أسماء البنا

خلاصة

مع نهايات عام 2010، شهدت المنطقة العربية موجة من الانتفاضات، والتي تجددت في 2018 في عدد من الدول، وأدت لإعادة النظر في أطروحة الاستثناء الديمقراطي العربي، مثلما نجحت في إسقاط أنظمة تسلطية متعددة في المنطقة، وقدمت فرصة لإنجاز الانتقال الديمقراطي.

إلا أنه نتيجة لعدد من العوامل الذاتية والموضوعية، تعثرت عملية الانتقال. الأمر الذي أعاد تسليط الضوء على الاستثناء العربي الديمقراطي، كما أدى إلى الارتداد السلطوي في المنطقة، وأثر على وضع الديمقراطية وحقوق الإنسان.

تناقش الدراسة تأثير فشل الانتفاضات العربية والانتقال الديمقراطي على الارتداد السلطوي، وكيف أثر ذلك على وضع الديمقراطية وحقوق الإنسان في المنطقة بعد مرور أكثر من عشر سنوات على اندلاع الانتفاضات.

اعتمدت الدراسة على تعريف الاستثناء الديمقراطي، والانتقال الديمقراطي، والارتداد السلطوي كإطار مفاهيمي، وعلى المنهج الوصفي التحليلي. وخلصت الدراسة لأن إخفاق عمليات الانتقال الديمقراطي في المنطقة أدى إلى الارتداد السلطوي وخلق أنظمة أكثر سلطوية وقمعًا أثرت سلبًا على الديمقراطية وحقوق الإنسان.

مقدمة

على مدار عقود طويلة، ظلت المنطقة العربية على هامش التحولات الديمقراطية التي شهدتها مناطق أخرى في العالم في ظل موجات التحول الديمقراطي، والتي أحدثت تغييرات عميقة في طبيعة النظم السياسية الاستبدادية وأسست تجارب من الانفتاح السياسي الديمقراطي.

بينما بقيت آفاق التحول غير مؤكدة في المنطقة العربية، الذي نُظر إليه باعتباره استثناءً ضمن موجات التحولات. مما دفع الباحثين للتساؤل عن أسباب مقاومة المنطقة للديمقراطية، وقد تعددت المقاربات التي تحاول التفسير.

وحينما بدأت أحداث الانتفاضات العربية في نهاية عام 2010، اعتقد الباحثون أنها تمثل نهاية الاستثناء العربي، وإمكانية لتحقيق الانتقال الديمقراطي في المنطقة، بعد عقود من السلطوية؛ إذ شكلت الانتفاضات العربية تحديًا للسلطوية والقبضة الأمنية والقمع والإقصاء الذي مارسته الأنظمة على مدار عقود، كما أكدت على قيم التغيير والتعبير عن الرأي والشرعية والعدالة الاجتماعية.

إلا أن انتكاسات الربيع، وفشل الانتفاضات في تحقيق التغيير وعودة السلطوية في المنطقة، سلطت الضوء مرة أخرى على أطروحة الاستثناء العربي.

تناقش الدراسة تأثير اخفاق الانتفاضات العربية والانتقال الديمقراطي على الارتداد السلطوي، وإعادة تشكل الأنظمة القديمة، ووضع الديمقراطية وحقوق الانسان في المنطقة.

وتنطلق من سؤال رئيسي: كيف أدت إخفاقات الانتفاضات العربية وتعثر الانتقال الديمقراطي إلى الارتداد السلطوي وإعادة تشكل الأنظمة القديمة؟

وللإجابة على ذلك، تطرح الدراسة عددًا من الأسئلة الفرعية:

  • هل أدى فشل الانتفاضات العربية في تحقيق مطالبها والتغيير إلى إحياء فرضيات الاستثناء في المنطقة العربية؟

  • هل شكلت الثورات العربية فرصة للتغيير أم أنها كانت لحظة لإعادة إنتاج السلطوية؟

  • كيف أثر الارتداد السلطوي على وضع الديمقراطية وحقوق الإنسان؟

وتفترض الدراسة أن فشل عمليات الانتقال الديمقراطي في المنطقة قد أدى لعودة الأنظمة القديمة، وظهور أنظمة أكثر سلطوية في المنطقة تمارس سياسات وتمتلك أدوات أكثر قمعًا، خاصة في ظل ما تعانيه المنطقة من حروب وصراعات داخلية وتدخلات إقليمية ودولية.

تستخدم الدراسة المنهج الوصفي التحليلي لدراسة العلاقة بين فشل الانتفاضات العربية والانتقال الديمقراطي والارتداد السلطوي في المنطقة العربية وتأثير ذلك على الديمقراطية وحقوق الإنسان.

والمنهج الوصفي التحليلي هو منهج يعتمد على جمع كم من البيانات والمعلومات لتوضيح وتحليل العلاقة بين متغيرات البحث (التي تتمثل في هذه الحالة في تعثر الانتقال الديمقراطي والارتداد السلطوي) في صورة أسئلة وفروض، يلي ذلك استخراج النتائج وتحليل العلاقة بين المتغيرات.

تنقسم الدراسة إلى ثلاثة محاور؛

أولًا الإطار المفاهيمي ويتضمن تعريف ومناقشة ثلاثة مفاهيم تعتمد عليها الدراسة: الاستثناء الديمقراطي العربي، والانتقال الديمقراطي، والارتداد السلطوي.

ثانيًا تتناول الدراسة الانتفاضات العربية من حيث التطور والمسارات المختلفة.

وثالثًا تناقش الدراسة عوامل فشل الانتقال الديمقراطي وكيف أدى ذلك إلى

الارتداد السلطوي وتأثير ذلك على الديمقراطية وحقوق الإنسان في المنطقة العربية بعد أكثر من عشر سنوات على الانتفاضات العربية.

تأتي تلك الدراسة في سياق عدد من الأدبيات التي تناقش الانتفاضات العربية والانتقال الديمقراطي وتسلط الضوء على عدد من الأسئلة؛ إذ تناقش بعض الدراسات الانتفاضات العربية من حيث الأسباب والمسارات، فيما يناقش جزء آخر عملية الانتقال الديمقراطي في دول المنطقة ومحدداتها، في حين تناول قسم آخر عوامل تعثر الانتقال الديمقراطي ونتائج هذا التعثر.

وقد خلصت الدارسات إلى أن الانتفاضات العربية التي اندلعت في 2010 مثلت فرصة تاريخية للتغيير، ولتحقيق الانتقال الديمقراطي وتفكيك السلطوية الراسخة في المنطقة؛ إلا أنه ومع تعدد مسارات عملية التحول بعد سقوط رؤوس النظام السلطوية، وبسبب عدد من الأسباب الذاتية والموضوعية، فشلت عملية الانتقال الديمقراطي وفشلت الانتفاضات في تحقيق التغيير السياسي والاقتصادي المنشود.

في ضوء ذلك تناقش الدراسة كيف أدى تعثر عمليات الانتقال الديمقراطي في المنطقة، بعد أكثر من عشر سنوات على الانتفاضات العربية، إلى الارتداد السلطوي وإعادة تأسيس الأنظمة القديمة في المنطقة في ظل آخر التطورات في المنطقة العربية.

الإطار المفاهيمي

تناقش الدراسة تأثير إخفاق الانتفاضات العربية على الارتداد السلطوي وإعادة تشكل الأنظمة السلطوية، وكذلك وضع الديمقراطية وحقوق الإنسان في المنطقة العربية. في هذا السياق تعتمد الدراسة على تعريف مفهوم موجات التحول الديمقراطي والاستثناء الديمقراطي العربي، والانتقال الديمقراطي، والارتداد السلطوي والأنظمة السياسية الهجينة لتحليل الإشكالية الرئيسية.

موجات التحول الديمقراطي والاستثناء العربي

في كتابه «الموجة الثالثة» يشير هنتنجتون إلى ثلاث موجات من التحول الديمقراطي.

بدأت الموجة الأولى نظريًا مع الثورتين الفرنسية والأمريكية، إلا أن الظهور الفعلي للمؤسسات الديمقراطية كان في القرن التاسع عشر حينما توسعت دول أوروبا والأمريكيتين في منح حق التصويت للمواطنين والنساء وتطوير النظم الانتخابية والرقابية.

ومع الحرب العالمية الثانية بدأت الموجة الثانية وأدى انتصار الحلفاء لدفع عملية إنشاء مؤسسات ديمقراطية في ألمانيا الغربية وإيطاليا والنمسا واليابان وكوريا.

وفي أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، تحولت كل من تركيا واليونان باتجاه الديمقراطية، وفي أمريكا اللاتينية تحولت كل من البرازيل وكوستاريكا إلى الديمقراطية.

وفي الخامس والعشرين من أبريل 1974، شهدت البرتغال انقلابًا أنهى حكم الدكتاتور مارسيلو كايتانو وسط تأييد شعبي وجماهيري. وقد مثّل هذا الانقلاب بداية الموجة الثالثة من الديمقراطية.

وفي السنوات الخمسة عشر التي تلت ذلك، حلت النظم الديمقراطية محل النظم الشمولية والتسلطية في حوالي ثلاثين دولة في أوروبا وآسيا وأميركا اللاتينية. وفي دول أخرى، حصلت الحركات الداعية إلى الديمقراطية على أرضية جديدة وشرعية في الوجود، ورغم وجود بعض المقاومة والانتكاسات والموجات المضادة، إلا أن التحرك باتجاه الديمقراطية تحول إلى مد عالمي وحقق انتصارات عديدة.

برغم ذلك، بقيت الدول العربية منيعة أمام الموجات الثلاث للديمقراطية، وأدى ذلك إلى الحديث عن الاستثناء الديمقراطي العربي. فمقارنة مع مناطق أخرى من العالم مثل شرق آسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، لم تحقق البلدان العربية تقدمًا إلا بمقدار محدود على صعيد الديمقراطية.

وقد أرجعت العديد من أدبيات التحول الديمقراطي في التسعينيات ظاهرة الاستثناء الديمقراطي العربي إلى عوامل ثقافية تتعلق بما تزعم أنه خلل بنيوي أصيل في طبيعة الدين الإسلامي والثقافة العربية الاستبدادية الأبوية، مما شكل ثقافة الأفراد في النهاية.

وهو ما تم استخدامه لاحقًا من جانب الغرب والولايات المتحدة للتدخل في المنطقة بدعوى تصدير الديمقراطية، مثلما حدث في العراق في 2003.

في مواجهة تلك النظريات أحادية الجانب، يشير برهان غليون لتأثير عدد من العوامل الجيوسياسية والاقتصادية والاجتماعية والدولية على التحول الديمقراطي في المنطقة.

هناك بالتأكيد مكان للثقافة في تفسير واقع الحياة السياسية، حتى لو لم يكن أثر العامل الثقافي حاسمًا في إقامة النظم التسلطية. إلا أنه يجب التركيز على التفاعل بين العوامل الجيوسياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، وهو الإطار الأدق لتفسير تفاقم الأوضاع السياسية العربية، وليس وضع عامل في مواجهة عامل آخر؛

وذلك لفهم إشكالية الديمقراطية في البلدان العربية، والتي ينبغي النظر إليها كعملية تاريخية ومستمرة تتضمن عمليات البناء والتدمير وإعادة التشكيل بشكل أعقد مما تفترضه النظريات الأحادية.

في هذا السياق تعددت المقاربات التي تفسر التعثر الديمقراطي في المنطقة العربية، فبعض الباحثين يرى أن دور الأجهزة القمعية وقدرتها على القمع والإكراه كان السبب الرئيسي في الحفاظ على الأنظمة السلطوية، وذلك من خلال عدد من المتغيرات تتمثل في استحواذ تلك الأجهزة على الجزء الأكبر من الموارد المالية واستمرار الدعم الدولي للمؤسسات الأمنية وأدوارها لضمان مصالح القوى الدولية في المنطقة، وانخفاض درجة مؤسسية تلك المؤسسات وميلها للمحسوبية والزبائنية

بينما يعتقد اتجاه آخر أن الثروة النفطية كانت وراء التعثر الديمقراطي، إذ تستخدم دول النفط في المنطقة عائدات النفط لتدعيم سلطتها؛ فالعائدات النفطية تغني الدولة عن الحاجة لتحصيل الضرائب، وبالتالي المسائلة من قبل المواطنين. وتستغل الدولة تلك العائدات لتقديم الدعم لفئات واسعة لتعزيز الولاء والإذعان للنظام القائم، ومنع تشكل قوى مستقلة تطالب بالحقوق السياسية

بينما يُرجع البعض غياب الديمقراطية في المنطقة للثقافة السائدة؛ إذ أنها تتسم بغلبة الطابع الأبوي على العلاقات الاجتماعية الذي يتعدى إلى النظام السياسي، ويلقي هذا الاتجاه تهمته أساسًا على الإسلام، باعتباره المكون الأساسي للثقافة في الشرق الأوسط والمنطقة العربية، انطلاقًا من أن قيم الإسلام لا تساعد على قيام الديمقراطية، ولا يفرق بين المجتمع الديني والمجتمع السياسي.

وقد وجهت لهذا الاتجاه عدة انتقادات ناتجة من كونه اتجاه استشراقي يحمل في طياته ميول المركزية الإثنية والعرقية والاستعلائية التي تقدم الغرب كنموذج متفوق في حين ينظر بدونية إلى الشعوب الأخرى

بينما يرى الاتجاه الرابع أن غياب الديمقراطية كان نتيجة دعم القوى الدولية الكبرى للأنظمة التسلطية في المنطقة؛ معتقدًا أن السياسة الأمريكية على وجه الخصوص قد أثرت بشكل سلبي خلال الحرب الباردة بدعمها للحكام الديكتاتوريين في مناطق مختلفة من العالم كالجنزال أناستازيو سوموزا في نيكاراغوا ومحمد رضا بهلوي في إيران لإبقاء دولهم خارج دائرة الشيوعية. وينطبق ذلك على المنطقة العربية والشرق الأوسط.

فعلى مدار سنوات، قدمت الحكومات الأمريكية المختلفة منحًا ومساعدات للأنظمة التسلطية، بسبب تركز ثروات النفط والغاز في المنطقة العربية، وموقعها الاستراتيجي مع وجود إسرائيل في قلب مصالح القوى الكبرى وساحة للتنازع بينها، الأمر الذي أثر بالسلب على فرص إقامة أنظمة ديمقراطية بفعل دعم هذه القوى، المادي والمعنوي، للأنظمة التسلطية الموالية التي تخدم مصالحها.

يتبع

***

أسماء البنا ـ باحثة في مؤسسة حرية الفكر والتعبير، وباحثة دكتوراه في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة.

________________

مقالات مشابهة