د. سليمان صالح
هل يحتاج العالم إلى خيال سياسي جديد ينتج أفكارا لبناء المستقبل على أسس تتجاوز تلك التي أقيمت على أساسها الدول في القرن العشرين؟
هناك مجموعة من الحقائق التي أوضحتها دراسات علمية، واستطلاعات رأي عام من أهمها: أن الشعوب فقدت ثقتها في السياسيين الذين أصبحت صورتهم في أذهان الجماهير مشوهة. فهم يعملون لتكديس الثروات وتحقيق مصالحهم الخاصة، وينتشر بينهم الفساد، ويتعاملون مع الجماهير بالكذب والخداع، وينافقون أصحاب السلطة.
لذلك تناقصت نسب المشاركة في الانتخابات، وأدى ذلك إلى عدم القدرة على إنتاج أفكار ومشاريع حضارية، وحلول جديدة للمشكلات.
ولذلك أصبح العالم كله يحتاج إلى قيادات تمتلك خيالا سياسيا؛ لقيادة ثورات علمية وفكرية و جتمعية. فالثورة على الواقع البائس يمكن أن تحمل آمالا جديدة لشعوب أصبحت تعاني الفقر والبؤس واليأس والإحباط.
الديموقراطية في أزمة، ولكن كل أزمة يمكن أن تحمل فرصا تحتاج إلى خيال سياسي لاكتشافها. فالدولة التي يمكن أن تحتل مكانة عالمية، هى التي تتمكن من أن تقدم للعالم نموذجا جديدا للديموقراطية يعبر عن إرادة الشعوب، يقوم على منظومة من المبادئ والأخلاق، ويوظف الثروة البشرية لإقامة مجتمعات معرفية، ويحرر الشعوب من منظومة الأفكار التي أنتجتها أوروبا خلال مرحلة الاستعمار، فهذه المنظومة لم تكن في صالح الشعوب.
لذلك فإن الشعوب في الجنوب الفقير تحتاج إلى ديموقراطية ما بعد الاستعمار التي تعيد لها حقوقها في اختيار حكام ينتمون لها، ويعبرون عنها، ويتمكنون من قيادة كفاحها لتحقيق الاستقلال الشامل.
عندما تمتلك الشعوب خيالا سياسيا
الشعوب يجب أن تطور خيالها السياسي لتشكل به موجة جديدة من الثورات ضد الاستعمار والاستبداد والفساد، ولتحقق الحرية والعدل والاستقلال الشامل.
والشعوب يمكن أن تختار قياداتها من أصحاب المشروعات الحضارية، الذين يمكن أن يقودوا كفاحها لبناء المستقبل، عندما تمتلك خيالا سياسيا ينطلق من الثقة بالذات والوعي بالهوية، والإيمان بالحق في الحياة، وتحقيق التقدم القائم على اكتشاف الثروات واستغلالها.
لذلك فإن تنمية الخيال السياسي للأفراد والقيادات لا يكفي لبناء المستقبل، لكن الشعوب يجب أن تطلق خيالها، لرفض الخرافات العنصرية الغربية التي يتم تسويقها لدفع الشعوب إلى الشعور بالعجز والدونية.
الخيال السياسي هو الذي يطلق قدرات الشعوب، ويثير مشاعرها لتثبت للعالم أنها قادرة على بناء دول قوية تستثمر ثرواتها، وتحفظ كرامة شعوبها وحقوقها، وتحقق آمالها.
ولقد كان من أهم العوامل التي ساهمت في انكسار ثورات الربيع العربي أن النخب افتقدت الخيال السياسي، فظلت تدور في إطار الواقع الذي ثارت عليه الشعوب، والذي تشكل المحافظة عليه ظلما للجماهير.
والنخب التي لا تمتلك خيالا سياسيا، ظل تفكيرها العاجز يدور في إطار التبعية لأميركا، وحتى الآن يتطلع الجميع إلى دور أميركا وأوروبا والمؤسسات العالمية للمحافظة على واقع تقوم فيه نظم حكم مستبدة بقهر الشعوب وافقارها.
لذلك يبدو السؤال:
هل نحن قادرون على بناء واقع جديد، وتحقيق آمال الشعوب في الحرية والكرامة والديموقراطية والغنى؟
إننا قادرون على تقديم إجابة مبدعة على هذا السؤال عندما نطلق العنان لخيالنا السياسي، ونقرر أن نرفض التبعية لأميركا وأوروبا ، ونتمسك بحقوقنا وحريتنا في اختيار قياداتنا بإرادتنا من الذين يمتلكون خيالا سياسيا.
ومن المؤكد أن النخب التي خضعت للواقع، وعاشت طوال السنوات الماضية تفكر في إطاره، لا تستطيع أن تنتج أفكارا تتجاوز حدود المحافظة على الوضع الراهن، وخيالها السياسي محدود بشروط هذا الواقع، وهى فقيرة فكريا.
لذلك تحتاج الشعوب إلى قادة جدد يتميزون بالطموح ويحررون أنفسهم من التبعية لأميركا، و يقرأون التاريخ بعمق ليتمكنوا من إنتاج رؤى ومشروعات حضارية يتم بناء المستقبل على أساسها.
الشعوب تحتاج إلى قادة يغيرون الواقع ولا يخضعون له، ويقودون كفاح الشعوب للتحرر من التبعية لأميركا، ومن الاستعمار القديم والجديد، ومن الشعور بالعجز والدونية. أما الذين استهلكهم الواقع من النخب السياسية والثقافية، فإنهم لا يستطيعون قيادة حركة الشعوب في المستقبل.
متابعة قنوات التلفاز يمكن أن تبرهن على عجز هذه النخب، ومحدودية خيالها السياسي، وقراءة الصحف التي تسيطر عليها السلطات توضح فقر الفكر، و قلة الحيلة والعجز والخوف من التغيير، والرغبة في المحافظة على الوضع الراهن، بكل ما فيه من ظلم وقهر وحزن وبؤس.
الخيال السياسي وتحقيق وتماسك المجتمعات
والسؤال الذي يمكن أن يطرح نفسه على كل السياسيين، هو كيف يمكن تحقيق تماسك المجتمعات، بعد أن انتشرت الكراهية والصور النمطية وقسوة السلطة، وفساد النخب، واستكبارها على الشعوب؟
لذلك فإن تحقيق تماسك المجتمعات وإعادة توحيدها، يحتاج إلى خيال سياسي ينتج أفكاراًجديدة في حوار حر.
الخيال السياسي و الثورة الأميركية
إن الذين قادوا الثورة الأميركية امتلكوا خيالا سياسيا، مكنهم من إنتاج الكثير من الأفكار التي أقاموا بها دولة لها حلم تعمل لتحقيقه، وتوحيد هذه الدولة بالرغم من وجود الكثير من الاختلافات التي تعوق وحدة الدولة.
ولقد أنتج هؤلاء القادة ومن أهمهم الرئيس الأميركي توماس جيفرسون الكثير جدا من الأفكار، وأثبتوا أن خيالهم السياسي يتميز بالقوة، وهذه الأفكار شكلت واقعا تزايدت فيه قوة الولايات المتحدة حتى تمكنت من السيطرة على العالم. لكن التحديات التي يفرضها القرن الـ 21 تحتاج إلى خيال سياسي جديد لمواجهتها، وبناء عالم جديد أكثر عدلا.
هناك دول وحضارات تحتاج إلى قادة يطلقون لخيالهم السياسي العنان ويمتلكون الشجاعة لطرح أفكار جريئة تقوم عليها تحالفات جديدة وعلاقات دولية على أساس تبادل المنافع والمشاركة في تحقيق أهداف عظيمة، و الكفاح ضد الاستعمار والاستبداد والفساد.
والخيال السياسي المتحرر من أسر الواقع يمكن أن يسهم في بناء عالم جديد، فالبشرية تواجه أزمة لا يستطيع أحد أن يحلها بمنطق الحضارة الغربية وأفكارها وتجاربها التاريخية التي قامت على أساس النهب الاستعمارى للشعوب.
الخيال السياسي يبني اقتصادا جديدا
بناء اقتصاد عالمي جديد يحتاج إلى خيال سياسي، فالعالم يواجه أزمة اقتصادية لم تتضح ملامحها بعد، لكن هناك مؤشرات على أنها ستؤدي إلى تزايد الفقر والبطالة والمجاعات والفوضى والأمراض، والأنانية الغربية ستزيد حدة هذه الأزمة، فما زالت هذه النظم الحاكمة في أميركا وأوروبا أسيرة لأفكار القرن العشرين القائمة على نهب ثروات الشعوب.
أما النظم الحاكمة في الدول الفقيرة، فإن تفكيرها قد توقف عند حدود التبعية لأميريكا، والاقتراض من المؤسسات العالمية لتسديد فوائد الديون. وهذا التفكير سيقود العالم إلى كوارث من أهمها المجاعة والإفلاس والفوضى والهجرة غير الشرعية عبر البحر المتوسط إلى أوروبا.
هناك الكثير من الكوارث التي سيتعرض لها العالم، من أهم أسبابها أن الشعوب عطلت خيالها السياسي، واستسلمت للأوهام والخرافات العنصرية الغربية، فأصبحت حريصة على الاستقرار، وهي حجة استخدمتها السلطات المستبدة، كسوط تضرب به ظهور الشعوب حتى لاتتطلع للحرية وتغيير الواقع.
ولأن وسائل الإعلام فقدت الحرية والمسؤولية، لم تستطع أن تنشر أية فكرة تتحدى الواقع، وتلهم الشعوب لتحقيق التغيير الذي يشكل طوق النجاة للشعوب، وللعالم كله.
أما أميركا فإنها تحتاج خيالا سياسيا لإعادة بناء علاقاتها بشعوب العالم على أسس جديدة، فالكراهية لأميركا تتزايد في كل الدول، والواقع سوف يتغير رغم أنف أميركا وأوروبا.
الشعوب التي تبيت على الطوى ستخرج يوما ترجم المستبدين والنخب السياسية بالحجارة، ثم ستتجه نحو أميركا التي تدرك الشعوب أنها نهبت ثرواتها، وفرضت عليها المستبدين ليقهروها.
لكن هل يمتلك السياسيون الأميركيون خيالا سياسيا لتحقيق تغيير في أسلوب تفكيرهم، وهذا الخيال السياسي يمكن أن يسهم في توحيد الولايات المتحدة الأميركية مرة أخرى على أسس الحياة المشتركة، وتقاسم الخيرات، والتخلى عن جشع الرأسمالية والليبرالية الجديدة وغرور القوة.
كل شعوب العالم تحتاج إلى خيال سياسي جديد لبناء عالم أكثر عدلا، فالظلم سيدمر الحضارة التي بنتها البشرية، والتقدم المادي الذي يفتخر الغرب به. والخيال السياسي هو الذي يمكن أن يؤسس لحياة مشتركة نتبادل فيها المعرفة، ونتعاون في الكفاح للقضاء على الفقر والجوع والجهل.
والخيال السياسي يمكن أن ينتج مشروعات حضارية جديدة يتم بناء المستقبل على أساسها.
لكن كيف يمكن تطوير الخيال السياسي؟
إن الشعوب تحتاج إلى العلم والمعرفة وحرية الإعلام وفتح المجال العام ليتسع للأفكار الجديدة التي يمكن أن تبنى عالما جديدا، كما تحتاج إلى قادة يمتلكون خيالا سياسيا ليقودوا الشعوب لتحقيق التغيير، والكفاح من أجل تحقيق الاستقلال الشامل.
واطلاق الخيال السياسي يحتاج إلى فلسفة جديدة للتعليم، لتأهيل الطلاب ليكونوا قادة وليمتلكوا القدرة على تقديم أفكار جريئة، ويعبروا عنها بشجاعة ويدافعوا عن مبادئهم، ويكافحوا لتحقيق حرية شعوبهم.
***
د. سليمان صالح ـ أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة وعضو مجلس الشعب في برلمان الثورة
____________