئات العسكرية الخاصة والملحقة، كذلك الميليشيات والمرتزقة وعصابات المافيا وكل الجماعات المسلحة وغير المسلحة وغير النظامية ولا ترتبط بالدولة.

وعموما تشتغل القوات المسلحةلصالح سلطة ظاهرة للعيان تكون أهدافها واضحة، في حين أن الأجهزة الأمنيةبمعناها الشامل والواسع التي قد تشمل عناصر لها قيادات متخفية تقود إلى وجود مصالح متعددة ومتقاطعة فيما بينها.

يقترن مفهوم الدولة الأمنية المستقلةبمفهوم الدولة العميقةمع وجود بعض الاختلافات الجوهرية على مستوى الارتباط الكامن بين عناصر كلا المفهومين.

الأول بمثابة دولة مستقلة توجد داخل الدولة الرسمية ككيان تترابط مؤسساته على المستوى الداخلي بحيث تكون عناصر القيادة واضحة ومستقلة لدرجة أنها لا تخضع لأيّ رقابة خارجية، لكنّ تحدد أهدافها من داخلها من طرف المسؤولين الذين تتعارض مصالحهم مع مصالح النخبة السياسية.

أما في الدولة العميقة تكون العلاقات بين عناصرها الداخلية (الميليشيات، القوات المسلحة، الأجهزة الاستخبارية، الشرطة، عصابات المافيا والمنظمات الاجرامية ..) غامضة وغير واضحة ومحددة حتى بالنسبة إلى العناصر أنفسهم، فهي لا تستطيع حتى أن تميّز بعضها أو أن تدرك خطوط الترابط بينها وبين العناصر الأخرى.

وبذلك فإن الأجهزة الأمنية شديدة الاستقلالية عموديا في علاقاتها بالركائز الأخرى للدولة ومشتتة للغاية أفقيا في علاقة الفاعلين ضمن الدولة العميقة بالآخرين، وفي علاقة الدولة العميقة بالقوات المسلحة ووزارتي الدفاع والداخلية.

ثانيا: منطق الوصاية

تعتمد الدولة العميقة على منطق معيّن لتبرير وجودها، فعلى الرغم من تموقعها خارج ركائز الدولة وبناها القانونية، إلا أنها تدعي كون وجودها أمر ضروري داخل الدولة، وأن المجتمع في حاجة إليها أو تحديدا إلى مبدأ الوصايةالذي يشكّل إحد أهم عناصرها ومصدر قوتها.

يحيل مفهوم الوصاية على قدرة الافراد على العمل خارج بيروقراطية الدولة والحكومة ومختلف الإكراهات التي يمكن أن تفرضها على الافراد وتزمتهم إياها، ومن خلال ذلك يمكن للأفراد أن يبنوا علاقات براغماتية ويطوّروا من أنفسهم داخل الدولة العميقة من خلال الفساد والمحسوبية.

تنظر الدولة العميقة إلى أن الوصايا ضرورة ملحّة داخل المجتمع وبذلك فهي ترى أن وجودها أمر ضروري خاصة في الدفاع عن الوطن من أي تهديد كان سواءً من الداخل أو الخارج، وهي توجد داخل الدولة من منطلق انعدام ثقتها في سياسات الحكومة والدولة.

ومنه فإن الدولة العميقة تبرّر بعض الممارسات غير القانونية ضد الجهاز الحكومي والدولة بأنه ليس دفاعا إلا من حظر يهدّد الوطن وهويته، فهي تُقدّم نفسها على أنها منقذ الوطن واليد المدافعة عنه من انتهاكات الدولة والحكومة ويعكس اعتبار الدولة العميقة على أنها منقذ الوطن واليد المدافعة عنه من انتهاك الدولة والحكومة ويعكس اعتبار الدولة العميقة نفسها أنها الوصي على الوطن.

في هذا السياق يتم تعريف الوصاية العسكرية بأنها الافتقار إلى رقابة مدنية على القوات المسلحة في ظل نظام ديمقراطي، وبعبارة أخرى، حيث يحتفظ الجيش بالحق في إطاحة القادة المنتخبين لتصحيح مسار تدبير شؤون الدولة.

لكن في وضعية الدولة العميقة لا يمكن اعتبار أن منطق الوصاية يقتصر فقط على المنظومة العسكرية أو الجيش، بل هناك العديد من المؤسسات الأمنية الأخرى التي تعتبر نفسها وصيّا على الدولة الوطنية وهي في حالة تأهب مستمر لمهاجمة الحكومة والنخب السياسية وغيرها من العناصر التي تهددها الدولة الوطنية.

ويجدر التأكيد على أنّ الدولة العميقة وُجدت أساسا لتلعب هذا الدور الوصاية، وبغيابه ينعدم وجودها، وذلك يجعلها دائما في صراع مستمر مع الدولة متعلّلة بالإصلاح والتصحيح لدورها الاساسي.

يتبع في الجزء التالي

***

صبرين العجرودي ـ قسم البحوث والدراسات، المركز الدولي للدراسات الاسترتيجية الأمنية والعسكرية بتونس

______________

مقالات مشابهة