3- الجزائر وتونس:

اتفق الرئيس التونسي قيس سعيد، والرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، ورئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي، على هامش قمة الدول المنتجة للغاز التي احتضنتها الجزائر في مطلع مارس 2024، على “عقد لقاء مغاربي ثلاثي، كل ثلاثة أشهر، على أن يكون اللقاء الأول في تونس بعد شهر رمضان”. ويومها بحث القادة الثلاثة “الأوضاع السائدة في المنطقة المغاربية وضرورة تكثيف الجهود وتوحيدها لمواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية بما يعود على شعوب البلدان الثلاثة بالإيجاب”.

وبالفعل، انعقدت القمة المغاربية التي جمعت القادة الثلاثة في قصر قرطاج الرئاسي بالعاصمة التونسية في 22 إبريل 2024. ووفق البيان الختامي للقمة، فقد اتفق قادة الدول الثلاث على:

أضرورة توحيد المواقف وتكثيف التشاور والتنسيق لتعزيز مقومات الأمن والاستقرار بالمنطقة، وتعزيز مناعتها، لا سيما مع بروز متغيرات ومستجدات إقليمية وأزمات دولية متلاحقة وفارقة لم يعد بالإمكان لأي دولة أن تواجه تداعياتها بمفردها.

وفي هذا السياق؛ تؤكد وسائل الإعلام الجزائرية علي أن القمة تهدف إلي تشكيل تكتل مغاربي بديل عن الاتحاد المغاربي (تأسس في فبراير 1989 في مراكش، ومعطل منذ 1994) الذي يوجد فيه المغرب عضوًا أساسيًا في ظل المناكفات الجزائرية المغربية. ورغم أن اجتماع القمة لم يشر صراحة إلى توجه لتشكيل تكتل إقليمي جديد.

ولكن من خلال أبرز مخرجاته يبشر بذلك ويضع خطوطًا عريضة له، خصوصًا أن البيان الختامي يشير إلى “صوت موحد ومسموع للدول الثلاث”، وكذلك إلى “حضور لافت وتفاعل في الانتماءات الإقليمية والدولية”. كذلك قال القادة الثلاثة، إنه “مع بروز مستجدات إقليمية وأزمات دولية متلاحقة، لا يمكن لأي دولة أن تواجه تداعياتها بمفردها”.

باتفق القادة على تكوين فرق عمل مشتركة يعهد إليها بالتنسيق لتأمين حماية أمن الحدود المشتركة من مخاطر وتبعات الهجرة غير النظامية، خاصة من دول جنوب الصحراء وغيرها من مظاهر الجريمة المنظمة.

وكانت علاقة الجزائر مع فرنسا توترت مؤخرًا على خلفية رفض الجزائر استقبال المهاجرين غير النظاميين المرحلين، وردت فرنسا بخفض عدد التأشيرات التي تمنحها قنصلياتها في الجزائر للطلاب الجزائريين الراغبين في الدراسة بفرنسا. كما أن علاقات الجزائر مع إسبانيا ساءت جدًا في العامين الأخيرين على خلفية التقارب بين مدريد والرباط والذي توج، في أبريل 2022، ببيان إسباني رسمي يعتبر مبادرة الحكم الذاتي التي يعرضها المغرب لتسوية النزاع على الصحراء الغربية بأنها “الأساس الأكثر جدية وواقعية وذو المصداقية لحل النزاع”.

وفضلًا عن كل هذا، فإن علاقات الجزائر بأوروبا الغربية، وهي شريكها التجاري الأهم والأقرب، ليست في أحسن أحوالها في ضوء التزام الجزائر الحياد بشأن الحرب الروسيةالأوكرانية، ورفضها التنديد باجتياح روسيا أراضي أوكرانية في فبراير 2022.

وهنا تبدو دلالة الفقرات التي تضمنها البيان الختامي لقمة تونس بشأن الهجرة غير النظامية وحماية وتأمين الحدود، والدعوة لتسوية سياسية في ليبيا. وهي مواضيع تحتل عادة مكانة مركزية في الحوار بين دول جنوب المتوسط المغاربية في أغلبها وبين دول الشمال المنتمية كلها لإطار مؤسسي واحد هو الاتحاد الأوروبي.

وبحكم موقعها الجغرافي المركزي في المنطقة المغاربية وامتدادها جنوبًا إلى منطقة الساحل، تبدو الجزائر مؤهلة أكثر من غيرها للاضطلاع بدور المخاطب الرئيس بالنسبة للأوروبيين بشأن هذه المواضيع في إطار مؤسسي مغاربي لا يضم المغرب.

ونقلت وكالة “فرنس برس” عن منظمات إنسانية دولية أن 5 آلاف و500 مهاجر على الأقل دفعوا من تونس باتجاه الحدود مع ليبيا، و3 آلاف آخرين نحو الحدود مع الجزائر منذ يونيو 2023. وأوضحت “فرنس برس” أن الرئيس التونسي قيس سعيد ندد بوصول “جحافل من المهاجرين غير الشرعيين من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى”، معتبرًا أنهم “جزء من خطة إجرامية تهدف إلى تغيير التركيبة الديموغرافية للبلاد”.

وجاء انعقاد هذه القمة بعد زيارة أجرتها، 18 إبريل 2024، رئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني بهدف مقايضة تونس بمساعدات مالية في ظل ما تعيشه من أزمة مالية، مقابل دفعها للعب دور الحارس البحري للبوابة الأوروبية للتصدي للمهاجرين التونسيين والأفارقة.

وكشف وزير الداخلية الإيطالي، ماتيو بيانتيدوسي، في 30 إبريل 2024، عقد لقاء سيجمعه قريبًا بنظرائه من وزراء الداخلية والمسؤولين الأمنيين في الجزائر وليبيا وتونس، في اجتماع وصفه بـ”المهم”.

وتوقع وزير الداخلية الإيطالي أن يؤدي التعاون المتزايد مع بلدان المغادرة والعبور للمهاجرين، ومن بينها تونس، إلى نتائج مهمة، مبينًا: “من المقرر أن يجرى التخطيط لمرحلة أخرى لهذا التعاون في الأيام القليلة المقبلة”. وفي هذا السياق، أعلنت وزارة الداخلية بحكومة الوحدة الوطنية تنظيم ملتقي لوزراء داخلية الدول المهتمة بقضايا الهجرة غير النظامية وأمن الحدود في 3 يوليو المقبل بالعاصمة طرابلس.

جأكد البيان الختامي للقمة ضرورة دعم الجهود الرامية لتنظيم الانتخابات بما يحفظ وحدة ليبيا وسلامتها الترابية واستقرارها. ويبدو أن هناك تخوفات مشتركة بين الدول الثلاث حيال التوتر المسلح في غرب ليبيا، وإمكانية عودة الاقتتال في طرابلس، ضمن مؤشرات على وجود تحالفات مناطقية ضد حكومة عبدالحميد الدبيبة، ما قد ينعكس بصورة سلبية علي المعابر الحدودية المشتركة.

وكان معبر “رأس جدير” الحدودي بين ليبيا وتونس قد شهد وقوع اشتباكات، في 18 نوفمبر 2023، بعد احتدام الخلاف بين حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبدالحميد الدبيبة، وبين المجلس الأعلى لأمازيغ ليبيا.

وقد تأثرت مدينة بن قردان (جنوب شرقي تونس) من إغلاق معبر رأس جدير، حيث توقفت عشرات العربات وشاحنات نقل البضائع والتجارة من الجانبين، حيث لا يسمح إلا بدخول الحالات المستعجلة والخطيرة، أو بدخول التونسيين العائدين من ليبيا، وذلك منذ إعلان القوات الليبية إغلاق المعبر. وبالتالي، فمن المرجح أن تنعكس مخرجات القمة الثلاثية إيجابيًا لإيجاد حل للخلافات الداخلية الليبية حول المعبر.

ومؤخرًا، شهدت مدينة غدامس قرب المثلث الحدودي لليبيا مع تونس والجزائر، الواقعة جنوب غربي طرابلس، تحركات عسكرية وأمنية غير مسبوقة، بعد وصول أرتال عسكرية من العاصمة، تتبع وزارة الداخلية ورئاسة الأركان بحكومة الوحدة الوطنية، قالت إن هدفها تأمين كل الشريط الحدودي مع تونس والجزائر.

وهو ما قابله المجلس البلدي لمدينة غدامس بالدعوة إلى اعتصام شامل، مطالبًا في بيان له بإخلاء المدينة مما وصفها بـ “التشكيلات العسكرية المسلحة”، مؤكدًا أن خروج هذه القوات هو مطلب كل أهالي ومكونات المدينة، الذين يتهم بعضهم القوات الجديدة بإثارة الفوضى وترويع الآمنين. وبالتالي، فمن المرجح أيضًا أن تنعكس مخرجات القمة الثلاثية إيجابيًا لإيجاد حل للخلافات الداخلية الليبية حول هذا الملف.

واتفقت لجنة مشتركة من الجانب الليبي (تتكون من الأجهزة التابعة لوزارتي الداخلية والدفاع المختصة بإدارة الحدود، ورئاسة أركان الجيش وجهاز الجمارك) وبعثة الاتحاد الأوروبي (اليوبام)، في 30 إبريل 2024، على دعم قدرات السلطات الليبية في تأمين وإدارة الحدود مع تونس. جاء ذلك خلال اجتماع بطرابلس هو الأول للجنة المشكلة وفق مذكرة تفاهم وقعتها وزارة الخارجية بحكومة الوحدة الوطنية والبعثة الأوروبية في 9 أكتوبر 2023.

ووفق بيان البعثة فإن الجانبين استعرضا “الأنشطة التي نفذتها البعثة خلال المدة الماضية، وتناولا خطتها للفترة من مايو 2024 إلى يونيو 2025 (نهاية تفويض البعثة)، بحيث يتم موائمتها مع احتياجات الجانب الليبي”. واتفق الجانبان على “أن يركز تعاونهما كمرحلة الأولى على تأمين منطقة العسة الحدودية ومعبر راس اجدير (مع تونس)، إلى جانب تقديم الدعم الفني واللوجستي للحدود البحرية”.

وسبق أن أعلن وزير الداخلية بحكومة الوحدة الوطنية عماد الطرابلسي قرب إعاة فتح منفذ رأس اجدير الحدودي مع تونس المدة القريبة القادمة بعد الوصول إلى اتفاق مع نظيره التونسي كمال الفقي. كما أكد الطرابلسي قرب فتح معبر الدبداب الحدودي مع الجزائر.

دشدد القادة على ضرورة ألا يقتصر التشاور والتنسيق بين تونس والجزائر وليبيا على الملفات السياسية فحسب، بل يشمل كل مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والأمن لتحقيق تطلعات شعوبهم المشروعة في الاستقرار والازدهار والتكامل.

وأكد القادة ضرورة التعجيل بتنفيذ مشروع الربط الكهربائي بين تونس وليبيا والجزائر، وتطوير التعاون وتذليل الصعوبات المعيقة لتدفق السلع، وتسريع إجراءات تنقل الأفراد وإقامة مناطق تجارية حرة بين الدول الثلاث.

كما اتفقوا على تكوين فريق عمل مشترك لصياغة آليات تمكن من إقامة مشاريع واستثمارات كبرى في قطاعات اقتصادية ذات أولوية كالحبوب وتحلية مياه البحر. وفي هذا السياق؛ وقعت كل من الجزائر وتونس وليبيا، في 24 إبريل 2024، على اتفاقية إنشاء آلية للتشاور حول إدارة المياه الجوفية المشتركة بينها بالصحراء الشمالية.

وتربط تونس والجزائر علاقات اقتصادية قوية، إذ تمرر الجزائر الغاز لإيطاليا عبر تونس مقابل عائدات مالية وحصة من الغاز. كما قدمت الجزائر عددًا من القروض بالعملة الصعبة لتمويل موازنة تونس في ظل الأزمة المالية التي تعاني منها. كما تربط تونس وليبيا علاقات اقتصادية متينة، لا سيما فيما يتعلق بتصدير السلع الغذائية إلى ليبيا، وتنتعش التجارة في جنوب تونس بفضل توريد السلع من الجارة ليبيا.

وفي نوفمبر 2023، زار طرابلس وفد من شركة “سوناطراك” الجزائرية المتخصصة في مجال الاستكشاف النفطي، لإعلان عودة أنشطة الشركة، التي أوقفت عملها في ليبيا منذ 8 سنوات، وزار بعدها رئيس الحكومة عبدالحميد الدبيبة الحدود الليبية الجزائرية، وأعلن نيته فتح المعبر الحدودي (غدامسالدبداب) بين البلدين.

من جانبه، قال المتحدث باسم مبادرة القوى الوطنية الليبية، محمد شوبار إن “ما يجري في منطقة حوض غدامس خلفه دول إقليمية (في إشارة للجزائر)، تهدف للسيطرة على منابع الغاز الطبيعي التي اكتشفت مؤخرًا”، مؤكدًا أن هذه الدول هي من دفعت حكومة الدبيبة للسيطرة على المنطقة عسكريًا وأمنيًا بعد إبرامها عقودًا طويلة الأجل مع حكومة طرابلس.

جدير بالذكر هنا أن هناك توجه جزائري إلى تنويع الشراكات الاقتصادية والتبادل التجاري مع جوارها المباشر. فقد أعلن الرئيس الجزائري نية بلاده إقامة مناطق للتبادل الحر مع خمس من دول الجوار، هي: موريتانيا وتونس وليبيا ومالي والنيجر، قبل نهاية 2024. وفعلًا، دشن الرئيس الجزائري ونظيره الموريتاني، في شهر مارس 2024 بتندوف، منطقة تبادل حر، يفترض أن تعزز التبادل التجاري والشراكة بين القطاع الخاص في البلدين خاصة في المجال المصرفي.

وقد أثارت هذه القمة العديد من الانتقادات، تركزت بصورة رئيسية في التأكيد علي أن عوامل نجاح تأسيس كيان مغاربي جديد قد لا تكون متوفرة، أهمها قبول الأطراف المغاربية مجتمعة بالفكرة، وهذا ما لا يمكن التسليم به. حيث تنظر المغرب إلى قمة تونس على أنها حلقة جديدة في الصراع الدبلوماسي والسياسي مع الجزائر والذي بلغ ذروته بإعلان هذه الأخيرة قطع علاقاتها بالرباط، في أغسطس 2021.

ولا يمكن النظر إلى المبادرة الجزائرية، التي تبلورت في قمة تونس، بمنأى عن مبادرة أخرى أطلقها المغرب، في 6 نوفمبر 2023، وسُميت “الاستراتيجية الأطلسية لدول الساحل”. انعقد الاجتماع التأسيسي للمبادرة، في 23 ديسمبر 2023، وحضره وزراء خارجية المغرب، البلد المضيف، ومالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

واللافت أن الدول الأربع التي لبت الدعوة المغربية كلها من دول الساحل الإفريقي وكانت منضوية في إطار إقليمي هو “مجموعة الخمس للساحل” الذي تأسس عام 2015 بمبادرة من موريتانيا، ثم انفرط عقده بإعلان مالي والنيجر وبوركينا فاسو الانسحاب منه، في 2023، على خلفية موجة الانقلابات العسكرية التي شهدتها المنطقة ورافقها بروز مزاج شعبي مناوئ لفرنسا وتوجه من المجالس العسكرية الحاكمة في البلدان الثلاثة إلى تعزيز التعاون الأمني والعسكري مع روسيا ممثلة في شركة “فاغنر” التي توفر الحماية الأمنية لهذه الأنظمة.

وبالتالي، يبدو أن المبادرتان، الجزائرية والمغربية، تركزان علي منطقة الساحل، في مسعى للتكيف مع تداعيات خروج فرنسا من منطقة الساحل الإفريقي وتعزيز مكانته لدي الشركاء الأوروبيين مخاطبًا ذا مصداقية في الملفات الأكثر حساسية وهي: الهجرة، والأمن، ومحاربة المجموعات المسلحة والجريمة.

كما تحفظت موريتانيا على الخطة الجزائرية؛ لحرصها على عدم الميل إلى أي جهة من الجهتين الكبيرتين في المنطقة، أي الجزائرية والمغربية. كذلك فأن المنفي لا يملك القرار الليبي لينضم إلى تكتل فيه خصام أو رسالة سياسية لأي طرف مغاربي، والمغرب له حضور دبلوماسي قوي في ليبيا ومنذ فترة طويلة للوساطة بين أطرافها.

ناهيك عن أن الاقتصادات المغاربية ذات اندماج ضعيف جدًا، وحجم المبادلات البينية متدن جدًا، والأقسى من ذلك أنه منذ إحداث الاتحاد المغاربي قبل 35 عامًا، لم تتغير الأمور بتاتًا.

وعليه فإن هذه القمة قد لا تسعي إلي إنشاء كيان مغاربي جديد بقدر ما تشير إلي تمكين الجزائر من لعب دور أكبر في القضيتين الليبية والتونسية، وإعادة تموضع الجزائر مغاربيًا وحتى عربيًا وإقليميًا من خلال قيادة عدد من الدول المغاربية، ويبدو أن تبون يرى أن الفرصة سانحة والوقت مناسب لتمرير مثل هذا المشروع، خاصة وأن الظروف السياسية التي تمر بها تونس وليبيا تجعلهما في موقف ضعف وفي حاجة لدعم الجزائر، فتونس تمر بوضع سياسي واقتصادي شديد التأزيم، وليبيا تعاني من انقسام سياسي وصراع على القرار السياسي والمالي، وكلاهما يحتاج طرفًا إقليميًا يتمتع نسبيًا بالاستقرار وله وزنه السياسي والاقتصادي في المنطقة.

كما أن العلاقة بين تونس والمغرب متوترة حاليًا بسبب استقبال الرئيس سعيد رسميًا زعيم جبهة “البوليساريو” إبراهيم غالي، في 26 أغسطس 2022، بالمطار الرئاسي، بمناسبة مشاركته في الدورة الثامنة لندوة طوكيو الدولية للتنمية في أفريقيا.

يتبع

_______________

مقالات مشابهة