د. ميلاد مفتاح الحراثي

لقد صدرت العديد من القوانين، خلال حقبة حكم القذافى، التي تجرم العمل الحزبي، في السر أو العلن، ولعل اشهر القوانين هي قانون تجريم الحزبية الصادر في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، وبهذا القانون كانت معظم التنظيمات الحزبية في ليبيا مصيرها إلي السجن، أو المحاكمات، أو أن تلجأ تلك التنظيمات السرية إلي الهروب للخارج، لتستمر في أنشطتها السياسية، بعيدا عن الوطن. ولنتذكر جميعا انه وخلال حكم الملكية في ليبيا، ومنذ الاستقلال عن ايطاليا أن العمل الحزبي كان محضورا ، ومُجرماً.

هذا ويذكر أن أول حزب تأسس في ليبيا كان سنة  1948، تحت قياد” بشير بيك  السعداوي” حيث كان يرأس حزب المؤتمر الوطني، ولقد عقد أنصار هذا الحزب مؤتمرهم في مدينة طرابلس،سنة-2011، تحت رعاية احد أعضائه القدامى وهو الدكتور الأديب علي مصطفي المصراتي ، وذلك لأحيائه من جديد.

والمرجع الوحيد الذي يخبرنا عن “نشأة الأحزاب ونضالاتها   في ليبيا” هو للمؤرخ الليبي مفتاح السيد الشريف، الصادر عن دار الفرات،   2008، حيث توفر المعلومات الكافية عن تطور الأحزاب الصغيرة والكبيرة ، منها في العهد الايطالي، وعهد الإدارة البريطانية، وفي العهد الملكي الذي منع تشكيل الأحزاب، وفي عهد نظام حكم ” ألقذاف

وفي  فبراير سنة 2011، و منذ بداته، انطلقت ثقافة تشكيل الأحزاب في ليبيا علي وتيرة سريعة، وأقيمت الدورات التثقيفية لكيفية تكوين الأحزاب في الداخل والخارج، وانعقدت الندوات والمؤتمرات التي تدعو إلي تشكيل الأحزاب، إلي جانب ظهور التيارات السياسية العلنية والسرية والمسلحة.

ومن أجل المساهمة في خلق الوعي الحزبي، وأهميته في بناء دولة المؤسسات والقانون، والمشاركة في التحول الديمقراطي في ليبيا، تعددت أعداد الصحف الحرة، والتي وصلت إلي المئات من الصحف اليومية والأسبوعية، ومعظمها تتبع هويتها الحزبية، أو التجمع، أو التيار.

وعلي سبيل المثال، لقد انعقد المؤتمر التاسع لجماعة الإخوان المسلمين في بنغازي سنة  2011، والأول من حيث الانعقاد في الداخل، وهذه الجماعة تعتبر من أقوي  الكيانات من حيث برامجها في ليبيا، حيث يرجع تاريخ تأسيسها إلي سنة   1949، وكان انعقاد هذا المؤتمر فرصة لتشكيل قيادة جديدة للجماعة، وتقديمها كحزب أساسي  في أي انتخابات ليبية قادمة في مواجهة الأحزاب العلمانية والليبرالية.

ومن المعلوم أن نسبة الإسلام بين الساكنة الليبية تصل إلي 99% من عدد السكان، وجماعة أخوان المسلمين سوف لن تجد صعوبة من القبول لدي الليبيين، خصوصا إذا كانت برامجها  وسطية وهويتها إسلامية؟؟.

ويعتمد تأسيس هذه إلاحراب والتجمعات والتيارات علي طبيعة خطاباتها العقائدية والفكرية والإيديولوجية، فهناك أحزاب التيارات الإسلامية، والعلمانية، والليبرالية، والجماعات الإسلاميةوالملاحظة التي  ينبغي الإشارة إليها إن هذه التنظيمات السياسية لا تزال في طور الإعداد وتنقصها عمليات المأسسة، لان إنشائها يتم في ظروف غير  مستقرة، وبدون قانون ينظم حقوقها وواجباتها، ونطاقاتها السياسية، والاشتراطات الموضوعية  لإنشاء حزب سياسي.

إلي جانب ذلك، هناك مخاوف كثيرة في ليبيا من إن الأحزاب والتيارات السياسية سوف تكون للذكور فقط، نظرا لتعثر دور المرأة  ومشاركتها الضعيفة  في الحياة السياسية، ودور القبيلة في الحراك السياسي الليبي الذي استمر أكثر من    60  سنة، وأيضاَ الخوف من أن تتحول الأحزاب إلي أحزاب  جهويه أو مناطقيه، وليست وطنية! بحكم عوامل الجغرافيا والانتماء الجهوي والقبلي.

فالثقافة الحزبية في ليبيا لم تكن ثقافة متاحة، وعلنية، ومسموح بها طيلة ستة عقود من الزمن، فهي ثقافة محظورة في العهدين الملكي وفي حقبة ما بعده من عهد ” والقانون الأشهر لسنة  1972 لتجريم العمل الحزبي خير شاهد علي ذلك. , بمعني أن الارض في  ليبيا ليست ارض خصبة لاستزراع او انبات العمل الحزبي وتجاربه، لفقدانها لنظرية المراحل للنشئة والنضال!!

والحراك الحزبي الذي يجري ألان  في ليبيا  يراهن علي إنجاح مشروع التحول الديمقراطي وتحقيق مبادئ الدستور المؤقت الذي سمح بهذا الحراك، ولكن بخطي  مخيفة واكراهات تختنفه من معظم الساكنة الليبية،  بالرغم أنه لا يزال يحتاج إلي قانون و مأسسته حتى يُسهم في تشكيل الوعي البرلماني، وكيفية الإسهام في خلق مؤسسات تشريعية ديمقراطية منتخبة تعكس رغبات وطموحات الليبيين.

ومن باب معرفة طبيعة الحراك الحزبي الجاري في ليبيا  نذكر بأهم المسميات الحزبية: حزب المؤتمر الوطني، الحزب الديمقراطي الحر، حزب حركة القوميين العرب، حزب المؤتمر الوطني المعارض، حزب الطليعة، حزب التجمع الوطني للمعارضة، حزب الليبيين الأحرار، حزب جماعة الأخوان المسلمين، حزب التحرير الإسلامي، وأحزاب سياسية سلفية، وتيارات سياسية وثقافية واجتماعية لم تعلن بعد تنظيماتها الحزبية، والعديد من التجمعات الديمقراطية الأخرى.

وهنا يمكن أن نلقي نظرة إستشرافية علي أهمية دور الأحزاب  في تطوير أداة ووظيفة البرلمان الليبي المتعثر، وذلك من خلال الإسهام بالدور التالي:

  • العمل علي تطوير الإعلام البرلماني والاتصال

  • العناية بمسألة التدريب والتدرب البرلماني

  • نزع ومنح الثقة في الحكومات المنتخبة

  • إصدار وإقرار التشريعات والقوانين والرقابة عليها

  • صياغة القوانين، وممارسة الوظيفة التشريعية والرقابية

  • العمل كحارس وطني علي العملية الديمقراطية

  • تطوير المكتبة البرلمانية

  • ضمان سلامة التداول علي السلطة

  • ترسيخ مفاهيم لجان الاستماع البرلمانية

  • المشاركة في تطوير اللوائح واللجان البرلمانية

  • الاىسهام في التطوير المؤسسي وأساليبه البرلمانية

وأخيرا، هذه أهم المهام المنتظرة للشراكة الحزبية في ليبيا نحو تطوير الوظائف التشريعية، وبناء مؤسسات تشريعية وطنية  قادرة علي قيادة التحولات الديمقراطية والتنمية السياسية. لاحقاَ يستمر التحليل بإعطاء مؤشرات للوظيفة التشريعية الدستورية وانتقالها من الشخصنة إلي الشرعنه وصولاَ  الي الواقعية البرلمانية، وتحدياتها. هذه المهام وهذه العقلنة السياسية الحزبية لم تبرز الي الان في طبيعة مهام العمل الحزبي في ليبيا!

الوظيفة التشريعية من الشخصنة إلي الواقعية البرلمانية الحزبية، وتحدياتها في ليبيا

اتضح، كما مر بنا التحليل، إن ليبيا تملك إرثا دستوريا، ومؤسسات تشريعية دستورية خلال الحقب المختلفة، ولكنها شخصانية الوظيفة بدون  فواعل حزبية التي كانت محظورة سياسياَ وقانونيا، ولم تكن الوظائف التشريعية في كل التجارب السياسية التي مرت بها ليبيا خاضعة للمأسسة والتطوير، فالمؤسسة التشريعية هي التي من خلالها تتم عمليات التطوير السياسي والبرلماني والحزبي، لأنها بمثابة قلب النظام السياسي ومركز عملياته السياسية.

ففي حقبة النظام الملكي كانت هناك مؤسسات تشريعية وهي مجلس الأمة  وفرعيه مجلسي النواب والشيوخ، ولكن تلك المؤسسة لم تنعم بالوقت الكافي لتفعيل دورها الوظيفي في التشريع، إضافة إلي طبيعة الأوضاع المادية، وعدم الاستقرار السياسي ، خصوصا استقرار الحكومات المعينة. ونفس الإشكالية وقع فيها النظام السابق أو بواسطة مؤتمر الشعب العام عندما انفرد بالتشريع شخصياَ بشكل غير ظاهري، ومن خلال” مجلس قيادة الثورة” و “الاتحاد الاشتراكي وشخصنه مؤتمر الشعب العام” و” المؤتمرات ألشعبية وتميزها بتغلب ظاهرة الشخصنة في  اتخاذ القرار السياسي والتشريعي. أيضا افتقادها الي شراكات حزبية فاعلة؟

الحقيقة أنه لم تكن هناك مؤسسات تشريعية في الأنظمة الليبية السياسية المختلفة، بقدر وجود العوامل القيادية، وشخصنه  الوظيفة التشريعية ( في شخص الملك أو رئيس الوزراء، أو “قائد الثورة” ). فلم تكن هناك مؤشرات للواقعية البرلمانية وشراكة واسعة لمؤسسات المجتمع المدني في التطوير، أو حتى التأثير.

وعندما  تتبني هذه اقراءة   مبدأ الواقعية  التشريعية البرلمانية، في ظل إطار هيكلي حزبي منظم، فأننا نتذكر إن معظم دول العالم وأنظمته السياسية تتخذ من المؤسسة البرلمانية طريقاَ للديمقراطية و الشرعنة السياسية، والاستقرار والوفاق والرفاهية. فالشعوب لم تعد بعد قادرة عليَ أن تتقبل الحكم الفرداني، وشخصنه مستقبلها في عقل حاكم فردي يشتهي التفرد بالسلطة، أو التوريث، أو الحكم بالنيابة، أو بالوكالة لصالح الأجنبي.

والواقعية البرلمانية هي تلك الأساليب التي تلبي حاجة  الشعوب والمواطنة المتعطشة إلي التنمية الوطنية والاستقرار في ظل أطر حزبية وطنية ولاءً وانتماءً وشراكةً، لان  مقاصد التشريع يعزز ويذهب إلي معاني كثيرة وعديدة، والتي تعني فيما تعني شرعنة الديمقراطية وأساليبها، و مأسسة حراكها اليومي والسنوي.

فالتشريع ينبغي أن يمارس وفقاَ لإرادة الشعب والمواطنة، وليس وفقاَ لإرادة الأجهزة التنفيذية، أو النخب الحزبية، أو لصالح أفراد من خارج دائرة التشريع وصنع القرار، تشريع  يعزز الرقابة التشريعية لصالح التنمية الوطنية، ومؤسسة تشريعية تكرس فصل السلطات، إلي جانب أهمية رجوع المشرع للقاعدة الانتخابية.

والحراك الحزبي، وانتشار مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني، في ظل تحديات مشتركة، قد تُسهم وبشكل أو أخر ، ولكن هذا يقع في رهان مدي عقلنة التجربة الحزبية في ليبيا

إن أهم التحديات التي تواجه التحولات الديمقراطية في ليبيا في اطار العمل الحزبي يمكن إيجازها في النقاط التالية:

  • ظاهرة انتشار السلاح والمقدرة علي جمعه من عدمها.

  • ظاهرة الارهاب المسلح ومحاربته.

  • صعوبة التوافق المزمن بين سلطتي الشرق والغرب الليبي

  • صعوبة الاستغناء عن العامل الخارجي وتأثراته علي المشهد الليبي

  • صعورية التوافق علي معاني ومقاصد توحيد المؤسسة العسكرية

  • مستقبل التكنوقراط الوظيفي في الدولة السابقة

  • ضمان السقف الزمني للفترة الانتقالية في ليبيا

  • بطء عملية استيعاب المليشيات المسلحة في المواقع المدنية والعسكرية

  • إمكانيات نجاح المصالحة الوطنية بين القبائل والمدن الليبية

  • عدم وضوح قدرة الحكومات المتعاقية علي تسريع وتيرة إعادة الأعمار، واستقرار أسواق المال والمصارف والاقتصاد

  • سياسات التكيف الهيكلي الاقتصادي والاجتماعي

  • مدي التسريع للاستمرار في برامج البنية التحتية

  • طبيعة مشاركة المرأة.

  • طبيعة المشاركة الحزبية(بين الصراع والتوافق)

  • الأوضاع السياسية عامة، والثقافية والاجتماعية خاصة.

  • طبيعة ودور الثقافة السياسية، والهوية، والعصبوية القبلية

وهذه التحديات لا يسع المقام للتوسع فيها، نظرا لاحتياجها إلي دراسات ميدانية وتوثيقية معقدة، الأمر الذي تعجز علي إدراكه القراءة الحالية.

وبهذا نختتم ونقول أن تحديات البناء الديمقراطي في ليبيا كبيرة في ظل الدور المفقود والمؤثر للعمل الحزبي، وأن تاريخها السياسي كان يعتمد علي شرعنة  وشخصنه أنظمتها السياسية، بديلاَ لشرعنة  السياسة والديمقراطية  والحكم الرشيد السعيد، وهذا من سوء الطالع.

______________

د. ميلاد مفتاح الحراثي – مستشار ببرنامج الامم المتحدة للتنمية وحقوق الانسان

_______________________

 

مقالات مشابهة