ثالثًاالتدخلات الدولية:

تستمر التدخلات الدولية في ليبيا، خاصة من قبل روسيا التي زادت من تحركاتها بهدف تثبيت نفوذها داخل ليبيا. وفي المقابل، بدأت الولايات المتحدة الأمريكية تزيد من نشاطها لمواجهة هذا النفوذ الروسي من جهة، والحفاظ علي مصالحها وحلفائها الأوروبيين (إيطاليا وفرنسا بصورة رئيسية) من جهة أخري.

1- روسيا:

تسعي روسيا إلي إنشاء هيكل عسكري جديد تحت مسمي “الفيلق الأفريقي” مقره المركزي في ليبيا، يحل مكان مرتزقة “فاغنر” لكن تحت مظلة رسمية. حيث أعلنت وزارة الدفاع الروسية البدء بخطوات تشكيله رسميًا بالتزامن مع إعلان الأمم المتحدة الكامل انسحابها من مالي، التي عززت روسيا وجودها فيها من خلال مجموعة “فاغنر” للمرتزقة.

فعلي عكس فاغنر التي كانت شركة خاصة، فإن الفيلق سيمول ويدار مباشرة من الدولة الروسية. وتشير التقارير إلي أنه سيضم ما بين 40- 45 ألف مقاتل بجنسيات مختلفة منها السورية وجنسيات أفريقية، وسيتكون من فرق عسكرية قد تصل لخمس فرق بحسب القدرات القتالية، توزع بين ليبيا وبوركينا فاسو ومالي والنيجر وجمهورية أفريقيا الوسطي، علي أن يكون مركزه في شرق ليبيا حيث تسيطر قوات حفتر.

ورغم أن قوات حفتر لم تعقب علي هذه المعلومات إلا أن نائب وزير الدفاع الروسي يونس بك يفكوروف (وهو المسئول المباشر عن الفيلق الأفريقي) التقي بحفتر في أغسطس ببنغازي وفي موسكو نهاية سبتمبر 2023. وجاء اختيار ليبيا لموقعها علي البحر المتوسط والذي يضمن خطوط إمداد عسكرية وانتقال المقاتلين من وإلي الدول الأفريقية، كما أن نشاط عناصر فاغنر كان متمركزًا في مدينة سرت الليبية.

وفي سياق متصل، كشفت صحيفة “تاغسشو” الألمانية في تقرير لها، في 4 إبريل 2024، عن مخاوف أوروبية من إنشاء قاعدة بحرية عسكرية روسية في ليبيا في خضم التوتر بين الغرب وموسكو بسبب الحرب في أوكرانيا. حيث أشارت الصحيفة لرسالة داخلية من وزارة الخارجية الألمانية في نهاية مارس 2024 تعبر فيها برلين عن قلقها المتزايد من الجمود السياسي في ليبيا والوجود الروسي المتنامي مشيرة لمعلومات تداولتها خدمة العمل الخارجي الأوروبية التابعة للاتحاد الأوروبي بشأن زيادة في تسليم المواد الثقيلة والخطط المحتملة لإنشاء قاعدة بحرية روسية.

وتؤكد الخارجية الألمانية وفق نفس الوثيقة لنشاط مجموعات فاغنر الروسية في ليبيا والتي يعتقد أنها ستتوسع في الربيع الحالي وذلك بالتزامن مع تأسيس قاعدة عسكرية في سرت بإشراف من حفتر وبالتعاون مع المستشارين الروس.

ويشير التقرير لدور قائد فاغنر الحالي الجنرال الروسي أندريه أفريانوف الذي يشرف على القوات التي تعمل في ليبيا وفي أفريقيا والتي أطلق عليها تسمية “فيلق المشاة” أو “فيلق أفريقيا” حيث زار الجنرال الروسي دولًا أفريقية من بينها ليبيا لبحث الأوضاع هناك في ظل صراع محتدم مع الغرب.

فيما أفادت صحيفة “لوبون” الفرنسية إلى رسو سفينتي “إيفان غرين” و”ألكسندر أوتراكوفسكي” التابعتين للأسطول الشمالي للبحرية الروسية في ميناء طبرق قادمتين من قاعدة طرطوس البحرية الروسية في سوريا، وأن هاتين السفينتين محملتان بمعدات لوجستية وأسلحة مدفعية تجهيزًا لنشر “الفيلق الأفريقي”، وهي المعدات نفسها المرسلة إلى النيجر وبوركينا فاسو.

وبحسب بعض التقارير، فإنه – حتي 16 إبريل 2024 – تم إرسال خمس دفعات على الأقل من التجهيزات العسكرية الروسية التي وصلت إلى طبرق.

وكان خليفة حفتر قد التقي مع نائب وزير الدفاع الروسي، يونس بك يفكيروف (المسئول عن الفيلق الأفريقي)، في بنغازي، في 2 ديسمبر 2023 (وهو اللقاء الرابع منذ أغسطس 2023، حيث كان الأول في بنغازي في 23 أغسطس، والثاني في بنغازي في 17 سبتمبر، والثالث في موسكو في 27 سبتمبر، والرابع في بنغازي في 2 ديسمبر).

وتهدف روسيا من خلف هذه التحركات إلي:

أيبدو أن الوجود الروسي في شرق ليبيا، والذي يقدر بين 1000 و1500 فرد، سيركز على توفير خدمات الأمن والتدريب لقوات حفتر، بجانب حماية المصالح والاستثمارات الروسية. كما يبدو أن القاعدة الجوية الروسية في منطقة “الجفرة” في الجنوب الليبي تسهل الرحلات الجوية العسكرية الروسية، إذ تكون بمثابة محطات توقف قبل التوجه جنوبًا إلى دول أفريقية أخرى، كما أنها تمكن روسيا من إحراز التفوق الجوي في سماوات النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو وجمهورية أفريقيا الوسطى والسودان.

كذلك فإن ميناء “طبرق” الذي تستخدمه روسيا كقاعدة بحرية تمكنها من التواصل العسكري في مياه البحر المتوسط الدافئة حيث قاعدتها البحرية في طرطوس ما يهدد الجناح الجنوبي لدول حلف شمال الأطلسي (الناتو).

بتهتم روسيا بالموارد الليبية، خاصة بما يتوافر لديها من خبرة في قطاع الطاقة الذي تزخر به ليبيا. ففضلًا عن الرغبة الروسية في محاولة استعادة بعض العقود التي تقدر بمليارات الدولارات، والتي كانت قد أبرمتها مع نظام الرئيس الليبي الأسبق معمر القذافي، فهي تنظر إلى شرق ليبيا باعتباره منبعًا مهمًا للنفط، من خلال 46.4 مليار برميل من احتياطي النفط المؤكد، الذي يعد الأكبر في أفريقيا والعاشر عالميًا، وتمتلك موسكو إمكانية الوصول إلى منشآت النفط الرئيسة في ليبيا؛ خاصة أن قوات حفتر تسيطر على العديد من هذه المنشآت.

جتشكل ليبيا دولة ذات أهمية كبرى بالنسبة للكثير من القوى الدولية، خاصة الدول الأوروبية؛ فهي تتمتع بأهمية جيواستراتيجية بالنسبة إلى الأمن الإقليمي الأوروبي، خاصة أن مئات الآلاف من المهاجرين صوب الشواطئ الأوروبية يتحركون عبر السواحل الليبية، فضلًا عن أن بعض جماعات العنف والإرهاب، مثل داعش والقاعدة، تتخذ من ليبيا ملاذًا آمنًا لها. وبالتالي، يمثل شرق ليبيا فرصة ذهبية لروسيا لجعلها منطقة نفوذ في منطقة جنوب أوروبا، عبر التحكم في ملفين استراتيجيين بالنسبة لأوروبا، الطاقة والمهاجرين، حيث سيكون بإمكان الروس الضغط على دول الاتحاد الأوروبي، من خلال هذين الملفين، في مواجهة ملفات أُخرى مثل جزيرة القرم، والعقوبات المفروضة على روسيا بعد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.

ديجري على الأرض الليبية ما يمكن تسميته “حرب القواعد العسكرية”. حيث تمتلك تركيا حشدًا عسكريًا متزايدًا في قاعدة عقبة بن نافع، بمنطقة الوطية الليبية، سعيًا منها إلى وضع نقطة ارتكاز تمنحها الأفضلية في شمال أفريقيا. كما تحاول فرنسا الدخول على خط المنافسة، حيث تريد أن تقيم قاعدة في فزان، تكون منطلقًا لها للقيام بعمليات عسكرية في منطقة الصحراء الكبرى الأفريقية، وفي دول الساحل الأفريقي خاصة التي تمردت على الوجود الفرنسي داخلها. ومن ثم يأتي الشرق الليبي، الذي يشهد سيطرة روسية علي قاعدتي القرضابية الجوية وسرت البحرية.

2- الولايات المتحدة الأمريكية:

وفي ضوء هذه التحركات الروسية، فقد سعت الولايات المتحدة في الفترة الأخيرة إلي تفعيل وتنشيط دورها في الملف الليبي، سياسيًا وعسكريًا، لمواجهة هذه التحركات، وهو ما ظهر في:

أأفادت شبكة “سي.إن.إن” الإخبارية بأن وزارة الخارجية الأميركية طلبت في موازنة العام 2025، تخصيص مبلغ 12.7 مليون دولار لتمكين استئناف أعمال السفارة في ليبيا وتوفير النفقات التشغيلية لعمليات السفر والدعم الدبلوماسي من تونس. وكذلك زيادة استخدام الطائرات المخصصة المتمركزة في مالطا للرحلات الجوية إلى طرابلس. وكانت الولايات المتحدة قد أغلقت سفارتها في طرابلس عام 2014 بسبب هجوم أدى لمقتل السفير الأميركي جيه كريستوفر ستيفنز وثلاثة أميركيين آخرين. ويعمل المبعوث الأميركي الخاص لليبيا ريتشارد نورلاند من العاصمة التونسية ويقوم بزيارات عابرة إلى ليبيا .

وكانت واشنطن قد أنهت حالة عدم الاستقرار الخاصة بمنصب السفير؛ فبعد ترك ريتشارد نورلاند المنصب، واقتصاره على تولي منصب مبعوث الرئيس الأمريكي إلى ليبيا، كُلِّفَ ليزلي أوردمان بعمل السفير بالإنابة في سبتمبر 2022، ثم في أكتوبر من العام التالي خلفه جيريمي برنت في منصب القائم بأعمال السفير، دون أن يُعيَّن سفير دائم. وفي يناير 2024، سعت إدارة بايدن إلى إنهاء الوضع المعلق لمنصب السفير، من خلال ترشيح السفيرة جينفر جافيتو، وهو القرار الذي ينتظر مصادقة مجلس الشيوخ الأمريكي.

بتعيين الأمريكية ستيفاني خوري نائبة للمبعوث الأممي عبدالله باتيلي للشئون السياسية، في أول مارس 2024. وقد يتأتى النظر إلى تعيين “خوري” بوصفه يهدف إلى السيطرة على مجريات عملية التسوية، نتيجة القياس على تجربة ستيفاني ويليامز، التي تحمل الجنسية الأمريكية أيضًا، وعُينت أيضًا في ذات المنصب بقرار من الأمين العام للأمم المتحدة؛ وسرعان ما أصبحت، بعد فترة من توليها منصبها، المتحكم الأهم في عملية التسوية الليبية، لاسيما مع استقالة المبعوث الأممي السابق غسان سلامة في مارس 2020. وبالنظر إلي إعلان المبعوث الأممي عبدالله باتيلي استقالته، فإن خوري عمليًا ستكون هي الطرف المخول بقيادة عملية التسوية السياسية في ليبيا.

جعقد لقاءات متعددة مع الفاعلين العسكريين والأمنيين الرئيسين في شرق ليبيا وغربها،. فقد التقى الملحق العسكري بالسفارة الأمريكية، رئيس مكتب المشير حفتر، وبعض قيادات القيادة العامة في بنغازي بتاريخ 8 فبراير 2024؛ وفي 23 فبراير التقى القائم بأعمال السفير، جيريمي برنت، قيادات من قوات حفتر في بنغازي أيضاً؛ وفي نهاية الشهر أجرى الملحق العسكري الأمريكي لقاءً مع كبار القادة العسكريين التابعين لحكومة طرابلس؛ فضلًا عن زيارة مقر اللواء 444، ولقاء قائده العميد محمود حمزة؛ ثم لقاء المبعوث الأمريكي ريتشارلد نورلاند والسفير جيريمي برنت بوزير داخلية حكومة طرابلس عماد الطرابلسي في 7 مارس.

وأخيرًا، زيارة وفد ملحق الدفاع الأمريكي إلى مدينتي مصراتة والخمس مطلع الأسبوع الثاني من شهر أبريل، حيث جرت زيارة مقر “المنطقة العسكرية الوسطى، وقاعدة الخمس البحرية، ومختلف القوات العسكرية المهمة، وقوات مكافحة الإرهاب”.

دقيام شركة أمنية أميركية خاصة في طرابلس بتوفير التدريب العسكري للجماعات المسلحة من أجل دمجها في المؤسستين العسكرية والأمنية في غرب ليبيا الذي تديره حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبدالحميد الدبيبة. وهذه الشركة هي شركة “امونتيوم” (Amentum) الأميركية الناشطة في المجال الأمني ​​والتابعة لوزارة الخارجية والدفاع الأميركيين، وقد تم إنشاؤها في عام 2020 لتخلف الشركة العسكرية DynCorp التي عملت أيضًا مع الوزارتين والتي قدمت التدريب لقوات الأمن في العراق وأفغانستان وغيرها. وسيكون مقر أمنتيوم في ليبيا بموجب عقد مع حكومة الدبيبة، وسيكون رجالها في قاعدة “معيتيقة” العسكرية في طرابلس التي أصبحت الآن خالية من وجود الميليشيات122.

وفي حين يري البعض أن هذه التحركات الأمريكية محدودة، ولا يمكن أن تنجح في إخراج “فاغنر” من ليبيا، لكن المسئولين الأمريكيين يفسرون محدودية تحركاتهم بأن “التغلغل الروسي في شرق ليبيا لا يزال تحت السيطرة”.

فمنذ سنوات، تتمركز في معسكر بضواحي مدينة بنغازي قوة من الجيش الأميركي، تتكون من عشرات الضباط ومعززة بأفراد من وكالة المخابرات المركزية الأميركية (CIA) وبأجهزة تتبع وتنصت ومراقبة للطيران المسير، في مقابل وجود قوة مماثلة من المخابرات الأميركية في طرابلس.

ومن واقع التحركات الأمريكية، يمكن تحديد “بنك أهداف” الدور الأمريكي في خلال المرحلة المقبلة في نقاط محددة؛

أولها، إعادة صوغ المشهد الأمني داخل العاصمة طرابلس، وداخل مدن المنطقة الغربية في مرحلة لاحقة.

وثانيها، إنهاء الانقسام الحكومي القائم.

وثالثها، تنشيط مسار التسوية السياسية، عبر تدشين آلية حوارية جديدة، ربما على غرار ملتقى الحوار الوطني الذي أطلقته الأمريكية ستيفاني ويليامز في السابق، وذلك بغض النظر عن مآل نجاح تلك الآلية وحدوده.

ورابعها، كبح تنامي النفوذ العسكري الروسي في شرق ليبيا.

ويرتبط تحقيق الهدفين الأول والثاني بالتفاعلات على المدى القصير جدًا، في حدود الأسابيع المقبلة؛ ومن المرجح تحقيق تقدم جوهري في هذين الهدفين.

أما الهدفين الثالث والرابع فيرتبط تحقيقهما بالتفاعلات على مدى زمني أوسع، ولا توجد ضمانات لمقدار النجاح الذي يمكن تحقيقه بشأنهما.

وفيما يتعلق بالعلاقة مع حكومة الدبيبة، فعلي الرغم من تعزيز الشراكة بين حكومة عبدالحميد الدبيبة والولايات المتحدة عقب تسليم الحكومة أحد الضالعين في التخطيط لإسقاط طائرة “بانام” الأميركية عام 1988 فوق بلدة “لوكربي” بأسكتلندا، وهو ضابط المخابرات الليبي السابق أبو عجيلة المريمي، لكن مؤخرًا أكدت سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، ليندا توماس جرينفيلد، على أهمية إجراء انتخابات ديمقراطية.

ثم أضافت أنه لتحقيق هذه الغاية نحن منفتحون على دعم تشكيل حكومة تكنوقراط مؤقتة، يكون هدفها الوحيد قيادة ليبيا نحو انتخابات حرة ونزيهة، ويشير هذا الموقف أن واشنطن ستؤيد استبدال عبدالحميد الدبيبة في الحكومة الجديدة في طرابلس في حالة التوافق على تشكيل حكومة موحدة.

ويعود هذا الموقف الأمريكي في جزء منه إلي انزعاج واشنطن من مواقف حكومة الوحدة الوطنية المساندة لغزة والمقاومة الفلسطينية، والمتمثلة في إعلان الحكومة في وقت سابق عن تخصيص 50 مليون دولار كمساعدات للقطاع. بجانب وصف الدبيبة لما يجري في غزة بأنه “جرائم حرب وإبادة جماعية، ووصمة عار يسطرها التاريخ على جبين الاحتلال وداعميه”.

كما أن الإدارة الأميركية تعتبر الوجود الصيني الاقتصادي في ليبيا منافسًا لها، خاصة بعدما وجه وزير الاقتصاد والتجارة بحكومة الوحدة الوطنية محمد الحويج الإدارات المختصة بالوزارة بتقديم التسهيلات للشركات الصينة الراغبة بالعمل بالسوق الليبي وحلحلة المشكلات والعقبات التي تواجهها في استئناف عملها.

وكانت وزارتا الاقتصاد الليبية والصينية قد اتفقتا في ديسمبر 2023 على تشكيل فريق عمل من الإدارات والجهات التابعة يضع آلية عمل مشتركة لتسهيل عودة النشاط الاقتصادي والتجاري بين البلدين.

______________

مقالات مشابهة