ريناس بنافي

مقدمات حول الديمقراطية:

ان البحث في الثقافة الديمقراطية هو بحث في مجموعة من الاسئلة الحيوية والخطيرة والهامة .

السؤال الاول: كيف اصبحت الديمقراطية ممكنة وكيف استطاع الانسان تقيد السلطة بالقانون واخضاعها للقانون ممكنا .

فالسلطة السياسية التي تتركز في يدها اجهزة الاكراه والالزام الاجتماعي كيف استطاع الانسان ان يعالج الامراض التي نشأت عن الشأن السياسي ويروض هذه السلطة.

خلال مراحل التاريخ الانساني هناك محاولات عديدة لمعالجة الشان السياسي عبر سلسلة من الافكار منها محاولة افلاطون والبحث عن الجمهورية الفاضلة  ومنها محاولة الفارابي وتعليقه لمعالجة الشان السياسي على الصفات والشروط في رجل الحكم صاحب الامر ومنها نظرية العقد الاجتماعي وفصل السلطات وسيادة الشعب وغيرها من النظريات .

فاخضاع السلطة السياسية للقانون لم يكن قرارا فوقيا وانما كانت نتيجة حراك معرفي واجتماعي طويل تمخض عنه الديمقراطية بشكلها الحديث هذه الحركيات الكبرى حصلت في العقليات والذهنيات على مدى قرون غيرت في بنية وقناعات الانسان والتي كانت السبب في امكان البناء الديمقراطي ولولاها لما كانت الديمقراطية ممكنة فالديمقراطية قديمة وتبدا من عصر الفلاسفة اليونانين وتمر عبر مراحل لتصل الى عصر النهضة ونتيجة للتحولات العميقة في الوعي والثقافة ساعدة في ظهور الديمقراطية كمكتشف معرفي  .

وبدون البحث عن الحركيات الثقافية لايمكننا ان نفهم الادوار الحقيقية التي لعبتها الديمقراطية كثقافة في المجتمعات الحديثة والتي تشربت هذه القيم فالديمقراطية ليست مجرد تداول على السلطة وانتخابات بل هي ثقافة ولها مقاصد اجتماعية وسياسية تسعى الديمقراطية لتحقيقها .

السؤال الثاني: كيف استطاع الغرب مواجهة والقضاء على الافكار الانقسامية والفتنوية.

السؤال الثالث: كيف استطاع الغرب مواجهة والقضاء على الاستبداد والطغيان.

ما الذي يمنع قيام نظام ديمقراطي عربيّ، اليوم، رغم نجاح “ثورات” في إسقاط أنظمة فاسدة؟

وما الذي يحملنا على رفض اختزال الديمقراطية إلى مجرد آليات انتخابية حرة ونزيهة على فَرَض أنها كانت كذلك في الحالة العربية ما بعد “الثورة”؟

نعم، المانع دون قيام نظام ديمقراطي في بلداننا مانعٌ سياسي:

تجذر الاستبداد والكلانية (التوتاليتارية) في المجتمع السياسي: سلطةً ومعارضة . لكنه كذلك بسبب انعدام الشروط الثقافية والاجتماعية والتحتية لكل ديمقراطية، فالفكر والوعي العام يعانيان غياباً فادحاً للثقافة الديمقراطية والمؤسسات والعلاقات الاجتماعية خِلوٌ من القيم الديمقراطية .

ثقافتنا مُصابة بالمطلقية، لا نسبية فيها ولا حسّ واقعياً، ومجتمعنا مصاب بالانغلاق على تقاليده، لا تسامح فيه ولا اعتراف بآخر مختلف .

لا ديمقراطية من دون ديمقراطيين، ولا ديمقراطيين من دون تربية ديمقراطية وعلاقات ديمقراطية .

وهذه لا تكون من دون ثورة ثقافية، وإصلاح ديني، وتجديد في علاقات الاجتماع، وتفكيك للبنى والذهنيات الموروثة والمغلقة .

ان تطبيق الديمقراطية يتطلب شروطاً يجب توافرها مثل الوعي السياسي، المستوى التعليمي، وتطور مفهوم المواطنة بإطاره القانوني، والولاء للدولة كحاضنة للجميع

الديمقراطية لا يمكن أن تتواجد في كيان معزول خارج جسم الظروف التاريخية والوجود البشري، وإمكانياتها وحدودها تعتمد على البنى الاجتماعية القائمة وظاهر الوعي، فهي قيمة أو مجموعة قيم لابد من توافرها حتى ينتج عنها سلوك.

إذن هي حالة ذهنية يجب أن تدرك وتستوعب مضامينها في العقل البشري كجزء من ثقافته العامة، فلا يمكن للسلوك الديمقراطي أن يكون من دون توفر القيم ذات الطابع الديمقراطي، فحالة التحول المطلوبة من إطار سلطوي إلى آخر ديمقراطي تحتاج لوعي، أو إدراك لجوهر ومضامين القيم الديمقراطية والتي هي متعلمة، ومكتسبة ولها علاقة بالخبرة والممارسة الإنسانية.

صحيح أن الديمقراطية مذهب فلسفي يعيد أصل السلطة السياسية إلى إرادة العامة “إرادة الشعب” لأنه مصدر السلطات، وتعود على شكل النظام السياسي إذ نميز بين نظام سلطوي وآخر ديمقراطي، لكن مقصدنا هنا الحديث عن مضامين الديمقراطية كقيم ثقافية واجتماعية.

فالقيمة الأولى هي أن الفرد بحد ذاته قيمة، وحريته نقطة الانطلاق فلا يجوز تقييده أو تكبيله باسم السلطة ومن قبلها في مجالات الحياة وفضاءات السلطة، فهي أي الديمقراطية تروج لفكرة الحرية، وحق تقرير المصير، والاختيار، والاستقلال الذاتي المعنوي ومسؤولية الفرد عن اختياره، وحماية مصالحه والخبرات التي يشارك بها الآخرون، ناهيك عن احترام كرامة الإنسان كانسان بغض النظر عن عرقه أو دينه أو جنسه واحترام حرية الرأي والاعتقاد، والتعبير بكافة الإشكال وبقية الحريات كما هي الحقوق من مدنية وسياسية. الحقوق التي ولدت معنا والتي اكتسبت من وجود التنظيم السياسي الذي تطور مع تطور المجتمعات البشرية.

ولا ننسى أن من مضامين الديمقراطية مبدأ سيادة القانون كمعيار يتم التعامل به مع الجميع وهو ما يسمى المساواة أمام القانون والمساواة الأخلاقية الذاتية لكل الأفراد باختيار ما هو أفضل لذاته والمساواة السياسية بين المواطنين، والمساواة في توزيع عوائد الموارد والثروة.

التعددية السياسية والتي تعني التنوع بأشكاله المختلفة، الثقافة، الرأي، والفكر الذي ينظم من خلاله المجتمع متجها نحو مفهوم تداول السلطة السياسية والتي هي أهم مضامين الديمقراطية، يضاف إلى ذلك مضامين مثل: التسامح، والحياد القيمي، والعقلانية.

أما مزايا الديمقراطية فهي تعمل على معاملة الجميع على قدم المساواة وتلبية احتياجات المواطنين استناداً لمطالبهم الجمعيّة، وتدفع باتجاه الحوار والإقناع والسعي للحلول الوسط وترسيخ السلم الاجتماعي، وكفالة وحماية حقوق الإنسان وحرياته وتدفع باتجاه تجديد قوة المجتمع من خلال عمليات التجنيد السياسي التي يؤدي لبروز قيادات منتخبة بنزاهة وبحرية، وعدالة فهي توفر القيادات السليمة والفاعلة.

إن تطبيق أو تعزيز الديمقراطية يتطلب شروطاً يجب توافرها مثل الوعي السياسي، المستوى التعليمي (التعليم)، وتطور مفهوم المواطنة بإطاره القانوني، والولاء للدولة كحاضنة للجميع ورمز يحترم ويضحى من أجله وانحسار الانتماءات الضيقة والتقليدية، وأهمية وجود طبقة متوسطة عريضة لأنها الأساس في التغيير والاستقرار، ووجود مؤسسات مجتمع مدني فاعلة مثل الأحزاب السياسية، والجمعيات والنقابات والاتحادات النوعية، يضاف لذلك مستوى معيشي جيد يستطيع الفرد من خلاله تلبية احتياجاته ومتطلباته الحياتية  فالخبز قبل الديمقراطية.

إن نجاح الديمقراطية يعتمد على توفر البيئة الاجتماعية الحاضنة لتلك المضامين القادرة على تنميتها وحمايتها والحفاظ عليها، وتوفر الشروط اللازمة لانطلاقها من خلال دور فاعل لوسائل التنشئة السياسية المختلفة لتصبح تلك القيم والمضامين جزءاً جوهرياً من الثقافة العامة والسياسية كنمط فرعي، فالديمقراطية لا تنمو بالشعارات بقدر ما تنمو من خلال زرع قيمها ومضامينها في العقل البشري لممارستها في الحياة العامة كمنهج عام.

أن تربية الوعي السياسي وتنميته مهمة تقع على عاتق المثقفين المستنيرين الذين ينبغي عليهم القيام بدور تنويري خطير فيما يشبه ما قام به المفكرون والفلاسفة التنويريين في أوروبا في القرن الثامن عشر فمهدوا بذلك لقيام الثورة الفرنسية وما نحن في أمس الحاجة إليه هو هذا الوعي السياسي الذي يحقق توحداً بين ماهية الإنسان وحريته بحيث يفقد وجوده في الحال إذا فقد حريته.

ثم يشير الدكتور إمام عبد الفتاح إلى أحد الجوانب السلبية لغياب الوعي السياسي وهو ما تمثل في الفهم المغلوط بشأن تطبيق النظام الديمقراطي حيث ذهب كثيرون إلى معارضة تطبيق مثل هذا النظام بدعوى أنه نظام غربي مستورد فكيف يجوز لنا نحن العرب أن ننقل عن الغرب تجربته وهو ما يعتبره الدكتور  إمام عبد الفتاح يدل على قصور في الوعي لعدة أسباب أن الديمقراطية، حسبما أشار، إنما هي تجربة إنسانية وليست نظاماً غربياً، فهي تجربة إنسانية عالمية في المقام الأول وليست تجربة الآخرين المختلفين عنا.

ثم يذكر أن اليابان تطبق الديمقراطية وهي ليست دولة غربية وأن الهند كذلك تطبقها وهي ليست دولة غربية فضلاً عن دول آسيوية كثيرة وربما افريقية كذلك تسير في نفس الطريق. متسائلاً: ألا يدل ذلك ـ وفق المؤلف ـ على أنها تجربة إنسانية؟

ثم يتساءل عن أبعاد الحساسية من الديمقراطية الغربية ونحن نستفيد ونقتبس وننقل من الغرب آلاف الأفكار في جميع المجالات من السينما إلى المسرح إلى الإذاعة والتلفزيون.. فهل نوافق على ذلك كله ثم نرفض نقل العلاج لأمراضنا السياسية كما ننقل عنهم العلاج لأمراضنا الجسمية ؟

يفتح آلان باديو في كتابه ”جمهورية أفلاطون” إمكانية النظر إلى الشرط الأفلاطوني للحكم، الحكمة، والتي هي شرط ضروري ومعقول في كل الأحوال، باعتبارها قد تصبح فرصة لتعميق الديمقراطية بدل إلغائها، وذلك حين نساهم في رفع مستوى الشعب الذي هو صانع القرار في النظم الديمقراطية إلى أعلى قدر ممكن من المعرفة والحكمة والتفكير “المثالي” والمرتبط بالقيم الكونية.

وإذا كان أفلاطون يدعو إلى حكم الفلاسفة، فالسبب كما يشرح ذلك باديو أن الفلاسفة يتميزون بالقدرة على التحرّر من المصالح الخاصة والأنانية الضيقة، وذلك هو الشرط الأساس للتفرّغ لتدبير المصلحة العامة في طابعها الكوني والمجرّد.

بمعنى أننا نستطيع من وجهة نظر باديو أن نستنتج من الموقف الأفلاطوني فرصة لترسيخ الديمقراطية المهددة بفعل سطوة المصلحة الخاصة، وذلك بأن نرسخ ثقافة شعبية متحررة بدورها من تسلط المصالح الخاصة. وبدل أن يحكم الحكماء، يمكننا أن نجعل الشعب يرقى إلى مستوى معقول من الحكمة والقدرة على تمثل فكرة الخير العام. وهذا هو الخيار الأفضل والأضمن بالنسبة لمستقبل الديمقراطية.

على أنّ المستوى الذي يلتقي فيه الفيلسوف “اليساري” الفرنسي ألان باديو مع الفيلسوف “اليميني” الأميركي ليو شتراوس هو المستوى الذي يؤكدان فيه حاجة المجتمعات المعاصرة إلى نوع من القيم المتعالية والمطلقة على طريقة مُثُل أفلاطون، مثل الخير والفضيلة والحق ونحو ذلك. لكن يتجلى الفرق الأساس بين الفيلسوفين في أن آلان باديو يدعو إلى تحرير فكرة المثل الأفلاطونية من التأويل الديني المسيحي الذي تعرضت له، والذي جعل الناس يتصورونها وكأنها مرادف للماورائيات الدينية، في المقابل يفتح ليو شتراوس الباب على مصراعيه أمام عودة القيم الدينية المحافظة نفسها لأجل دعم حاجة المجتمعات إلى المُثل ومناهضة نزعة النسبية الثقافية، والتي أضعفت مفاهيم الخير والفضيلة والحق، وجعلت كل شيء نسبيا حتى العدالة نفسها.

يتفق آلان باديو وليو شتراوس على أن نزعة النسبية الثقافية هي الخطر الأكبر الذي يهدد مستقبل الديمقراطية وحقوق الإنسان، هذه الأخيرة التي تفترض نوعا من المعايير الكونية وحتى المتعالية إلى حد معين.

لقد انتهت نزعة النسبية الثقافية بالنسبة لليو شتراوس إلى صعود النازية بعد أن أصبح كل شيء نسبيا بما في ذلك قيم العدالة والديمقراطية نفسها، وانتهت نزعة النسبية الثقافية بالنسبة لآلان باديو إلى تفشي قيم الأنانية والمصالح الخاصة وقيم السوق، ودمرت بالتالي نسيج التضامن الاجتماعي، ومن ثم أضعفت قدرة الشعوب على الاهتمام بالشأن العام كشرط أساس لازدهار الديمقراطية.

بالنسبة لليو شتراوس في كتابة “ما هي الفلسفة السياسية؟” فإنّ الديمقراطية تدهورت جرّاء موجات الحداثة السياسية نفسها، والتي انطلقت مع مكيافيلي خالية من أية مثل أخلاقية، وأفضت مع نيتشه إلى انهيار كامل لكل القيم والمثل العليا، ومن ثم لم يعد بالإمكان التعامل مع الديمقراطية نفسها باعتبارها قيمة مثالية، وإنما باعتبارها مجرّد حالة نفعية يمكن التغاضي عنها إذا ظهرت منفعة مختلفة. لأجل ذلك يدعو شتراوس للعودة إلى الفلسفة الكلاسيكية على رأسها أفلاطون فضلا عن الفارابي وابن ميمون.

هكذا، يمنحنا الفيلسوفان آلان باديو وليو شتراوس فرصة أخرى لإعادة قراءة فلسفة أفلاطون من جديد، وتوظيفها هذه المرّة في اتجاه حماية الديمقراطية وإعادة بناء أسسها وتأمين مستقبلها.

يتبع

***

ريناس بنافي – باحث في الفكر السياسي والاستراتيجي

____________

المركز الديمقراطي العربي

مقالات مشابهة