بالنسبة لمسألة التوازن، يمكن النظر إلى المؤسسات الخمس وفق صيغة 2+2+1، حيث يمثل شرق ليبيا بمجلس النواب والقيادة العامة، والمنطقة الغربية عبر حكومة طرابلس ومجلس الدولة، بالإضافة إلى المجلس الرئاسي الذي يتم التعامل معه بوصفه مؤسسة محايدة ومنفتحة على مختلف الأطراف.
كذلك، فإن اختيار هذه المؤسسات تحديدًا يعكس الرغبة في تمثيل الأطراف الأكثر تأثيرًا؛ فمثلًا لا يمكن النظر إلى حكومة أسامة حماد في شرق ليبيا باعتبارها طرفًا سياسيًا له إرادة مستقلة عن مجلس النواب أو القيادة العامة، لاسيما مع عدم الاعتراف بها دوليًا؛ كما أن تمثيل القيادة العامة لم يقابله تمثيل طرف عسكري من المنطقة الغربية، وذلك لمنع تداخل هذا المسار مع المسار العسكري عبر لجنة 5+5.
وقد سارعت البعثات الدبلوماسية في ليبيا، ومن بينها الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا وألمانيا، بإعلان “ترحيبها بحرارة” بخطة البعثة الأخيرة في ليبيا، ولتترجم ذلك في الجلسة الأخيرة لمجلس الأمن المنعقدة في 18 ديسمبر 2023، حيث لاقت هذه المبادرة ترحيبًا واسعًا داخل مجلس الأمن، عبرت عنه الدول الخمس الكبرى بمجلس الأمن على لسان مندوبيها، بل توسع نشاط الدبلوماسية الأميركية والبريطانية في دعم هذه المبادرة، أو على الأقل تقريب وجهات النظر بين أطرافها، كما هو ظاهر من نشاطاتهما وحواراتهما المنصبة في هذا الاتجاه .
وتمثلت أبرز هذه النشاطات في اللقاءات التي عقدها، خلال الأسبوع الثالث من شهر يناير 2024، كلًا من المبعوث الأمريكي ريتشارد نورلاند، والقائم بأعمال السفير الأمريكي في ليبيا جيريمي برنت، ونائب مساعد وزير الخارجية الأمريكي جوشوا هاريس، حيث عقد ثلاثتهم لقاءات مع كل من المشير خليفة حفتر، ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح، ورئيس حكومة طرابلس عبد الحميد الدبيبة، ورئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، ورئيس مجلس الدولة محمد تكالة، والمبعوث الأممي عبد الله باتيلي، والسفير المصري في طرابلس تامر مصطفى؛ وهدفت مختلف تلك اللقاءات، وفق ما تنشره السفارة الأمريكية على منصة “إكس”، إلى حث الأطراف الليبية على التجاوب البناء مع مبادرة باتيلي.
ولكن يبدو أن هذه المبادرة محكوم عليها بالفشل؛ نظرًا للأسباب التالية:
أولا، أن هذه المبادرة واجهت شروطًا صعبة، كما قال باتيلي خلال إحاطته لمجلس الأمن في ديسمبر 2023. حيث أعلن عقيلة صالح معارضته مشاركة حكومة الدبيبة في الاجتماع الذي دعت إليه المبادرة، بوصفها حكومة منتهية الصلاحية، داعيًا إلى مشاركة حكومة حماد المكلفة من مجلس النواب بدلًا عنها.
كما شدد صالح على أن القوانين الانتخابية الصادرة عن المجلس لا يجب أن تخضع للنقاش، وأن البند الوحيد الذي يجب أن يكون على جدول أعمال الاجتماع هو تشكيل حكومة جديدة مصغرة ومحددة المهام للإشراف على إجراء الانتخابات؛ وأن تشكل الحكومة بتزكية من المجلسين (النواب والدولة)، وأن مجلس النواب هو الذي يمنحها الثقة. وهو نفس موقف حفتر الذي اقترح مشاركة الحكومتين (حكومة الدبيبة وحكومة حماد) أو إقصاءهما معًا.
في المقابل، رفض الدبيبة رفضًا قاطعًا إجراء أي مناقشات بشأن تغيير الحكومة، حيث يصر الدبيبة علي أنه لن يتنحى عن منصبه الحالي إلا بعد إجراء الانتخابات، مما يعني أن حكومة الوحدة الوطنية التي يرأسها ستشرف على العملية الانتخابية المقبلة.
وطالب الدبيبة بضرورة أن تقتصر المناقشات على الوصول إلى أساس قانوني دستوري لانطلاق العملية الانتخابية ونجاحها، وهذا يتعارض صراحة مع ما حرص باتيلي على التشديد عليه في مبادرته، وأن النقاشات ستجري تحت سقف الاعتراف بالقانونين الصادرين عن مجلس النواب في أكتوبر 2023.
ويتفق موقف الدبيبة مع موقف رئيس مجلس الدولة محمد تكالة الذي يرفض القوانين الانتخابية التي أصدرها مجلس النواب، ومطالبته بالعودة إلى المسودة التي اتفق عليها أعضاء لجنة “6+6” في بوزنيقة المغربية، في ظل اتهامه لمجلس النواب بإجراء تعديلات تتجاوز ما تم التوافق عليه في اجتماعات هذه اللجنة.
ثانيا، حالة الارتباك في أداء البعثة الأممية، خاصة أن باتيلي قام بتغيير مواقفه من العملية الانتقالية أكثر من مرة. إذ أعلن منذ البداية رفضه تشكيل حكومة جديدة، معتبرًا أن هذا الأمر مضيعة للوقت، الأمر الذي تبدل في الأشهر الماضية بعدما بدأ ينادي بتشكيل حكومة موحدة للإشراف على العملية الانتقالية.
تظهر حالة الارتباك أيضًا في هذه المبادرة التي كشف عنها باتيلي بعد نحو تسعة أشهر من الإعلان عنها للمرة الأولى خلال إحاطة باتيلي المقدمة إلى مجلس الأمن فبراير 2023؛ علمًا بأن المبادرة في ملامحها الأخيرة تختلف بشكل واضح عن المسمى الرئيس لها في طرحها الأول، وفي الإشارات المتتالية إليها خلال الإحاطات والتصريحات الإعلامية اللاحقة؛
فالمبادرة منذ البداية قدمت تحت توصيف “لجنة تسييرية عليا” يشارك فيها مختلف الفاعلين من أصحاب الشأن، في حين أنها في صورتها النهائية أصبحت أقرب إلى اجتماع واحد بين الفاعلين الرسميين؛
ومن ثم فإن الآلية النهائية حصرت التأثير الفعلي على مخرجات التفاوض في القيادات الرئيسة، التي من المعلوم عدم رغبتها في مغادرة المشهد، وأنها المستفيد من إطالة أمد الفترة الانتقالية؛ بينما كان يوحي الطرح الأولي للمبادرة بأنها تهدف إلى توسيع دائرة المشاركة، لتشمل أطراف أخرى من أصحاب المصلحة، ومن ثم نزع احتكار الأطراف الحالية للأزمة والسيطرة على مسار التسوية ومخرجاتها.
ثالثا، سادت حالة من الغضب والانزعاج لدى كثير من السياسيين في شرق البلاد وغربها وجنوبها، من هذه الخطة، وخاصة من ناحية الحصر والتحديد في أعضاء محددين، معتبرين أن حالة الانقسام والانسداد لا يمكن أن تُحل بمن كان جزءًا من المشكلة، ناهيك عن اقتصارها عليهم فقط.
في هذا السياق؛ أعلن أعضاء مجلسي النواب والدولة عن المنطقة الجنوبية عن “رفض مبادرة باتيلي المعنية بمباحثات الطاولة الخماسية وذلك لعدم وجود أي تمثيل لفزان في مبادرته المقترحة”.
ويمكن القول بأن الموقف الصادر عن حكومة الاستقرار المكلفة من مجلس النواب، برئاسة أسامة حماد، هو أكثر المواقف الرافضة لهذه المبادرة تشددًا في لغة الخطاب، فلم يكتفى برفض المبادرة فقط، استنادًا إلى عدم تمثيل حكومة حماد ضمن الاجتماع، لكن يلاحظ هنا أمرين آخرين:
أولهما، أنّه لم يتحفظ فقط على تمثيل حكومة الدبيبة، لكن التحفظ طال أيضًا مشاركة المجلس الرئاسي في الاجتماع؛
والأمر الثاني، أن الانتقاد طال نزاهة المبعوث الأممي، فبعد التشكيك في إرادته و”مدى قدرته على اتخاذ القرارات الصائبة”، نوشد الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، تعيين مبعوث أممي جديد “وفق معايير الحياد والكفاءة ونزاهة الذمة”.
كما طالب قادة المليشيات العسكرية في طرابلس بوجود ممثل عنهم ضمن الاجتماع المزمع لقادة الأطراف المؤسسية (الاجتماع الخماسي)، أو استبعاد تمثيل القيادة العامة في هذا الاجتماع.
كما أصدر عمداء 56 بلدية ليبية (أغلبها في الشرق والجنوب) بيانًا رافضًا لمبادرة باتيلي، حيث اتهم الموقعون على البيان المبعوث الأممي بـ”الانحياز لطرف بعينه، لمؤازرته في اغتصاب السلطة”. كما أعلن عمداء 20 بلدية من الغرب لاحقًا تضامنهم مع البيان.
كما استبعدت دعوة باتيلي أعضاء النظام السابق (نظام القذافي)، وفي هذا الإطار، رأت بعض التقديرات أن إعلان أنصار النظام السابق الانسحاب من مشروع المصالحة الوطنية في 15 ديسمبر 2023، كان مدفوعًا في جزء منه بعدم دعوة ممثلي الفريق السياسي لسيف الإسلام القذافي لحضور الاجتماعات التي دعا إليها المبعوث الأممي.
كما كانت قبائل البربر والطوارق والتبو قد طالبت، في بيان يوم 16 ديسمبر 2023، بإشراكها في الحوار السياسي المرتقب، ودعت باتيلي إلى مراجعة مبادرته كي تشمل ممثلين فاعلين للشعوب الأصلية بما يمنع تعميق الثغرات السياسية.
رابعا، الانشغال الدولي والإقليمي بحرب غزة، حيث فرضت أحداث الحرب الإسرائيلية في غزة نفسها على قائمة أولويات المجتمع الدولي، بحيث أصبحت محورًا لحركة القوى الدولية والإقليمية منذ 7 أكتوبر 2023، وعليه حولت الاهتمام بعيدًا عن القضية الليبية أو الأزمات الأخرى في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما أثر في مبادرة باتيلي بدرجة ما، إذ إن الانشغال الدولي والإقليمي قد لا يسمح بممارسة الضغط على الأطراف الليبية للانخراط والتفاعل الإيجابي مع الدعوة للحوار.
خامسا، إعلان المبعوث الأممي، في 16 إبريل 2024، استقالته من منصبه الذي يشغله منذ سبتمبر 2022، خلفًا للأميركية ستيفاني ويليامز. وأرجع باتيلي استقالته إلى “الإحباطات الناجمة عن وصول جهود البعثة الأممية إلى طريق مسدود”.
وقال باتيلي في مؤتمر صحفي في نيويورك إنه قدم استقالته إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، معتبرًا أن المنظمة الأممية “لا يمكن أن تتحرك بنجاح” دعمَا لعملية سياسية، في مواجهة قادة يضعون “مصالحهم الشخصية فوق حاجات البلاد”.
واتهم باتيلي قادة البلاد بتحدي الجهود الدولية لإحلال السلام، والعمل على “تأخير الانتخابات بشكل دائم”، محذرًا أيضًا من أن ليبيا صارت “ساحة للتنافس الشرس” بين الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية.
…
يتبع
_______________________