سمير الزبن
تفرض الثورات والتحوّلات والأحداث المتسارعة التي شهدتها دول المنطقة على مدى العقدين الأخيرين مراجعاتٍ متعدّدة المستويات.
ومراجعة الحياة السياسية العربية والفاعلين فيها من بين أهم المراجعات التي يحتاجها العالم العربي اليوم. ولا شك في أن الأحزاب السياسية أهم الفاعلين فيها، ولكن السؤال الذي تطرحه مراجعة الحياة السياسية العربية:
هل أدّت الأحزاب دورها الطبيعي في المجتمعات العربية، أم كانت جزءاً من الحياة السياسية العربية المتعثّرة؟
يكتسب السؤال مشروعيته من التردّي الذي وصلت إليه الحياة السياسية العربية وفشلها في أن تقود الثورات التي شهدتها البلدان عربية، حيث تحوّلت السياسة إلى كلام، وكلام فقط، لا فعالية سياسية واجتماعية تستهدف التحولات في المجتمع ليتلاءم مع التحدّيات المفروضة عليه.
بالعودة إلى تاريخ الظاهرة الحزبية في المنطقة العربية، نجد أن الأحزاب شكلت أهم الظواهر السياسية في ظل التجربة الاستعمارية.
ورغم استمرار هذه الظاهرة في الحياة السياسية العربية بأشكالٍ متعدّدة، إلا أنها لم تؤدّ الوظائف نفسها التي أدّتها الأحزاب في التجربة الأم. كما أن هذه الظاهرة لم تستطع دخول النسيج المجتمعي العربي، ما أبقاها، إلى حدٍّ كبير، ظاهرةً غريبة بالنسبة للمجتمع العربي، فقد حافظت التشكيلات الاجتماعية التقليدية على دورها السياسي المركزي في إطار هذه المجتمعات (العشيرة، القبيلة، الطائفة، العائلة.. )، حتى أن تجارب حزبية عديدة جاءت لتندرج في خدمة هذه التشكيلات التقليدية، ولتعبّر عن مصالحها.
فشل الأحزاب العربية في تحقيق الدور الذي يُفترض أن تقوم به بوصفها إحدى الأدوات المجتمعية، والتي تقوم بدورها من خلال التأثير على المجتمع وتلخيص مصالح قطاعات وطبقات وفئات اجتماعية مكوّنة له، يضع الظاهرة الحزبية موضع المساءلة عن حقيقتها ودورها وجدواها في تحديث الحياة السياسية، وبالتالي، تحديث المجتمع العربي، ومساءلتها عن بيئتها وعلاقاتها الداخلية وآليات عملها، وتداخل هذا مع الوسط الاجتماعي والتعبير عنه.
لا تنطبق نشأة الأحزاب من الكتل البرلمانية على كل الأحزاب التي عرفتها التجربة الحزبية الأوروبية، فبعضُها يشذّ عن القاعدة، فهناك أحزابٌ نشأت خارج الدورة الانتخابية البرلمانية، إلا أنها اضطرّت للعمل داخل التجربة البرلمانية، ما جعل جميع الأحزاب في التجربة الأوروبية أسيرة العمل البرلماني.
فالأحزاب تعمل دائماً على الصعيدين، الانتخابي والنيابي، بوجه عام، إن لم يكن بوجه الحصر، ما يجعل حدث الاقتراع العام والديمقراطية البرلمانية أساس نشوء الأحزاب السياسية.
ذلك لا يعني أن التجربة الأوروبية كانت نموذجية، فحتى في تلك التجربة، ومع ازدهار الأديان السياسية وصعودها، حافظت الأحزاب على نموذج العزلة، فإذا كان الهرم الكنسي هو الذي ينظم العلاقة المغلقة بين رجال الدين ويحدد أدوارهم، فإن الأحزاب السياسية هي التي تقوم بهذه المهمة في ظل ازدهار الأديان السياسية، فالمجموعة الحزبية طائفة مغلقة، منكمشة على نفسها، تعيش وفقاً لقوانينها الخاصة المختلفة عن قوانين المجموعة الوطنية التي هي جزءٌ منها.
كما أنها تنمو وفقاً لوتيرةٍ خاصّة بها، ويكفي أن نشير إلى اللاحساسية النسبية لدى المجموعة الحزبية وانعزالها النسبي عن الأحداث السياسية والاقتصادية، في حين تبدو بالعكس أكثر حساسيةً تجاه المسائل الحزبية الداخلية الصرف.
رغم الملاحظات التي توجّه إلى التجربة الحزبية الغربية، يمكن القول إنها ولدت عند درجةٍ معينةٍ من تطور المجتمع لتنظيم الصراعات والتناقضات التي تعتريه، وجرّها إلى خارج دائرة العنف، بإقرار التعدّدية السياسية وحقوق الإنسان وحق الاختلاف وحرية التعبير عن الرأي… إلخ.
ذلك ما يجعل اللعبة السياسية في التجربة الأوروبية تقوم على قواعد وأسس واضحة، لا يشكل الإلغاء إحدى قواعدها.
أخذت الأحزاب، في التجربة العربية، مساراً معاكساً، حيث لم تنشأ في ظل التجربة الاستعمارية فحسب، بل كذلك نشأت هياكل الدولة العربية الحديثة وأجهزتها في مرحلة الاستعمار وبتنظيم السلطات الاستعمارية، كإجراءات سياسية وإدارية لنهب البلاد المستعمرة.
وعندما استقلت الدول العربية كانت هياكل الدولة الجديدة قد تمت زراعتها، ولكنها كانت زراعة فوقية، ولم تتغلغل عميقاً في التربة السياسية والاجتماعية والثقافية لهذه البلدان.
وكان على الذين قادوا الاستقلال عبر حركات الاستقلال الوطني، الاستيلاء على هذه الهياكل وتطويعها وإعادة تشذيب بعض عناصرها وحدودها في إطار الأيديولوجيا التي تبنّتها نخب الاستقلال، ما جعل الدولة العربية الحديثة تولد معتلة.
حملت التجربة الحزبية أثقالها في ظل هذه الظروف، وبالانتقال من الاحتلال للاستقلال كان عليها أن تتعامل مع شروط جديدة.
فقد أصبح العديد من البلدان يُحكم من قبل أحزاب وطنية، أخذت تطبق عقائدها، دون أن ترى المواطنين في هذه العقائد.
وهناك دول ساد فيها نظام الحزب الواحد باسم التحديث والتنمية والتقدم. حيث قامت بالسيطرة ليس على الساحة السياسية فحسب، بل أيضاً على الفضاء الاجتماعي والثقافي باسم تحقيق مشروع التنمية والاستقلال الوطني، في مقابل إشباع حاجات المواطنين في المأكل والمسكن والتعليم والصحة.
وفي الوقت نفسه، نزع تسيّس المجتمع، في إطار نظام سياسي واحد، لا تجوز فيه ممارسة العمل السياسي ولا تجوز خارجه. وبذلك تم إلغاء السياسة ولم تشبع حاجات الناس التي أُلغيت السياسة من أجل إشباعها.
لقد كشفت تجربة الدولة العربية الحديثة والأحزاب السياسية عن سمتين أثرتا على التجربة الحزبية في العالم العربي وطبعتها بطابعها، وهما:
الأولى، أن الدولة الحديثة لم تستطع استكمال مشروعها في الواقع الاجتماعي السياسي، كسلطة منحدرة من المجتمع، ولكنها تريد أن تكون فوقه، وعملت كل جهدها للفصل بين الدولة والمجتمع.
لذلك ظلّت تحمل معها ظواهر نقيضة لها، كالاستبداد السياسي وحكم الفرد
وشخصنة السلطة بين الحاكم والدولة، وتضييقها الخناق على المجتمع المدني.
الثانية، وهي مرتبطة بالأولى بشكل وثيق، بقاء الصياغات الدستورية والقانونية مجرّد حبر على ورق، تتناقض على طول الخط مع الممارسات التي تقوم بها السلطات من انتهاكاتٍ صارخةٍ لحقوق الإنسان والحريات الأساسية للمواطنين، التي يفترض أن تحميها النصوص الدستورية التي أقرتها هذه السلطات.
وبذلك، لم ترَ هذه السلطات المواطنين، ولم ترَ بلدانها، إلا بوصفها مزارع خاصة، وما لبثت هذه الأحزاب التي ارتبطت في أغلب البلدان بانقلاباتٍ عسكرية، أن كرّست الديكتاتور بوصفه رجلا خارقا وأبديا، وأصبحت بخدمته الشخصية، وهذا ما أغرى هؤلاء المرضى بالسلطة بالعمل على توريث السلطة لأولادهم.
وعندما اندلعت الثورات العربية بعد عقود من تعفّن هذه الدكتاتوريات، تبيّن أن هذه السلطات (الوطنية) لم تدمر السياسة فحسب، بل دمّرت أوطانها أيضا، كما لم تدمّرها أقسى التجارب الاستعمارية.
__________