مرّت ليبيا بتجارب عديدة، تنوعت فيها أساليب التعامل مع السلطة الحاكمة، وأصعبها تلك القوة العسكرية المغتصبة للسلطة والتي استمدت قوتها من “الشرعية الثورية“، وبمفاهيم متطرفة مثل “سلطة الشعب” و “لا ديمقراطية بلا مؤتمرات شعبية“. وبعد ثورة الشباب في فبراير 2011، التي قضت بفعل الثورة الشعبية على رأس السلطة الاستبدادية، وبعدهاعانت ليبيا من عشرية الصراع والتنازع والحرب الأهلية، وبالتالي كان لزاما على النخبة الوطنية أن تعود إلى مفهوم أصيل للسلطة في ليبيا.
هذا المفهوم القديم الجديد، يعتبر السلطة حقا أصيلا للشعب الليبي، بحيث يُمكنه أن يفوّض بإرادته مجموعة مختارة منتخبة لإدارة شؤونه، ويشترط في ذلك الالتزام بقواعد اللعبة الديمقراطية، ويكون التفويض قائما لفترة زمنية محددة على المستوى التشريعي والتنفيذي.
وبحسب هذا المفهوم يكون لكل فرد من أفراد الشعب، في عمر محدد، الحق في ممارسة السلطة من خلال مشاركته في اتخاذ القرارات المهمة التي تمس حياة الناس، وأهمها قرار تفويض السلطة للمجموعة المختارة انتخابيا والتي تكلف بإدارة الحياة العامة، وتضمن تنفيذ القواعد والضوابط المتفق عليها.
من الشائع أن “أبو الحقوق” كلها هو حق الإنسان في المشاركة في اتخاذ القرارات العامة، والذي له نفس الاهمية كحقه في الحياة وفي الحرية وفي الأمن وفي العدالة، ومن ثم لا ينبغي لأي فرد التنازل عن هذا الحق.
ممارسة هذا الحق قد تأخذ أشكال وأساليب عدة، ولعل أهمها أن تكون بالمشاركة في عمل سياسي منظم يتجاوز مجرد التصويت في الانتخابات، وخاصة العمل ضمن ألية الأحزاب أو ضمن مؤسسات المجتمع المدني والعمل النقابي.
نحن في لييبا نعاني من غياب الحد الأدنى من الوعي بأهمية العمل السياس المنظم، ولكي نحقق بعض النجاح في توفر هذا الوعي علينا ترسيخ المبادئ الأساسية للثقافة السياسية، ومنها: الشرعية بأنواعها، والدستور وقواعده، والديمقراطية وأنواعها، الأغلبية والأقلية، والاختلاف في الرأي، وغيرها من المصطلحات السياسية.
إن شرعية أي نظام سياسي، ينبغي أن تستند إلى إرادة الشعب عبر صناديق الاقتراع في انتخابات مكفولة لها كل ضمانات النزاهة والشفافية والأمان. ورغم محاولات تجزئة قيمة الشرعية، فإنه من الضروري رفض مصطلح “الشرعية الثورية” التي تعتمد على فرض الامر الواقع باغتصاب السلطة بالقوة أو “الشرعية الوراثية” كما في الأنظمة الملكية التي تورث السلطة في إطار عائلي. ولكن في هذه الحالة يصبح الدستور هو مرجع الشرعية ومعيارها، بحيث يتحدد كل ما هو شرعي بمدى اتفاقه مع الدستور.
“الديمقراطية” أصبحت من المفردات التي تتكرر عل لسان المتصدرين للمشهد السياسي الليبي وكأنه لغو واجترار مفردات لا معنى لها، وهذا المصطلح يحمل أكثر من معنى رغم أن الفكرة الجوهرية لمسألة الديمقراطية هي “حكم الشعب لنفسه” والتي ليس عليها خلاف، ولكن التنوع والاختلاف يظهر في ممارسة الديمقراطية، ولعل الشعب الليبي يذكر أن النظام السابق كان يسوّق بل فرض فكرة “الديمقراطية المباشرة” ولكنه كان متناقضا مع مفهوم الديمقراطية ولو كانت مباشرة، فهو كان يجرّم “الحزبية” واستبدل وسيلة “الانتخابات” بـ كارثة “التصعيد” القبلي، كما حرّم عمليا حزمة من الحريات والحقوق باسم الشعب.
ومن المسائل التي تعالجها الديمقراطية هي إشكالية الاختلاف في الأراء، وهو ما يعبر عنه بـ “الحقيقة الكبرى“، إذ لا يمكن من الناحية الواقعية أن يكون لجميع أفراد الشعب نفس الرأي أو الهدف أو المصلحة في كل الأمور. إذن فتباين الأراء والمواقف والأهداف والمصالح هو الحقيقة الكبرى التي تُبنى عليها الديمقراطية، من خلال وضع معيار منطقي وهو تغليب الرأي التي تلتقي حوله أكثرية الناس، وهو ما يعرف بـ “حكم الأغلبية” مما يعني أن هنالك أقلية لها نفس أهمية الغالبية.
ومن القواعد العامة للديمقراطية، ضرورة قبول الاختلاف في الرأي باعتباره أمرا مشروعا، وضرورة العودة إلى إرادة الشعب عن طريق الاستفتاء والانتخاب، والانصياع إلى حكم الأغلبية في وجود الأقلية بحقوق سياسية تكفلها الممارسة الديمقراطية.
وبالعودة إلى مصطلح “أبوالحقوق” لابد من الاعتراف بحق الإنسان في العمل السياسي المنظم، ولا يحق لأحد أن يشوه ظاهرة التحزب والحزبية، ولا يحق لأي نظام سياسي ولا للمجتمع كله بتكفير أو تشويه أو تتفيه الحزبية أو الأحزاب السياسية، مع التأكيد على ضرورة تنظيمها وضبطها بقواعد عمل متأصلة في الفكر السياسي الديمقراطي.
ومن قواعد الديمقراطية أن يكون العمل السياسي المنظم علنيا وليس سريا وفي إطار الشرعية. بل أن ما ينبغي تحريمه قانونا تلك الشعارات التي رُفعت في زمن الجمر، كـ “الحزبية خيانة” و “الحزبية إجهاض للديمقراطية” و “من تحزب خان“. وهذا الحديث عن الحزبية يدفعنا إلى ضرورة استيعاب أهمية تفهم مسألة التعددية الحزبية في العمل السياسي المنظم.
ما يشوب الممارسة الليبية للديمقراطية، أن الأمية السياسية غالبة في المجتمع الليبي، والتراث الثقافي السياسي خلال أكثر من اربعة عقود مناقض تماما لثقافة الديمقراطية، وانعكس ذلك على غياب التجربة الحزبية والأحزاب الليبية ومنظمات المجتمع المدني.
أن التحدي الأكبر أمام الأحزاب الليبية، هو ضرورة ابتداع نمط متميز وأصيل من أنماط الممارسة الديمقراطية التي تتناسب مع المجتمع الليبي، على أن تأخذ في اعتبارها بأن البيئة السياسية الليبية لا زالت تعاني من آثار حظر العمل الحزبي والانتماء للأحزب طيلة عقود التجربة السياسية في زمن الاستبداد، وهناك أيضا مطب سيطرة ثقافة الانتماء والارتباط بالقبيلة وانتشار العصبية القبلية والجهوية في المجتمع الليبي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ