مروان المعشر

إذا ما أرادت الأحزاب السياسية الجديدة، المشاركة الفاعلة في العملية السياسية، فينبغي عليها أن تتغلّب على تحدّياتها المؤسّساتية، وتحسّن قدرتها على توفير مايحتاج إليه الشعب على المدى الطويل.

***

العمل في بيئة سياسية مبهمة

إضافة إلى انعدام الخبرة وإجراءات التمويل المثيرة للجدل، مايزيد الأمور سوءاً هو البيئات المضطربة للعمليات الانتقالية السياسية التي تعمل ضمنها هذه الأحزاب.

واقع الحال أن الأحزاب تضطرّ إلى مواجهة التطوّرات السياسية سريعة التغيّر والتي يصعب حتى على أكثر المنظمات السياسية صلابةً التأقلم معها.

فوتيرة التغيير السريعة زادت من عجز الأحزاب عن وضع برامج بعيدة المدى، وتشكيل هوية متّسقة، والتميُّز عن منافسيها.

وإذ يطالب المواطنون بردودٍ مباشرةٍ على التطوّرات التي تحصل، تشعر الأحزاب بأنها مضطرّة إلى التعبير عن آرائها في مايتعلّق بالأحداث يوماً بيومٍ، حتى حين لايصبّ ذلك بالضرورة في مصلحتها.

على سبيل المثال، أحد الأحزاب المصرية قال إنه ينشر مايعادل بيانَين رسميَّين كل يوم، ومع ذلك لايزال يُنتَقَد لبطء استجابته للأحداث.

إضافةً إلى ذلك، يضاعف الاستقطاب السياسي الحادّ الذي يعانيه كلٌّ من مصر وتونس، وإلى حدّ أقلّ، ليبيا، التحديات التي تواجهها الأحزاب في بنائها قواعد دعمٍ مستدامة.

ففي وقتٍ يتعمّق الاستقطاب مابين التيارات السياسية الإسلامية والعلمانية، يصبح عدد متزايد من الناخبين المحتلمين بعيداً عن متناول الأحزاب العلمانية الناشئة التي تضطر إلى أن تنافس للحصول على مروحة أصغر من هؤلاء الناخبين أنفسهم.

أخيراً، واجهت الأحزاب بيئة قانونية مبهمة وغير مؤكّدة، حيث الأنظمة المتعلّقة بتنظيم الأحزاب وجمع الأموال توضَع ببطء وعلى نحو غير متساوٍ.

ففيما تُصاغ القوانين والدساتير، تركّز الأحزاب على محاولة التأثير على قواعد اللعبة الجديدة أملاً في إقامة أنظمة مؤاتية للعمل الحزبي، أكثر مما تركّز على تطوير هويّاتها الخاصة وقواعد الدعم.

خريطة طريق لأحزاب مستدامة

تباينت سجلات الأحزاب الناشئة في مصر وليبيا وتونس طوال السنوات الثلاث الماضية تبايناً تاماً.

صحيح أن الانفجار الأوّلي في نمو الأحزاب تَبِعَته بشائر تعزيزٍ ونشاطٍ متزايدٍ من جانب الأحزاب الأكثر نجاحاً، إلا أنه ما من شكّ في أن هذه القوى كافة لاتزال تواجه تحديات جدّية.

فمشاكل الأحزاب كبيرةٌ في مايتعلّق بتحديد هويّاتها، وبناء قواعد دعم مستدامة لها، والتعامل مع البيئات السياسية المبهمة.

كما أن الأحزاب تعاني تمويلاً ضعيفاً، وبرامج غير محدَّدة، وعجزاً أو عدم استعداد للتركيز على المطالب الاقتصادية التي تهمّ معظم المواطنين في العالم العربي.

لذلك، ينبغي على الأحزاب الناشئة، بغية السير في الاتجاه الصحيح، أن توسّع أفق تفكيرها وتنظر إلى المستقبل.

ويستطيع المجتمع الدولي أن يضطلع بدورٍ داعمٍ مهمٍّ في هذا الإطار.

ففي حين أن المقاومة الشعبية والحكومية لبرامج المساعدة الأجنبية من أجل الديمقراطية جعلت من الصعب أكثر فأكثر العمل مباشرةً مع الأحزاب السياسية في العالم العربي، لاتزال الفرص قائمة لتعزيز عملية بناء أحزاب أقوى من خلال دعم ظروف تنظيمية مفيدة.

ويقع على عاتق الأطراف الدولية الفاعلة تشجيع الحكومات على اعتماد قوانين تسهّل الخطاب السياسي الصريح والحرّ، ومكافحة الفساد، والسماح بتشكيل تنظيمات سياسية وجمع الأموال، وتعزيز العدالة والشفافية في النظم الانتخابية.

كما يمكن لهذه الأطراف أن تطالب بالتزام جادّ بإجراء انتخابات حرّة وعادلة تُمكِّن المواطنين من المشاركة بفعالية في العملية الديمقراطية.

بيد أن مصدر التغيير الحقيقي يكمن في الأحزاب الناشئة نفسها. فعلى هذه الأخيرة أن تتّبع أهدافاً واضحة لتحسين أدائها على الأرض وقدرتها التنظيمية.

وضع البرامج

وضع برامج واضحة ومفصَّلة تلبّي حاجات المواطنين الاقتصادية والاجتماعية الفعلية.

لقد نجحت الأحزاب العلمانية الناشئة إلى حدٍّ ما في توضيح أنها ليست أحزاباً إسلاميةً، وهذا الأمر يُعَدّ خطوة مهمة لأن بعضها يخشى أن يهدّد الإسلاميون التنوّع السياسي والثقافي والديني في مجتمعاتها.

إلا أن هذه الأحزاب قدّمت أداءً أضعف في تحديد الأهداف التي تنادي بها، وخصوصاً في مايتعلّق بمواجهة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، مثل إيجاد فرص العمل، وتحقيق نمو أكثر شمولاً، وتأمين معاملة عادلة أمام القانون.

وفي حين أن التشديد على مبادئ مثل التعدّدية والشمول هو جزء ضروري من عملية بناء الديمقراطية، تحتاج الأحزاب العلمانية أيضاً إلى وضع مقترحات أكثر شمولاً تستجيب للمشاكل التي تهمّ المواطنين في بلدانها.

الانخراط في مشاورات شاملة مع الناخبين عوضاً عن الاعتماد على مشورة مجموعات صغيرة من الخبراء.

الواقع أن بناء الأحزاب عملية طويلة تستغرق وقتاً في أفضل الأحوال، لذا على الأحزاب أن تتحلّى بالصبر عند العمل على تحديد هويّاتها.

وبدلاً من التفاعل بتهوّرٍ مع آخر الأخبار أو الطلب من لجنة صغيرة من الخبراء وضعَ خطط مبهمة وسرّية، يتعيّن على الأحزاب أن تحصل على الموافقة الشعبية الأشمل عبر إشراك جمهورها في عملية وضع برامجها.

ويمكن تحقيق هذا الهدف بتنظيم أنشطة على غرار الاجتماعات في دور البلدية والزيارات إلى المناطق النائية لاستطلاع حاجات المواطنين مباشرةً. عندئذ تستطيع الأحزاب الاستعانة بالمعلومات التي جمعتها في وضع برامجها.

التخلّي عن البرامج الإيديولوجية البالية، وإيجاد سبل جديدة للتوصّل إلى الحلول.

لم تَعُد الإيديولوجيات العلمانية العربية القديمة، مثل العروبة والبعثية والاشتراكية، متلائمة مع المشاكل التي تعانيها المجتمعات العربية.

فالوصَفات السياسية التي تقدّمها هذه التيارات ليست سوى شعارات واهنة ينبغي على الأحزاب تفاديها.

بدلاً من ذلك، لابد أن تجد الأحزاب الناشئة طرقاً جديدة ومبتكرة للترويج بشكل مقنع للحلول السياسية الحقيقية التي تتصدّى لتحديات إيجاد فرص العمل، وضمان الحراك الاقتصادي، وتعزيز الاستثمار، وتحقيق المساواة أمام القانون، ومكافحة الفساد، وضمان تمثيل سياسي أوسع وأكثر عدلاً.

من الجيّد الإيمان بالمبادئ الديمقراطية وحكم القانون والتنوّع في المجتمع، لكن ما لم تكن الأحزاب قادرةً أيضاً على تقديم الحلول العمَلية للتحديات الاقتصادية والاجتماعية، فلن تتمكّن من اجتذاب المواطنين العاديين.

تعزيز السياسات التعليمية التي تشجّع على التعدّدية، والتسامح، واحترام مختلف وجهات النظر، والتفكير النقدي.

إذا أرادت الأحزاب أن تعزّز صحة الأنظمة الديمقراطية الوليدة في بلدانها على المدى الطويل، فعليها أن تنادي بقوةٍ بالإصلاحات التعليمية التي تشدّد على التعدّدية والتسامح.

كما يجب أن تهيّئ سياساتُ الأحزاب أبناءَ الجيل المقبل في سنّ مبكرة ليصبحوا مواطنين حقيقيين لا أتباع.

بناء قواعد شعبية

إقامة روابط حقيقية مع الناس.

تستطيع الأحزاب الناشئة أن تتعلّم من الأحزاب الإسلامية التي بَنَت قواعد انتخابية على مدى عقود من خلال تقديم الخدمات الصحية والتعليمية وغيرها.

لن تتمكّن الأحزاب العلمانية الجديدة، بين ليلة وضحاها، من إقامة القواعد الاجتماعية الشاملة نفسها التي أقامتها الأحزاب الإسلامية المنافسة لها، لكنها يجب أن تضع استراتيجيات تتيح لها الوصول، على المدى الطويل، إلى القواعد الاجتماعية الموجودة أصلاً، مثل الاتحادات والمجموعات الطلابية، وتمكّنها من بناء قواعدها الخاصة على المدى الأطول.

أما استخدام الإعلام للتعبير، كما يفعل العديد من هذه الأحزاب، فهو بداية لكنه ليس كافياً للوصول إلى الناس بشكل فعّال.

وضع استراتيجيات جديدة ومبتكرة لجمع التبرّعات الصغيرة ولكن المنتظمة من قاعدة واسعة من المواطنين.

تحتاج الأحزاب إلى الحفاظ على علاقاتها مع المانحين الأثرياء، وإلى تطوير قدرات مستدامة لجمع الأموال.

كما أنها تحتاج إلى بناء قواعد تضمّ مانحين صغاراً ومنتظمين.

هذه الخطوة ستتطلّب حملات مبتكرة، ولاسيما في البلدان الصغيرة والفقيرة، حيث حجم السكان والافتقار العام إلى الثروة يشكّلان عائقَين فعليَّين أمام جمع الأموال.

فجمع الأموال يُعَدّ واحداً من التحديات الأهم التي يواجهها أي حزب سياسي ناشئ في العالم العربي.

إقناع مجتمع رجال الأعمال بتأدية دورٍ أكثر فاعلية في تمويل الأحزاب السياسية الناشئة من خلال التدليل على أن إنشاء نظام حزبي قوي ومستقرّ يصبّ في مصلحته.

ثمة فرص مهمة لجمع الأموال من القطاع الخاص، وينبغي ألا تتردّد الأحزاب السياسية في الوصول إلى مصدر الموارد هذا.

والواقع أن مجتمع الأعمال في العالم العربي اعتاد على مناصرة الأنظمة الاستبدادية، ولذا يتعيّن على الأحزاب العلمانية الناشئة أن تقنع القطاع الخاص بأن نظاماً حزبياً ثابتاً وحيوياً وتعدّدياً هو عنصر أساسي في حكومة ديمقراطية فاعلة قادرة على تعزيز النمو الاقتصادي.

إعادة هيكلة التنظيمات الحزبية

تقليل التركيز على شخصيات قادة الأحزاب.

لن تتمكّن الأحزاب التي تقوم على عبادة شخصية الزعيم الواحد من الاستمرار على المدى الطويل.

قد يوفّر مؤسِّسٌ شعبيٌّ الجرعة الأوّلية من الدعم المطلوب للحزب، إلا أن الأحزاب يجب أن تسعى إلى بناء تنظيماتها بشكل لايعتمد على المصير السياسي لشخص واحد.

التركيز على سياسة الخيمة الكبيرةالتي تستوعب الجميع.

بدأت الأحزاب السياسية بتوطيد نفسها في كلٍّ من مصر وليبيا وتونس، وعليها أن تشجّع العملية وتسرّعها. يتعيّن على الأحزاب العلمانية الناشئة أن تدرك أن مصالحها السياسية يمكن أن تُصان بشكل أفضل إذا انضوت تحت لواء حزب شامل يتمتّع بدعم مجتمعي، بدلاً من أن تبقى صغيرة تتمتّع بالاستقلالية لكن لا بالنفوذ.

مستقبل الأحزاب الناشئة في العالم العربي

من الصعب معرفة ما إذا كانت الأحزاب الناشئة في مصر وليبيا وتونس تسير في اتجاه التنمية الديمقراطية المستدامة.

فعلى الرغم من التحديات العديدة التي تواجهها هذه البلدان، لايزال ثمة أمل في أن تُطوِّر جميعها أنظمةً حزبيةً أكثر حيوية تشقّ طريقاً ثالثاً قابلاً للحياة بين كلٍّ من الأطراف الإسلامية الراسخة وتلك التابعة للنظام القديم.

إذا ركّزت الأحزاب الناشئة على وضع برامج واضحة، وبناء قواعد شعبية أقوى، وإعادة هيكلة تنظيماتها، فستتمكّن في نهاية المطاف من تجاوز مستويات الدعم الشعبي الضعيفة، وتنمو لتصبح قوى فعّالة للديمقراطية والتعدّدية في العالم العربي.

***

مروان المعشر ـ نائب الرئيس للدراسات في مؤسسة كارنيجي

_____________

نشرت هذه الدراسة بمؤسسة كارنيجى بتاريخ 13 نوفمبر 2013 بعنوان الطريق نحو أحزاب سياسية مستدامة في العالم العربيوهي تستند إلى كتاب الصحوة العربية الثانية والمعركة من أجل التعدّدية وإلى مناقشات مع قادة أحزاب من مصر وليبيا وتونس في إطار ورشة عمل نظّمها برنامج الشرق الأوسط في كارنيغي في عمّان، الأردن، في 30 أيلول/سبتمبر 2013.

_____________________________

مقالات مشابهة